وتقول الحكاية إن مدينة «شيا» في اقليم منشوريا الصيني حوصرت واستمر الحصار سنين، فطلب إمبراطور الصين من وزيره «زهاو فو» أن يذهب كي يرى لِمَ طال الحصار، ولِمَ لا تستسلم المدينة. فنادى على سكانها، فأطل وزير المدينة الأكبر، وكان رجلاً طاعناً في السن. سأله فو: ما حالكم؟ فأشار الوزير الأكبر إلى كتلٍ لحميةٍ تبدو على أسوار المدينة: أترى هذه؟ هؤلاء فلذات أكبادنا. لقد قتلناهم بأيدينا، وعلقناهم عند نواظرنا، كي نصمد أمامكم للأبد، لن تدخلوا مدينتنا، وستموتون عند أسوارها. زهاو فو عاد للإمبراطور الذي فك الحصار لاحقاً. ويذكر التاريخ أن «شيا» لم تهاجم مطلقاً بعدها».
كنتُ قد عزمتُ على كتابة هذا المقال بعد انتهاء العدوان على غزّة، لكن سرعة جريان الأحداث وتعقّدها بشكلٍ كبير، قد يقود إلى ما لا تحمد عقباه، لذلك آثرت أن أرفع الصوت علناً، لئلا يسبق السيف العزل.
تخوض حركة المقاومة الإسلامية حماس مع إخوتها في الفصائل الفلسطينية المقاومة معركة الأمة أمام العدو الصهيوني في غزّة. هي معركةٌ يعرف الجميع أنها ليست – ولم تكن يوماً - متكافئة. لكن المقاومة، كما يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، يكفيها أن تبقى كي تكون منتصرة في أي حرب. لكن حماس أثبتت أنها أكبر من مجرد مقاومةٍ باقية، فهي أوصلت ألم الصعقة إلى مرحلة لم تتوقعها الدولة العبرية البتة. ضرباتٌ متلاحقةٌ عنيفة كبدتها كتائب الشهيد عزالدين القسّام الجناح العسكري لحماس لم يستطع «الجيش الذي لا يقهر» الاستفاقة من أثرها الارتجاعي بعد.

تثبت نظرية «حليف حليفي: حليفي» عدم صحّتها مع حماس بشكل كبير
هذا يدعو إلى التفاءل والفرح أليس كذلك؟ أجل، لكن الشيطان يكمن في التفاصيل. فالتفاصيل تخبرنا بأشياء أكثر مما ينبغي أن نعرف، فالمشاهد القابع في منزله، المؤيد للمقاومة لا يعنيه الكثير إلا أن يسمع عن أنباء العمليات العسكرية: اختطاف جنود، قتل صهاينة، قصف مواقع. لا أحد يهتم أبداً بدهاليز السياسة وأخبارها، تلك يمل منها المشاهد – وتحديداً الفلسطيني - بسرعة لأسبابٍ كثيرة، أوّلها أن منظمة التحرير الفلسطينية قد جرّبتها حتى لم يعد للتجريب معها مكان، وأثبتت فشلها بكل لغات الكون. ثاني الأسباب أن المشاهد يعرف القليل عن تفاصيلها بينما تكون العملية العسكرية واضحةً لا لبث فيها، بائنةٌ للعيان، الدمار فيها واضح والمغزى والمؤدى منها عام. في السياسة تكتنف الزوايا تحت ستارٍ من الغموض، من المبهمات، من الأشياء التي «لا تقال» حرصاً على سرية شيءٍ ما (ليس مهماً ما هو، فقد يكون السر مثلاً: فيلا لأحد المفاوضين، أو سيارةً لابنه أو ابنته، أو توكيل شركةٍ ما، كل ذلك جرّب سابقاً، وحصل). إذن ما علاقة ذلك بحماس؟ لِمَ يطرح هذا الآن؟ ببساطة: إن حماس في قلب تلك المعمعة الآن. فالحركة المقاومة يتضح أنّها تمر حالياً بفترة تألقٍ وضمورٍ في آونة واحدة معاً، وهو شيء غريب. فجناحها العسكري «المدهش» الذي لا صوت علنياً له في المعتاد «تكلم» أخيراً، وبات لديه ناطقٌ رسمي باسمه يخرج كل مدةٍ تقريباً ليتحدث في الشأن العام، وليس عسكرياً فحسب، بل وسياسياً أيضاً. في الإطار نفسه يطل قادة حماس «السياسيين» ليتحدثوا في الشأن ذاته: العسكري والسياسي. اللافت أكثر أنه في العادة لم يكن هناك أي اختلافٍ بين كلام المتحدثين، لكن الإصرار على خروج «أبو عبيدة» (الناطق الرسمي للقسام ذو «الحطّة» الحمراء المأخوذة من طريقة الشهيد عماد عقل أحد قادة القسام الأوائل في التخفّي) ولاحقاً ظهور «أبو خالد» (محمد الضيف أمير الظل، القائد الأعلى لكتائب القسام) للإدلاء بتصريح، قاطعاً الطريق على القيادة السياسية لإعطاء موافقةٍ من أي نوعٍ على المقترحات الخليجية/ العربية - الأميركية/ الإسرائيلية - التركية/ الأوروبية لوقف إطلاق نار هي خطوةٍ استباقية كما هو واضح؛ لكن حدوثها بهذه الطريقة المفاجئة جاء بعد اعلان ياسر عبدربه (منظمة التحرير) أنه جرى اتفاق مع قيادتي حماس والجهاد على المشاركة في محادثات لإنهاء العدوان على غزّة (ضمن المحادثات في مصر).
