خلصنا في مقال سابق (راجع «الأخبار» 7 شباط 2023: في لبنان ومستقبله»، إلى أهمية بحث كينونة لبنان، وأنّها هي الأصل والمبدأ، وأن على ضوء من أكون (الكينونة) والخصائص الجوهرية تتحدّد العلاقة مع الآخر وطبيعتها، وأنّ الكيانية سابقة للسياسة ببعديها الداخلي والخارجي، والأخيرة لاحقة بها ومنبثقة منها. ولفتنا إلى أنّ اللبنانيين يحسون بـ«الغيريّة» ويعبّرون عنها ولا يستحون بالقول إنهم لبنانيون بل جلهم يفتخر بذلك (وفق فهم متعدد للبنان الذي يستبطنون). وأنّه على رغم ما أصاب لبنان منذ نشوئه من تحديات جسام واجهها، فإنّه لم يمّح وينته، بل أهله ما زالوا يؤمنون بنهائيته -ولو أنّ هذا الموقف ناتج من أسباب قسرية بالعموم عند شرائح منهم أو متّعدد الأفهام كما ذكرنا- فالتيار الذي يرغب باستمرار هذا الكيان أكبر بكثير من غير المبالين باستمراره أو الراغبين باستتباعه أو تفكّكه أو الداعين بانفعالية لتقسيمه. وذكرنا أنّ هناك مجموعة عوامل تشكّل مشتركات الحد الأدنى أو تقاطع نظر في «ما يميّز» لبنان، واعتبرنا أنّ ذلك يمكن أن يشّكل منطلقاً لاستعادة لبنان إلى أهليه، أولاً، وإلى وعيهم له، لأنّ الوطن يضيع في نفوس أهله قبل أن يتلاشى لأسباب خارجية. وممّا لفتنا إليه أنّ لبنان تكمن قوّته وخيره أولاً في مجتمعه، وأنّ الدولة فيه ليست سقفاً ولا دولة الحكم ولا مؤسسة المؤسسات، كما ترى بعض مدارس الفكر السياسي، إنّما هي أقرب لأن تكون أحد أبرز مؤسساته -وهو ما سيتم بحثه لاحقاً. وذكرنا أنّ الاستغراق في السياسة الجارية اليوم لم يعد يفي بالغرض بل يحتاج الأمر إلى ما هو أعمق كي نثبّت ركائز وإمكانيات بناء لبنان وصولاً به لوطن ثم لدولة وفق تحديد وتعريف معيّن يحتاج إلى إبداع.ولمّا كان حال العالم خاضعاً لديناميات متبدّلة ويسير إلى آفاق جديدة وتحولات كبرى، فعلينا، إذا أردنا أن نبني كينونتنا، أن نعرف ونتعرّف إلى الثابت فينا حتّى لو كان بذرة أو فسيلة لنعمل على تنميتها وتهيئة الظروف لنموّها كي لا نكون امتداداً لغيرنا لا أكثر. نحن تاريخ وتفاعلات اجتماعية بينية وخطاب على مساحة جغرافية (تقريباً لبنان اليوم) منذ مئات السنين لدينا خصوصيات وهويات مهمّة ونصرّ عليها قبل أن ندخل في مؤسسة اجتماعية جديدة اسمها الدولة. في الآن ذاته، علينا أن لا نغفل النظر إلى المستقبل حيث المكان الذي سنعيش فيه، ونرقب حركة ومسار التاريخ الإنساني والحضارة البشرية ومآلها وكيف نتفاعل معها فتضيف علينا وأيضاً نضيف عليها، وما يقتضيه ذلك من نظر بعمق المشهد وأحشاء الزمان وبعقلية استثنائية، وما يقتضيه من شجاعة المقاربة والروح العلمية الجادة بالبحث عن الحقيقة والتعقل، والخروج من أسر النظرات التقليدية والكلاسيكية، وقبل كل ذلك امتلاك إرادة صادقة لبناء وطن ومجتمع ودولة. في هذه اللحظة التاريخية، إمّا نبلور أنفسنا -ولو بالحّد الأدنى الضروري- وإمّا الظروف والتوازنات والسياقات الخارجية سوف تحدّد مستقبلنا... أيّ الخيارين نختار؟ نحن من نحدّد.
