ما دفعني لتناول هذا الموضوع هو سيل التصريحات التي أدلى بها مسؤولون عراقيون ومرجعيات دينية بعد استيلاء الدولة الاسلامية على مناطق شاسعة في العراق تطالب بمحاربة الطائفية والقومية.تفاجأت لإدغام الطائفية بالقومية وهما نقيضان، واستنتجت أن خللاً قد حصل في تحديد مفهوم القومية وأن هذا الخلل ناتج من اعتبار القومية مرادفاً للاثنية والعرق (race).

1ــ تحديد مفهوم الدولة القومية

لا يجوز وصم القومية بالاثنية وكأن المفاهيم القومية كافة ترتكز إلى العنصر والعرق، فلقد اختلف المفكرون عبر العصور في تحديد ماهية القومية، وان تمثلت بدايات بعض القوميات بالتشديد على العنصر واعطائه أهمية قصوى إلا أن التطور التاريخي أسقط صفة الاثنية عنها.
القومية مفهوم حديث نشأ في القرنين الأخيرين، ويقوم على تنظيم الهيئة الاجتماعية بترتيب مغاير لكل ما سبقه من تنظيمات، فبإمكاننا ترتيب مجموعة من البشر بأشكال مختلفة: قد تنتظم المجموعات البشرية بشكل قبائل، أو قد تنتظم بشكل اثني، فيجتمع من يعتبرون أنفسهم من عرق معين مقابل عرق آخر، أو قد ينتظمون كهيئة دينية.
من المهم تأكيد أن التجمعات البشرية تلجأ تلقائياً الى شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، ففي اللحظة التي يجتمع فيها البشر، ينتج من ذلك بالضرورة سلطة تحافظ على هذا التنظيم، وعلى وجوده واستقراره، واذا أمكن ازدهاره.
الا أن الفرق شاسع وجوهري بين الهوية القبلية أو الاثنية أو الدينية من جهة، والهوية القومية من جهة أخرى. فالهوية القبلية تقوم على صلات الدم وعامل القرابة، ولا تتغير هوية القبيلة اذا ارتحلت من مكان الى آخر، كون هويتها تابعة للنسب، ومرجعها الجد الاكبر وهمياً كان أم حقيقياً. المفهوم الاثني يتبع المقياس ذاته فهو مبني على علاقة الدم بين أفراد المجموعة. أما في الجامعة الدينية، فتنتفي صلات الرحم وتحل محلها الهوية الإيمانية، ويصدر التشريعات والقوانين مرجع الجامعة الدينية الروحي، ويتبع المؤمنون هذه القوانين حيثما كانوا.

