«إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح» - [غسان كنفاني]
هتلر حي
لقد صدم أبراهام بورغ المسلمات الصهيونية الأساسية، في كتابه «لننتصر على هتلر» الذي شبه فيه دولة الاحتلال بـ«البلطجية والإمبريالية» ودعا إلى إلغاء تعريفها باسم «دولة يهودية» لأنها لا تختلف برأيه عن ألمانيا «عشية صعود أدولف هتلر إلى الحكم». واليوم نقرأ عبارة «يجب محو حوارة»، لم يكتب هذه التغريدة غوبلز وزير الدعاية في الحكومة النازية، بل كتبها سموتريتش وزير المالية في الحكومة الصهيونية. البيوت والأشجار والسيارات المحروقة في حوارة، مشهد مكرر يستعيد التجربة الهتلرية، تماهي بين «حركة كاهانا حي»* أو هتلر حي! ولا فرق، هي متلازمة الانتقام ذاتها تكشفها علاقة النازية الأبوية بسلوك المستوطنين وقادة الكيان وسياسته وقوانينه العنصرية بلغة النفي والإقصاء والخليط الخرافي وغير الواقعي للسياسة، استنساخ للتاريخ ومحاكاة بين النكبة المتواصلة، وهوس المحرقة. من الذاكرة التي نبشتها حوارة وبورين وعصيرة القبلية وغيرها، إلى إحراق عائلة دوابشة ومحمد أبو خضير والمسجد الأقصى ومجزرة الحرم الإبراهيمي، وغيرها، قبل النكبة وبعدها.

دولة المحرقة
عندما تصل نشوة الحرق والحريق والمحرقة إلى هذه الدرجة من التباهي تكون الكارثة، يصبح لزاماً على المهتمين بالتحليل النفسي لسر الإعجاب بارتكاب الجريمة، حين يعبّر أحد هؤلاء المعتوهين عن الصورة بالقول «حوارة مغلقة ومحروقة، هذا ما أريد أن أراه. وهكذا فقط سنحقق الردع». ويصف حرق القرية بـ«الجيدة»، وأنّها تستحق «الكثير من الإعجاب». وتكثر التساؤلات حول هذا السلوك هل هو من فعل مجانين جنوناً مدعوماً رسمياً؟ وصلت بأحد المحتجين داخل الكيان إلى المطالبة بتحرير دولة إسرائيل من الجنون ومن المجانين. ممارسات ذهبت بالأسئلة إلى مداها الأخير، عن ماهيّة الصهيونية في هذا العصر، هل أصبحت أكثر تطرفاً وعنصرية وعنجهية وجذرية! أم أنها في الأصل هي كذلك، هل آن الأوان للتعبير عن حقيقتها؟ حقيقتها بوضوح، من دون أي أقنعة زائفة؟ أم أنها جرعة إضافية لحماية الذات أو آليات دفاعية غريزية عن الوجود في وقت يتعاظم فيه القلق الوجودي. هي أسئلة تطرح مصير الدولة المحرقة.

روح النكبة
لا شك أنه كلما تصاعد فعل المقاومة ضد الاحتلال، يزداد فيه القلق الصهيوني الوجودي، الذي هو نقطة الضعف في حلقة القوة لديه، وبالقدر الذي يتصرف فيه على قاعدة أنه مشروع «جذري» ونهائي ولكن بالقناعة العميقة لم يعد مشروعاً محسوماً بالكامل وفي منطقة قلقة ومتفجّرة. جرت تحوّلات عميقة، ديموغرافية واجتماعية، راحت تحدث داخل المجتمع الصهيوني منذ منتصف الثمانينيات. وانطلقت حملة أيديولوجية واسعة مبنية على «الخطر الوجودي». أن يحيي قيم الصهيونية ويعيد تربية الجيل الفتي بروح النكبة وإعادة إنتاج ثقافة الاقتلاع، كما جرى في حرب عام 1948؛ حرق البيوت والمحاصيل والممتلكات، هدم القرى وتدمير المباني بحجج واهية. واتّخذت هذه الحملة أبعاداً جديدة، الأمر الذي دفع البعض إلى الحديث عن تحوّل في الصراع، وأن «إسرائيل» صارت تشهد، منذ ذلك التاريخ، ولادة صهيونية جديدة واحتلال موقع الضحية والقمع معاً اللذين يتحوّلان إلى مبرر للوجود. والعودة إلى مزيد من الصهيونية أي منابع الصهيونية نفسها والأسس التي قامت عليها.
«إسرائيل» الثالثة
ضمن فيلم وثائقي «ولد في دير ياسين» حيث أخذ الجنود الإسرائيليون القتلى الفلسطينيين، وجعلوهم في كومة واحدة، ثم أحرقوهم وبدت الرائحة الكريهة! جاء ذلك ضمن اعترافات بعض من شاركوا في مذبحة دير ياسين على يد عصابات إيتسيل وليحي والهاغاناه، والبلماخ وشتيرن، وبلغ عدد ضحايا المذبحة 110 فلسطينيين، بينهم نساء وأطفال وشيوخ. إنها إسرائيل الأولى التي ولدت في دير ياسين ومن روح حرب عام 1948. حرب العصابات التي أنشأت الكيان، بل إن إسرائيل الأولى على يد الصهيونية العمالية الدموية في خوضها الحروب من أجل الأرض لتثبيت الكيان، ولحل عقدة الوجود بمزيد من العدوان، لكن «إسرائيل» الثانية: التي أعادها اليمين الليكودي تحديداً إلى نهج جوبتينسكي، دولة يهودية، يعني كنس الروح العربية من أرض «إسرائيل»، كحل مثالي لأزمة الوجود. لقد أفضى التحول إلى «إسرائيل» الثالثة: الصهيونية الدينية/القومية، السلطة الدينية العنصرية، دولة تسير عكس اتجاه حركة التاريخ. دعاة حسم الصراع... ولكن كيف؟ بحرب العصابات الجديدة/القديمة.