قد يتساءل البعض هل هذا هو الوقت المناسب للحديث في أمورٍ كهذه؟ لزرع شقاقٍ بين الإخوة قد لا يكون موجوداً أصلاً إلا في مخيلة كاتب المقال؟ ذلك أمرٌ قد يكون صحيحاً فعلياً، لكن يجب وضع مجموعة من الأمور ضمن سياقها الصحيح، كي يصدّق الجميع ويتأكد أن الأمر ليس أكثر من زوبعةٍ في فنجان. أول الأمور أن تبدأ حركة حماس بإيضاح علاقتها مع حركة الإخوان المسلمين المصرية وتنظيم الإخوان العالمي تالياً، هل هي تتبع المرشد المصري بشكلٍ مباشر؟ أم أنّها حركةٌ مستقلةٌ بذاتها تستطيع السباحة حسبما تريد وتشاء؟ هذا الوضوح سابقاً أثناء حياة الشيخ الشهيد أحمد ياسين كان سمةً بارزة، لكن الغموض بدأ يلف تلك العلاقة مذ سقوط حسني مبارك وحتى سقوط محمد مرسي، طيلة تلك الفترة تداخلت الأمور. كل ما هو مطلوب هو إيضاح الأمر، ساعتها يصبح معروفاً كيف يمكن التفاهم مع نظام السيسي الحاكم في مصر (مثلاً) سواء كان إيجاباً أو سلباً. ثانياً أن تحدد الحركة أساساً الجهة التي تريد التقرّب إليها فعلياً، هل هي تريد أموال قطر؟ أم إيران؟ تريد السلاح الإيراني (والذي يوصله حزب الله) أم أنّها باتت حسبما تقول تصنع سلاحها الخاص ولا تحتاج إلا إلى المال فحسب؟ فالتصريحات المتناقضة والمتعارضة بشكلٍ مخيف تجعل حتى أقرب الأصدقاء خائفاً. تثبت نظرية «حليف حليفي: حليفي»، عدم صحّتها مع حماس بشكل كبير، فالقطريون مثلاً حلفاء للأميركيين الذين هم بدورهم يعتبرون حماس حركة إرهابية (وقطر في ذلك شأنها شأن تركيا). على الجانب الآخر ينظر النظام السوري إلى حماس بعين الريبة والشك، ويعتبره النظام المصري مرتعاً للإخوان، فيما يقف الإيرانيون بين كل هذا وذاك دون أن يتخلوا عنها مطلقاً، وتحديداً جناحها العسكري (يمكن ملاحظة خطاب مرشد الثورة السيد علي الخامنئي الأخير، وكذلك خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأخير). ثالثاً أن تدرس الحركة خطواتها المقبلة بضبطٍ أكبر بعد اختيارها لحلفاء المرحلة المقبلة: هل تريد أن تبيع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مكاسب أخرى على حساب دماء أطفال غزة؟ (خصوصاً أن الرجل حضّر وأرسل بواخر عدّة محملةً بالكثير طمعاً في قطف مكاسب صمود المدينة البحرية)، أم هل سيتم تعويم الأمير الصغير تميم، الغض سياسياً فيدفع إلى الواجهة بصفته «أباً لإعمار غزّة» (حيث رصدت بعض الدراسات عن تكلفة إعادة بناء أحياءٍ بكاملها في غزة من شركات بناءٍ تعمل في قطر). قد يبدو الخيار الأخير رائعاً خصوصاً أن كثيراً من الناس يريدون عودة بيوتهم، وهذا حقّهم بالطبع، لكن ما الذي يضمن عدم تكرار العدوان؟ والسؤال الأهم: ما هو الثمن مقابل أعطيات تميم وأردوغان؟ الإجابة أبسط مما نتخيل: ثمنٌ لا تريد «كتائب القسّام» دفعه أبداً.
كيف تبدو الصورة إذاً بعد هذا؟ ضبابية بعض الشيء لربما، لكنها بجيمع أجزائها مرتبطةٌ فعلياً بداخل الجسم الحماسي، ومهما كانت التدخلات الخارجية كبيرةً (وعنيفةً وشاقةً حتى) فإن الحل الوحيد هو جلوس السياسيين مع العسكريين بمصارحةٍ مباشرة ومن دون مواربة للوصول إلى نقطةٍ محددة تنهي تبادلاتٍ علنية لمواقف لا يحتاجها أحد. ساعتها يكون الانتصار كاملاً، خصوصاً أن كتائب القسّام فعلت وخلال مدةٍ وجيزة من الزمن الكثير الكثير، وكبدت الصهاينة خسائر لم يكن أكثر محلليهم تشاؤماً يتوقعها.
* كاتب فلسطيني