برزت فكرة مبسّطة
لدى المثقفين العرب تطالب بإهمال القضية القومية وقبول الكيانات



يكون الاتحاد في هذه التنظيمات الاجتماعية الثلاثة: القبلية، والاثنية، والدينية، شخصياً، أي أنه يرتكز على صلة الاشخاص بعضهم بالبعض الآخر إما عبر صلة الدم أو عبر صلة الايمان.
المفهوم القومي تأسس على تحديد مختلف ومغاير تماماً لما سبق لأنه يتمحور حول انتماء شعب معين الى أرض معينة، فالهوية تُعطى بحسب المكان الذي يولد ويقيم فيه الفرد. يستمد التنظيم الاجتماعي سلطته في هذه الحالة من المتحد territorial union، وليس من القبيلة أو الاصل الاثني أو الجامعة الدينية. فعلى سبيل المثال، نستطيع الاستفاضة في النقاش حول نشأة وتطور القبائل الجرمانية في القرون الوسطى، لكننا قطعاً لا نستطيع القول إن ألمانيا تمثّل، في العصر الحديث، هذه القبائل، أو أن مواطنيها يتألفون حصراً من هذه القبائل، فليس كل من يحمل الجنسية الالمانية اليوم أصله من الجرمان، ذلك أن الانتماء القومي أصبح يتمحور حول المتحد الجغرافي وهو وحده القادر على اضافة الصفة القومية للفرد. وبلغت أهمية المتحد إلى درجة أن كل من يولد على أرض معينة يُعطى تلقائياً الهوية القومية لذلك الوطن على أساس أنه حقه الطبيعي، حتى حين يكون والداه أجنبيين.
فالدول الحديثة مبنية من دون استثناء، على أسس الدولة ــ الامة، واستعمال كلمة «دولة حديثة» في الغرب يعني تماماً الدولة - الأمة في مقابل الدول «غير الحديثة» التي لا تزال تعتبر الهوية الاثنية أو القبلية هي العامل الرئيسي في تحديد الانتماء.
هذا المفهوم القومي الحديث له نتائج بالغة الاهمية بالنسبة لهيكلة التنظيم الاجتماعي:
الاولية في هذا التنظيم هي الولاء للأمة لا للقبيلة أو العشيرة أو العائلة أو الانتماء الديني، فهذه الاخيرة تأتي في المرتبة الثانية لان اللحمة القومية والتضامن المجتمعي يفرضان هذه التراتبية والتي من دونها ينهار المجتمع القومي. وبالتالي، تُلغى كل الحواجز التي تقف بين المواطن ودولته فلا تمثيل بالواسطة، أي لا تمثيل للمواطن عبر الطائفة أو العشيرة أو القبيلة في السلطة السياسية والمجتمعية.
في هذه الحال، مرجع السلطة ضمن حدود الامة هي للشعب الموجود على هذه الارض، ولا يحق لأي جهة خارجية أن تتدخل في سيادة هذا الشعب على أرضه.
قوانين هذه الدولة قوانين وضعية يقرها الشعب لأنها تتماشى مع مصالحه، وتمتد هذه القوانين حتى تخوم الارض التي يقيم عليها، وليس بمقدورها أن تتمدد الى أبعد من حدود دولتها الجغرافية، بينما يتبع القانون القبلي أو الديني الشخص حيثما يذهب ولا يعير أي اهتمام للحدود الجغرافية أو الارادة الشعبية.

2ــ نتائج التنازل عن المفهوم القومي

من الخطورة التنازل عن المفهوم القومي في بلادنا للأسباب التالية:
أولاً، دأبت الولايات المتحدة الاميركية خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، على ذم القومية واعتبارها مفهوماً عفا عليه الزمن وغير صالح للمرحلة الحالية، لأن مصلحة الولايات المتحدة الاميركية تحتم عليها ذلك، فبرامج العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تديرها تقضي بالغاء المفهوم القومي المؤمن بحماية ارضه وشعبه وموارده.
اكتسحت الولايات المتحدة الاميركية بلدان العالم الثالث الضعيفة والتي اصلاً كانت مستعمرة في مجملها، بايديولوجية عنوانها الانسان وحقوق الانسان على حساب الشعب والوطن والدولة. والمؤلم أن العديد من مثقفينا أخذ يردد هذه المقولات إما عن غباء أو ارتهان لدول غربية. في هذه الحال يصبح الغاء القومية مرادفاً لهيمنة اميركية مطلقة على العالم (العولمة).
ثانياً، برزت فكرة مبسطة لدى المثقفين العرب تطالب باهمال القضية القومية وقبول الكيانات كما هي. يبدو هذا الحل وكأنه ينهي المعضلة، الا أن الحقيقة مغايرة لذلك، فإن لم ينتظم مجتمع تحت مقولة القومية، انتظم تحت مقولات أخرى اذ أنه لا يستطيع أن يحيا في الفراغ، فحين تسقط المقولة القومية تحل محلها مقولات الاتحاد الشخصي كالطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والاثنية. وهذا ما هو حاصل اليوم في عالمنا العربي، فما إن سقطت المشاريع القومية التقدمية حتى برزت كل هذه الآفات التي تمعن في تمزيق المنطقة، ولم تعد الولايات المتحدة الاميركية مضطرة لأن تتدخل شخصياً، فبمجرد إزالة فكرة العمل باتجاه المتحد القومي، تتكفل التجمعات البدائية بالباقي.
الضغط الذي مارسه الغرب لإرغام معظم قيادات الدول العربية للتخلي عن دعمها لمفهوم القومية، وتمويل مقالات وأبحاث ساهم في كتاباتها العديد من الصحافيين العرب أدت بنا الى ما نحن فيه من اقتتال طائفي ومذهبي واثني على مجمل مساحة العالم العربي. فالقومية هي الوعاء المفترض به احتواء جميع سكان بقعة جغرافية معينة، وكسر هذا الوعاء لا يؤدي الا الى العودة الى كل اشكال الحروب الاثنية والدينية التي مر بها التاريخ والتي تقود لا محالة الى التدمير الكامل للمنطقة.
ثالثا، من نتائج التخلي عن المفهوم القومي والعمل على تحقيقه، هروب الى الأمام من قبل البعض باتجاه المطالبة باتحاد البلدان العربية على النمط الاوروبي، فكما الدول الاوروبية كوّنت وحدة سياسية لنتشبّه بهم. وفي غمرة هذه الاوهام لا نلاحظ أن دول أوروبا سارت في مراحل الدولة القومية أشواطاً، وتطورت فيها الثورة الصناعية والثورة الديمقراطية التي أرست مبدأ الشعب كمصدر للسلطة. وعلاوة على ذلك، مستوى بلدان أوروبا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي متقارب جداً ما يسمح لها بوحدة حقيقية فيما نحن لا نزال في بداية الطريق، ونريد أن نقفز الآن الى النهاية قفزة واحدة متخطين واقع التخلف الاجتماعي والاقتصادي، ومتناسين التشظي الهائل الناتج من التخلي عن قضايانا القومية. فلا امكان للوحدة على المثال الاوروبي من دون المرور بالمبدأ القومي، أو الدخول في عالم «ما بعد القومية»، وأي تخل عن العمل من أجل ترسيخ الدولة القومية لن يؤدي بنا إلى التوحٌد الا على النمط الداعشي.