درس «ألتلنا»
بعد قيام الدولة، اختلف الأمر، وعندما رفض عناصر «أيتسل» تسليم السلاح الذي على متن السفينة «ألتلنا» إلى الجيش، جرت مفاوضات لتسليم الأسلحة في منطقة القدس حيث كانت «إيتسل» تتمتع بنفوذ واسع، لكن بن غوريون اعتبر هذا التوجه والمطلب نوعاً من العصيان على أوامر الدولة وأوامر الحكومة الساعية إلى تأكيد وحدة القوات الإسرائيلية في جسم عسكري واحد تحت قيادة واحدة. وأصدر أوامره في حينه، بقصفها. وخلال تبادل لإطلاق النيران بين الطرفين قتل 16 عنصراً من «إيتسل» و3 من الجيش. «الدرس» أنه إيذان بانتهاء زمن العصابات المسلحة وبداية زمن المؤسسة-الدولة-الجيش.
بالمناسبة، ففي ذكرى «ألتلنا» اعتبر نتانياهو أن قرار بن غوريون بقصف السفينة «متسرع وخاطئ» معللاً ذلك بعدم ثقة الحكومة الإسرائيلية الناشئة في حينه بصلاحياتها، وبدافع التشكك وعدم الثقة. وهذا الكلام اعتبر بداية مساً بالمسلمات الصهيونية والانقلاب على «ألتلنا» وبداية عهد جديد من الميليشيات.
كلما تصاعد فعل المقاومة ضد الاحتلال، يزداد القلق الصهيوني الوجودي، الذي هو نقطة الضعف في حلقة القوة لديه


دولة الميليشيات
الصهيونية الجديدة تعيد الأسس اللاأخلاقية التي قامت عليها الدولة، عودٌ على بدء، حين يتم تحويل حرس الحدود بأكمله إلى الحرس الوطني، كميليشيات رديفة لـ«جيش الدفاع الإسرائيلي»، وما دلت عليه الأحداث الأخيرة أن هذه العصابات الإرهابية مشرّعة ومدعومة ومحمية من الحكومة الصهيونية، التي تعيث إرهاباً بالضفة وفي القدس بل وفي فلسطين الداخل، حيث تتم الاستعانة بهم كونهم يمثلون «الحرس اليهودي» بما يريد تطبيقه العقل المؤدلج لقادة السوبر صهيونية، وشرعنته باعتباره «الحرس الوطني» لليهود. تهويد الميليشيات، لقد شرعت جماعات الاستيطان في تأسيس ميليشيات صورة طبق الأصل، عن عصابات الأرغون وهاغانا وتسئيل وشتيرن، هذه الميليشيات تمتد في خط واحد بين مستوطني الضفة والمدارس الدينية للصهيونية الدينية في الداخل، وقد توجه ألموغ كوهين وهو شرطي سابق، وعضو كنيست حالي من جماعة الإرهابي بن غفير، الذي بادر إلى إقامة الميليشيات، اسمها «دورية بارئيل» ولخّص وظيفتها بالتالي: «عندما تكون حياتك في خطر، أي عندما تكون أنت فقط في مواجهة الإرهابي، فأنت تصبح الشرطي والقاضي والجلاد، عندما تكون حياتك في خطر، اقتل، الأمر بسيط وسهل».

توازن الردع
بحسب تقديرات للجنة الأمن في الكنيست -نشرها موقع «شومريم» (المراقبين) الإسرائيلي مطلع تموز الماضي- فإنه وحتى عام 2021 كان هناك 150 ألف قطعة سلاح بيد المستوطنين (700 ألف مستوطن بالضفة الغربية والقدس)، ومن المتوقع زيادتها 15 ألفاً في عام 2023، لتصبح 165 ألفاً أو أكثر. ومن ثمّ فتأسيس ميليشيات غير رسمية وتحويلها إلى رسمية يأتي في سياق توازن الردع، وهي أداة القمع الأكثر إخلاصاً للكيان، وهذه الظاهرة لم تعد حكراً على مستوطني الضفة الغربية، فأيضاً في الداخل والقدس.
انفصام في الصهيونية اليمينية العنصرية التي تنادي بالسلام مع العرب والموت للعرب، لا تثق باتفاقات أوسلو ومخرجاتها وتستخف بمخرجاته ولا تثق بوظيفة السلطة الأمنية وتعتبر أن التنسيق الأمني أخذ في التراجع، ولن يحد من تصاعد المقاومة، ومبكراً منذ عام 1998، كان أرئيل شارون أول من سمح بتأسيس «شبيبة التلال» حيث استولت على فندق، أما في عام 2008 فكان الظهور الأول لعصابات «تدفيع الثمن» التي نفذت آلاف الاعتداءات الإرهابية ضد الفلسطينيين.