إنّ التاريخ اليوم يتدفّق أكثر من أي وقت مضى حاملاً في ثناياه آمالاً وربّما آلاماً كبيرة، وأحداثاً تسرّعه نحو غاياته وأخرى تحطّه عن مقصده. فالذي يدوم ويستمر هو ما ينسجم مع حركة التاريخ وانسيابيته وتدفّقه الطبيعي والتلقائي أي ما ينسجم مع الإنسانية. ومن يريد أن يبني وطناً يُفترض أن يبنيه على أساس الانسجام مع حركة التاريخ لا أن يكون في المكان المجابه لانسيابية التاريخ، فما دون ذلك يصعب أن يستمرّ حتّى لو بلغ قوّة الاتحاد السوفياتي أو من هو أقوى منه وأشدّ آثاراً اليوم. وحيث أنّ في هذا المقال اخترنا أن نبدأه من رصد العالم الجديد المتولّد ومعالمه علّنا نستفيد من عبره بما يساعد في تكريس مقولاتنا اللبنانية تفنيداً أو تبنياً أو دحضاً، أي عقلنة مقولاتنا ومَنطقتها. فلبنان ليس بدعة من المجتمعات، والجماعة الإنسانية فيه ليست من خارج هذا العالم المترامي وسننه، فما تخلص إليه البشرية من خلاصات وما تخطه من مسارات ووجهات حقّة يفترض أن تساعدنا في تركيز الجهد وتوفير الوقت والسؤال، وتساعدنا على تجاوز العصبية لمصلحة الحقائق، فلا يمكن أن نبني بلداً على الهوى والرغبات والأماني والتعصب إنّما بالرجاء والإيمان والعمل والمعقول وروح طلب الحقيقة.

مبررات نشوء الكيان
قامت مبررات نشوء الكيان اللبناني على عدّة عناصر بحسب ما راكمته دراسات كبار شخصيات القرن الماضي؛ على الطبيعة الجغرافية التي تجمع البحر إلى الجبل، وتراث الضيعة الفريد على ساحل المتوسط، وعلى الاغتراب وطبيعة الشخص اللبناني المحب للتجارة وجوبان البحار، وعلى الحرية والاقتصاد الليبرالي الحر، وعلى الحقوق، وعلى تصور لدور مميّز له على صعيد التعايش الإسلامي المسيحي، وأنّه جسر ثقافي من الغرب «المتقدّم» إلى الشرق «المتخلّف»، ونموذج سياسي مختلف (ليبرالية ديموقراطية)، وأنّه نقيض للكيان الصهيوني العنصري، فضلاً عن أنّه الجامعة الأولى للعرب والمستشفى الأول، وبعضهم ذهب أبعد بالحديث عن الشعب المتمدّن مقابل شعوب الشامات والبادية القبلية والعشائرية وغير الحداثية.
تلكم كانت المبررات التي رافقت نشأة لبنان وأشبعتها شخصيات لبنان الأوائل تنظيراً لشدّة إعجابهم بالتجربة وانتظاراتهم منها، وإنذاراً من سوء حملها.