3ــ القومية والتعددية

التعددية (pluralism)، يعني وجود مجتمعات ضمن دولة واحدة، وهذه المجتمعات قد تكون مختلفة اثنياً أو دينياً. مدلول التعددية اذا هو غير «التنوع» البشري الموجود أصلاً في أغلب المتحدات القومية الحديثة.
السبب الرئيس لوجود مجتمعات متنافرة ضمن الدولة الواحدة، فشل المتحد الجغرافي القومي (كما حددته أعلاه)، في استيعاب الاثنيات أو الاديان المختلفة، فبدلاً من التركيز على بناء مجتمع منفتح يحتضن عضوية كل ساكنيه بمعزل عن دينهم أو مذهبهم أو أصولهم الاثنية، تلجأ الدولة الى إقصاء أو عزل مجموعات مختلفة اثنياً أو دينياً عن العملية السياسية ومراكز القرار.

اكتسحت الولايات
المتحدة بلدان العالم الثالث بأيديولوجية عنوانها حقوق الإنسان


بناء المجتمع القومي لا يعني بأي شكل من الاشكال تخلي المواطنين عن أصولهم الاثنية أو الدينية، بل فقط التشديد أن هذه الهويات تأتي في المرتبة الثانية، فولاء رجل الدين الفرنسي مثلاً هو لفرنسا أولاً وليس للفاتيكان، وولاء الأميركي من أصول افريقية هو للولايات المتحدة الاميركية لا لأفريقيا، بالرغم من استعباده لقرون عديدة على أرض القارة الجديدة.
المجتمع المنفتح يفسح المجال لاختلاط المواطنين من دون تمييز بين أصولهم، فإذا أخذنا سوريا مثالاً، يعرّف السوري/ السورية نفسه على أنه مواطن سوري الهوية، أصله كردي أو أرمني أو شركسي أو عربي، أو أنه مسلم أو مسيحي، من دون أن يغيّر ذلك شيئاً من حقوقه. وعدم حصول هذا الاندماج يعني فشل المتحد في ممارسة مبدأ المواطنة ومبدأ المساواة الديمقراطي. فهذان المبدآن يرتكزان على عدم السماح لأية اثنية او طائفة بلعب دور بديل من الوطن، اذ ان المواطنة الحقة مبنية على الارتباط المباشر للمواطن بمتحده، فلا نعود الى اعلاء شأن الرباط الشخصي من عائلي أو قبلي أو ديني ونقدمه على المتحد القومي.
بالتوازي مع أولوية المتحد، على الدولة فرض المساواة التامة أمام القانون بين المواطنين بمعزل عن أصلهم الاثني أو الديني، أو جندرهم، أو مركزهم الاجتماعي، كما المساواة في الحقوق والواجبات.
إن اي هيمنة لعنصرية اثنية أو دينية تؤدي الى انهيار الدولة القومية الديمقراطية لأنها ستبني دولة منغلقة، يوجد فيها مواطنون درجة أولى، ومواطنون درجة ثانية، وهكذا دواليك، ما يحفز مواطني الدرجة الثانية وما دون الى المطالبة بالانفصال أو التمرد واثارة حرب أهلية، لأن المواطنة الحقة أُسقطت عنهم بالممارسة.
وبالتالي، انفتاح المجتمع والقبول بعضوية جميع المنضوين ضمن حدود المتحد هو الضمانة الاكيدة لتقدمه وازدهاره، فتختفي منه مقولة التعددية كونها تفقد معناها السياسي الهادف الى التقسيم، ويبقى مخزونها الثقافي وهذا غنى حضاري ثمين يرفد المجتمع ويحفزه على التفاعل والابداع والتقدم.