فَلَسْطَنَة الحرب
تعود براءة الاختراع في هذا المصطلح إلى إسحق رابين، خلال انتفاضة الحجارة 1987 يوم فشل في سحقها، وهو من أوعز للجيش بتكسير عظام نشطاء الانتفاضة وأطفال الحجارة، ومارس إبعاد قادتها. هذا الفشل الذي دفعه في حلقة مغلقة للنقاش الاستراتيجي ليعرب عن إعجابه باسترتيجية «فتنمة الحرب»، حين فشلت قوة الولايات المتحدة في هزيمة ثوار فيتنام بقيادة «الفياتكونغ»، عندها اضطرت إلى «فتنمة الحرب»، جعلت الفيتنامي الجنوبي يقاتل الفيتنامي الشمالي. يومها طالب رابين بتطبيق استراتيجية «فلسطنة الحرب»، وفتحت الطريق لصناعة اتفاقات أوسلو وولادة السلطة ومنحها إغراءات، ورافقها عبارات أن لا سلاح خارج سلاح السلطة، وأن القرار واحد، إلخ... والهدية ستكون دولة فلسطينية موعودة حتى انفجرت بعدها انتفاضة الأقصى، التي استعادت نسبياً التناقض الرئيسي ضد الاحتلال، واحتوت بذلك استراتيجية «فلسطنة الحرب»، وشنت حملات من التعبئة وغسل الدماغ ومؤتمرات دولية لتشويه المقاومة وتعميم الثقافة الانهزامية، بل تشجيع ثقافة الانقسام وقيم الاستهلاك...إلخ، وكلما تصاعد الميل التاريخي للمقاومة، تستعاد ذاكرة ميتة مما يسمى فلسطنة الحرب. و لقاء «العقبة» كان واحداً من حلقاتها والعودة إلى مربع «الأمن مقابل السلام» والخطة الأميركية المطروحة هي الدعم والتدريب والمراقبة والمشاركة، إنما هو اختبار أو «فحص جدية وقدرة» السلطة على ضبط الأوضاع، كشفت عن تحيّز وتضليل ومساواة بين المجرم والضحية، فالذي لم يتحقق في زمن رابين بتفجير حرب أهلية فلسطينية لن يمر في زمن بن غفير.

جبهة مقاومة
كل شيء يعود إلى بدايته، في زمن خصخصة القوة على طريقة داوني بالتي كانت هي الداء، الحرب الوطنية بدلاً من الحرب الأهلية، ليس الاكتفاء بتشخيص الخطأ، إنما بالفعل السياسي الصحيح، فالمقاومة تبني على معادلة جديدة، عدم الخلط بين حرب الأنصار أو الحرب النظامية والحرب السرية، حيث يكون السياسي أمراً مركزياً ولكن في عمل المقاومة يكون التكتيك القتالي غير مركزي. ولهذا تنظيم فعل المقاومة بشكل يرفع مستوى بداهتهم وقدرتهم على اتخاذ القرارات في حالة عملهم بمعزل عن مركز القيادة، ومن المؤكد أن على هؤلاء القادة أن يهتدوا بالخط الاستراتيجي العام وبتوجيهات المركز السياسية، وأن يعودوا في أمور التكتيك إلى القيادة، والأهم العمل تحت لواء جبهة المقاومة الفلسطينية التي هي ليست طرفاً في السجالات الداخلية والسلطوية أو التمثيلية؛ والمتسلحة بروح التضحية التي مهما ستكون عالية فهي أقل تكلفة من ضياع الحقوق. جبهة تزج بالكل الفلسطيني في عملية الصراع، يكون فيها التناقض الرئيسي ضد الاحتلال، وتعمل على استنهاض الوعي وتعبئة الروح الوطنية واستثمار الطاقات وتفعيل عناصر القوة الكامنة، عبر المقاومة والاشتباك اليومي على الأرض المنظم والفردي والجماعي لجعل ثمن الاحتلال مكلفاً وعلى كامل مساحة أرض فلسطين التاريخية، لذلك ففلسطين كلها مساحة للصراع والمقاومة والاشتباك مع الاحتلال، مفتوحة لتشكيلات وقوى المقاومة كافة ولكل فعل مقاوم بهدف كنس الاحتلال.
*أسسها بنيامين كاهانا، نجل الحاخام مائير كاهانا بعد مقتل والده عام 1990 في نيويورك، والتي كان ينتمي لها بن غفير