ففي ظلّ التحولات العميقة التي أصابت الداخل اللبناني، لجهة ظهور طائفة المقاومة وتوسّع الفضاء السياسي وتطوّر المشاركة لقوى جديدة على الديناميات الداخلية وتطور تفاعلات لبنان الخارجية وزوجية التأثر والتأثير وتغيّر موضوعة الصراع والانقسام، وفي ظل تحولات دولية منشِئة، أي مؤسسة لمسارات جديدة على صعيد الفرد والجماعة والمجتمع ونظرية العلاقات الدولية والسياسات العالمية... في ظل كل ذلك، هل ما زالت تلك المبررات قائمة فعلاً أم أصبحت مهدّدة، بل إنّ بعضها اندثر بينما بعضها الآخر يحتاج إلى تقويم وإعادة تعريف، وهل من مبررات ضرورية يجب اكتشافها أو إضافتها لضمانه استمرار التجربة؟
لم يعد للبنان موقع المنافس الاقتصادي ولا السياحي، مقارنة بأي من الدول العربية لا سيما الخليجية أو تركيا التي غدت وجهة عالمية للسياحة وغيرها. ولم يعد اقتصاده الحر ومنظومة عمله المالية والمصرفية محل ثقة أهله فضلاً عن مرادات الخارج. ولم تعد الجامعات الأجنبية المتقدمة في صناعة العلوم حكراً على لبنان واللبنانيين ولا حتى تميزهم التاريخي باللغات الأجنبية. ولم تعد الصروح الجامعية حكراً على الغرب من دون الشرق. ولم تعد اليد العاملة اللبنانية هي الماهرة والسباقة من دون سواها. ولم يعد لبنان بديل العرب البنكي كما كان مطلع الأربعينيات وبعدها مع تدفق الرساميل عليه جراء الصراع مع إسرائيل، ولا مرفأه ولا مطاره هما الوجهة البديلة لحيفا وعكا ومدن الساحل الفلسطيني المحتل. ولم يعد الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان ذا معنى في ظل التجربة اللبنانية المعيوشة وأزماتها. ولم تعد نظرية تميّز اللبناني العلمي ومهاراته هي عنوان مميز في عالم تطور التقانة وتداخل الأسواق وشبكات الاتصال والخدمات والتعلم المتاح لكل المجتمعات؛ فالخليج الذي شكّل وجهة عمل واستثمار اللبنانيين تاريخياً دخل في تحديث -لن نقول حداثة- نظائر أبو ظبي ودبي ونيوم وغيرهاـ، ولم يعد يعيش في خيمة وينتظر شوفينية بعض اللبنانيين. ليس هذا فحسب، بل أمكن القول إنّ الواقع العربي كله تغيّر؛ لم تعد نظرية «تحالف الأقليات» التي اعتمدتها إسرائيل وبعض المثقفين اللبنانيين ذات قيمة وجدوى، لقد أصبحت الأكثريات (أنظمة) مطبعة مع إسرائيل ومتحالفة معها.
إذاً، إنّ أغلب المبررات فقدت زخمها ولم تعد مميزات، ما يحضّنا على التبصّر أكثر بما يمكن أن يميّزنا ويضفي علينا خصوصية ذاتية لا عرضية كي يستمر الكيان. فما يجب أن يميّزنا يُفترض أن نجترحه من مصدرين: رصد التحولات العميقة لا التكتونية القشرية وتحليلها وكيفية ملاقاة الإيجابي والعقلائي والمنسجم مع حركة التاريخ الإنساني منها.

التحوّلات
- قصور العقد الاجتماعي الذي انعقد عليه لبنان (1943-1990): قد يقول البعض إن المشكلة ليست في العقد بل في القيمين عليه. لكن أسأل وهل القيمون عليه من خارجه أم أنّ طبيعة العقد أتاحت لهم البقاء عليه والاستمرار. إنّ العقد بذاته ولاّد لمن يحوطونه ما درّت مصالحهم. فلا يمتلك قدرة على التخّلص من الضرر، ألا يعني أنّ هناك نقصاً وقصوراً في العقد. قد يأتي البعض فيقول إنّ القصور في مؤسساته فحسب وليس في روحية العقد (على رغم أنّ الميثاق شفهي وغير مكتوب)، لكن أيضاً أوليست المؤسسات تجّلِ للمعنى ولمنطوق المرجعية الناظمة؟ بينما يذهب البعض لحصر المشكلة في الطائفية وأنّها مصيبة لبنان والتخلّص منها هو الحّل، وأيضاً نسأل لماذا لم تلغ الطائفية وقد طرحت على المجلس النيابي للإلغاء منذ عام 1926 حين وافق على العمل بها مؤقتاً بانتظار أقرب فرصة لإلغائها وها نحن في 2023! فعندما لا يوافي النص واقع الحال أو يشق تنفيذه، فهذا يعني عدم واقعية النّص بذاته وموضوعيته.