ينطبق الامر نفسه حين نناقش موضوع «الاكثرية والاقلية» لأن هذه الاخيرة متصلة اتصالاً وثيقاً بالاتحاد الشخصي من ديني أو اثني، واعلائه فوق مرتبة الانتماء القومي، ذلك أن مفهوم الأقلية والأكثرية في الدولة الحديثة، أي الدولة القومية، لا علاقة له البتة بالانقسامات العمودية التاريخية ما بين قبائل أو أديان ومذاهب. الاكثرية هنا تعني غالبية أصوات المواطنين دعماً لمشروع سياسي او اقتصادي أو اجتماعي فيضحي ملزماً للجميع بما فيهم الأقلية التي صوتت ضده. لكن، اذا طُرح برنامج آخر للتصويت تتغير أصوات المواطنين. بمعنى آخر، الاكثرية لا تكون هي نفسها بل أكثرية مؤلفة من مواطنين آخرين التقوا فقط حول موضوع محدد. هذا الوضع لا يحصل حين يكون الاتحاد شخصياً حيث يصوت الشخص دائماً وأبداً لصالح القبيلة أو الطائفة بمعزل عن القرار المطروح، وبمعزل عن أهوائه الشخصية أيضاً.
جاهد الغرب ونجح، كما أننا ساهمنا أيضاً في تحوير مفهوم الاكثرية والاقلية في الدولة القومية من أكثرية أصوات لمشروع معين، الى الحديث عن أكثرية دينية أو اثنية من حقها أن تحكم الاقليات الاخرى! بمعنى آخر نجح الاستعمار في إعادتنا الى المربع الاول، مربع الاتحاد الشخصي الذي يتضارب مع المتحد القومي.
لقد تقصدت دولة فرنسا الاستعمارية تقسيم بلاد الشام على أسس أقليات دينية، فتم انشاء لبنان الكبير بصيغته اللاوطنية واللاديمقراطية، لأن نظامه الطائفي مبني على الاتحاد الشخصي، وليس أدل من ذلك إسباغ الهوية اللبنانية عبر صلة الدم، ومن جهة الأب فقط، ولا تعطى الهوية لمن يولد على ارض لبنانية ووالده غير لبناني. وتم الزام جميع السكان بتراتبية طائفية للسلطة، ترأسَها الموارنة في بداياتها، ويترأسها السنة اليوم بصلاحياتهم في مجلس الوزراء، ويحاول الموارنة جاهدين إعادة عقارب الساعة الى الوراء.
ولم تتوانَ بريطانيا العظمى عن اقتطاع قسم آخر من بلاد الشام ارتأت أن تقدمه هدية لأقلية دينية يهودية غربية الهوية، بعد اقتلاع سكانه الاصليين.
هذا يعني أننا منذ البداية، أي منذ مئة عام نولد ونموت ضمن حيز كيانات قائمة على الاتحاد الشخصي، لا علاقة لها البتة بالاسس التي تُبنى عليها الاوطان، وما نشاهده اليوم من تفكك ليس الا النتيجة الحتمية لما قام به مستعمرونا عبر العقود الماضية عن سابق تصور وتصميم، لأنه الطريق الاسهل لاخضاعنا عبر إثارة فتن دينية أو اثنية تمنع انتقالنا الى المتحد الجغرافي القومي.
لذلك ليس من المستغرب البتة أن يتّبع الاميركيون الطريق نفسه بعد احتلالهم للعراق فحرصوا على «لبننته»، أي الغاء براعم الفكر القومي الذي يحمله ابناؤه، والاستعاضة عنه بالتقاسم الطائفي، وكل الكلام الاميركي حول ترسيخ الديمقراطية مجرد حملة دعائية مخاتلة، لأن الديمقراطية الحقة لا تستطيع الا أن تكون دولة قومية بما أنها تمثل الشعب الموجود على أرضه.
فان سلمنا جدالاً أن التقسيم الطائفي هو الحل الامثل للمجتمعات المتنوعة أصولها كما تحاول الولايات المتحدة الاميركية إيهامنا، نتساءل لماذا لم تطبق هذا النموذج الباهر في بلدها حيث يوجد خليط بشري قل نظيره، يحتوي على اثنيات وأديان العالم أجمع، فيتم تقسيم الدولة الى أكثرية بروتستانتية، وأقلية كاثوليكية، وأخرى اسلامية، وثالثة يهودية؟

