خلال أسابيع يكون المسيحيّون والمسلمون معاً في صوم. الصوم طريق؛ هو أن يقول الإنسان أنّ توقه هو إلى ملء الحياة. يأكل الإنسان كلّ يوم ليعيش، وبالصوم يقول إنّه يعيش من أجل هدف من أجل أن يكون حيّاً، من أجل أن تتأجّج فيه الحياة، لكي يعانقها وليس فقط ليبقى على قيدها. بالصوم يشحذ الإنسان رغبته في الحياة بالامتناع المرحليّ عن مجرّد العيش، بالامتناع عن أسباب العيش. الصوم تأكيد للرغبة بالامتناع عن ملحاحيّة الحاجة، تأجيج للرغبة بإعطائها أولويّة على الحاجة، تأكيد للعيش من أجل هدف، من أجل الحياة كمعنى. الصوم يقول إنّ الحياة-المعنى أهمّ من الحاجة-الطريق، يقول إنّ المعنى هو الأساس ليكتسب الطريق طعماً.
التمسّك الغريزيّ بالعيش أمرٌ فطريّ جميل. الخوف من الموت طبيعيّ، بل هو جيّد لكي يرعى الإنسان الحياة في ذاته وفي مَن هو مسؤول عنهم. يمكن للإنسان أن يرى من خلال الخوف من الموت أنّه خُلق من أجل الحياة، وأنّ طبيعته تخشى من الموت لأنّها تخشى العودة إلى العدم الذي منه خُلقت. من هذه الزاوية يمكن للإنسان أن يتصالح مع الخوف من الموت لكونه يرى فيه إشارة إلى حضور الله، إشارة إلى أنّ كلمة الله الخالقة مغروسةٌ في الإنسان، وأنّ الإنسان بانشداده إلى العيش هو مشدودٌ رمزيّاً إلى الله.
يتمسّك الإنسان بالعيش طبيعيّاً، ولكن ما معنى العيش المحض في غياب أيّ هدف؟ لا شيء. التمسّك بالعيش المحض، بالعيش من دون غاية لا يمكن احتماله. لا يمكننا أن نعيش من دون معنى. لا يكتسب العيش معنىً إلّا بالنسبة إلى غاية. لكنّ تعرّجات الحياة والظروف عادة ما تُنسي الإنسان الغاية. الصوم يأتي كي يستعيد الإنسان الغاية. بالصوم يقول الإنسان بكلّ جسده ونفسه وعقله إنّ الغاية أساس الطريق؛ وبالنسبة لمن آمن الغاية هي محبّة الله والناس. بالصوم يقول الإنسان إنّ أسباب الحياة من طعام وشراب هي وسائل للعيش وأمّا غاية العيش فهي محبّة الله والناس، ويقول إنّ تأكيد ذلك بالكلام غير كافٍ فمن الضرورة لكلّ محبّة أن تترافق مع فعل يؤكّدها. لهذا يترافق الصوم الحقّ مع تكثيف لفعل محبّة الله بحوار الصلاة، ومع تكثيف لفعل محبّة الإنسان الآخر بالمشاركة المادّية. هذا التكثيف للمحبّة هو ما يعطي للصوم معناه، فالمحبّة الملموسة تؤكّد أنّ الطعام والشراب جيّدان، ولكنّها تراهما مجرّد هديّة حبّ من الله المحبّ الذي يمدّنا بهداياه للعيش من أجل غاية: عيش المحبّة معه على هذه الأرض. الصوم رفع الانتباه عن الهدايا وتوجيهها نحو الـمُهدي، لأنّ المهمّ هو علاقة الحبّ بيننا وبينه. وإذ يمكن محبّة الله بفعل حوار الصلاة، فإنّ تلك المحبّة لا تكتسب مصداقيّتها إلّا بمحبّة الآخرين الواقعيّة أي بالمشاركة المادّية معهم، فالمهمّشون هم وجه الله وحضوره السرّي بيننا.
السجناء المضربون عن الطعام يشيرون إلى ما يشير الصوم إليه؛ هم يقولون بإضرابهم عن الطعام: لا يهمّنا فقط أن نعيش وإنّما يهمّنا غاية العيش، تهمّنا الحرّية والعدالة. المضربون عن الطعام في السجون يحبّون الله بالتزامهم غايات الخلق: أن يحيا الإنسان بكرامة إنسانيّة تتوّجها الحرّية من البطش ومن الاستغلال؛ هم يريدون الطعام، ولكن يريدونه تحت شمس الحرّية والعدالة. الفلسطينيّون يقولون الأمر نفسه باستشهادهم، ويؤكّدون على غاية الوجود الإنسانيّ باستغنائهم عن مجرّد العيش عندما يواجهون المتربّصين بنا من أجل قتلنا واستعبادنا جميعاً في هذه المنطقة. سكّان منطقتنا يمكنهم بتواضع كبير أن يتمثّلوا شجاعة الفلسطينيّين في مواجهة الطغاة المحلّيين في بلادهم كما والطغاة الخارجيّين.
إثر كلام له عن الصوم يضع الإنجيليّ متّى جملة ليسوع يقول فيها «لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يُفسـد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون، لكن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يُفسد سوس، ولا آكلة، ولا ينقب السارقون ولا يسرقون، لأنّه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم». الكنز الذي لا يمكن لأحد انتزاعه منّا، هو القدرة على المحبّة. الصوم -عند من استطاع إليه سبيلاً- هو تأكيد على أنّنا نرى خبرة المحبّة كنزاً، وهي الكنز الوحيد الذي كلّما استعملناه كلّما زاد.
الصوم تأكيد على أنّ غاية «القلب» هي الرحيل اللانهائيّ في وجه الآخر، وأنّ ذلك يتجسّد في كلّ عمل من أجل حياة الإنسان والخليقة، وكلّ نضال لا يمكنه أن يستكين من أجل الحرّية والعدالة وفرض المشاركة في الخيرات. أمّا الرحيل في وجه الآخر، ذاك الإلهيّ وذاك الإنسانيّ، فيبدأ هنا ويستمرّ «هناك» لأنّ بداية الرحيل تطلّ دائماً على بداية.

* كاتب وأستاذ جامعي