4ــ في مواجهة التحديات

التحدي المطروح على المثقفين ورجال السياسة هو كيفية الخروج من الولاءات الشخصية والعودة الى المبدأ القومي الذي هو الجامع المشترك بيننا.
الحل الايجابي الوحيد هو جعل الدين في خدمة المتحد القومي، ففي هذه الحالة تجتمع كل المذاهب والاديان لمؤازرة وطنها القومي بما أن مصيرهم ومصير أولادهم هو نفسه طالما يحيون على الارض ذاتها. ليس أدل من ذلك ما حصل لحركة حماس في السنوات الاخيرة، فبمجرد أن قيادتها وضعت الانتماء الديني كأولوية، انتفى دورها كحامل للقضية الفلسطينية، وأصبح مقاتلوها يخوضون معاركهم على الساحات العربية كاسلاميين لا هوية قومية لهم، لكن حين التحم دورها مع كل المناضلين الذين يذودون عن وطنهم في غزة أمام البربرية الصهيونية في تموز 2014، من دون الأخذ بعين الاعتبار اذا ما كان الفلسطيني المشارك في القتال علمانياً أو ملحداً أو اشتراكياً أو مؤمناً مسيحياً أو مسلماً، استعادت حماس اولويتها القومية التي تسمح لها بلعب دور بناء لا تستطيع أن تقوم به، لا بل هي تقوم بعكسه، حين تدخل في متاهات التيارات الدينية التي لا تؤدي الا إلى شرذمة المجتمع الواحد، والى الانزلاق باتجاه خدمة العدو وخيانة الوطن.
أظهرت أحداث غزة أيضاً ومن دون أي لبث، نفاق مقولة المواجهة السنية ــ الشيعية، اذ أن الدول العربية التي تدعي أنها تحمل لواء السنة وتحارب من أجل السنة، وتغدق المليارات في سوريا والعراق، لم تحرّك ساكناً لدعم أهل غزة «السنة». أسقطت غزة القناع: من يدعمها يدعم قضية قومية، واسترجاع وطن سليب، وحق الفلسطيني بالوجود على أرضه والعيش بكرامة، بمعزل عن الانتماء الديني للفلسطيني أو للدولة المؤازرة لفلسطين. بينما المعسكر العربي الذي يدعي الذود عن السنة لا يجرؤ على الخروج عن النص الأميركي الموالي «لإسرائيل»، وهو يجاهر بحرب سنية ــ شيعية غرضها الأوحد تدمير الدول التي لا تزال تؤمن بعقيدة قومية وترفض الانصياع لهيمنة الغرب ورأس حربته «إسرائيل».
الحرب المسماة سنية ــ شيعية ليست في نهاية المطاف الا حرباً بين من يدعم الهيمنة الاجنبية على منطقتنا بما فيها «إسرائيل»، ومن يقاوم ويواجه هذا الاحتلال من منطلق الاستقلال القومي.
اتساع المواجهة ليشمل فلسطين يظهر أن المعركة هي ذاتها في أرجاء سوراقيا التي ترفض الخضوع لاملاءات الغرب، بينما تنكفئ أدوار الدول العربية الاخرى التي تتراوح بين الصمت والتواطؤ. تحارب سوراقيا لأن عقيدتها القومية ما زالت قائمة بالرغم من كل المحاولات لثنيها عن ذلك، وهي لا تزال تعتبر فلسطين قطعة من وجودها، فيما إيران تدعم من دون كلل أو ملل استقلالنا، ليس فقط لأنه حقنا الانساني، بل أيضا لأنها بدعمنا تدعم وجودها واستقلالها ومداها الحيوي، فجهودنا مجتمعة تمنع محاصرتنا واستفرادنا.
* باحثة وأستاذة جامعية