في قبالة ذلك، يرى آخرون أنّه لا يستطيع لبنان، بواقعه وتاريخه وذاتياته، تحمّل أكثر ممّا هو قائم في ميثاقيته، فلبنان يستحيل أن يكون أحسن ممّا هو عليه اليوم، ولنكن واقعيين، إنّ التحسين لا يمكن أن يتجاوز إلا أموراً ظاهرية وتكنيكية أو هو انعكاس لتوازنات خارجية فحسب بين هذه وتلك من الآراء والتصورات. أظنّه إلى اليوم لم يعرف غالبية اللبنانيين بعد ماهية هذا العقد الذي يتردّد ذكره على ألسنتهم صبح مساء، بين من ومن قام وعلى أيّة شروط ومعايير وخلفيات وحسابات، وإذا ما كان عقداً موجباً أم سالباً، وإذا ما كان خياراً أم ضرورة قسرية، والأهّم من ذلك: ما هي المرجعية العليا الناظمة له (فكرياً واجتماعياً)؟ من أين استلهمت فكرته أم هي صناعة ذاتية، فهل هو هوبزي أم روسوي أم لوكي أم هيغلي أم فوكوي أم إسلامي أم مسيحي أم فرضه الخارج (عام 43 فرضته قوى، وعام 90 فرضته أخرى)، أم صناعة لبنانية بامتياز، وإذا صحّ ذلك فما هي أسسه وعناصره وهل يمتلك صيرورة ومرونة المواكبة، هل هو مستقبلي أم آني ظرفي؟ وهل هو تعبير عن توازنات قوى داخلية أم مقاربة قيمية ورؤية وهل وهل... وتطول الأسئلة.
-صعود بارز لما يمكن أن نطلق عليها مسمّى «طائفة المقاومة»: تتوافق على تفسيرها للصراع وأسبابه، تتميّز أنّها تمتلك رؤية واضحة وشاملة، تنظر في المستقبل حيث يجب أن يكون محل النظر، تشترك في كليات مع آخر (إقليمي ودولي) وتتمايز عنه بخصوصياتها اللبنانية على السواء، تؤمن بضرورة إخراج لبنان من دوامته إلى مقاربة جديدة. ما يمّيزها أنّها ليست خطاباً عفوياً أو حماسياً إنّما استجمعت رؤية نظرية وتجربة عملية وقصص نجاح وإقناع كبيرة وجاذبية نموذج وحسن تقدير للحال والممكن، وما ميّزها حتّى الآن أنّها أقل المستفيدين من الخارج وأكثر القوى فاعلية في لبنان والمنطقة (راجع استفادة مختلف المكونات اللبنانية على امتداد التاريخ مقارنة بمجتمع المقاومة منذ 82 سيتّضح أنّ هذا المجتمع هو الأقل استفادة زمنياً وإمكاناتياً والأكثر حيوية وفاعلية، هو مجتمع بدأ من الصفر).
-توّسع الفضاء السياسي اللبناني: وذلك على أثر مجموع التحولات الداخلية، فما أنتجته الأعوام الخمسة الأخيرة وسّعت الأسئلة وفتحتها على مجالات كانت مقفلة أمام السواد الأعظم من الشعب اللبناني وقواه، كمجال الاقتصاد والنقد والمال والقضاء وبناء الدولة ومواجهة الفساد وأيضاً دخول لبنان نادي الدول النفطية وأثر ذلك الكبير. وهذه عناوين جديدة فرضت نفسها على الساحة الداخلية ووسّعت الفضاء اللبناني وخلقت ديناميكيات جديدة على الساحة وأتاحت فرصاً بمقدار ما يتعرّض البلد لمخاطر.
-تعدّل في النظرة للبنان ودوره عند شرائح واسعة -ومتماسكة- من اللبنانيين عمّا سبق؛، لبنان واقعاً أصبح مؤثراً في الإقليم وليس متأثراً فقط، وإنّ التطّورات الدولية والإرادة الداخلية إذا ما توافرت تتيح له مزيداً من الفاعلية والتوثّب لحجز مكانة أهمّ وأرسخ بين الأمم.
-تهاوي رعاية الـ«س-س» للبنان، وما عناه ذلك من انكشاف داخلي واختلاف عربي ودولي على هذا الكيان الذي يسمّى لبنان. وأصبح اللاعبون إزاء تحدّي التصدّي المباشر لقضايا البلد وعدم إمكانية ترك القضايا لإرادة الخارج، ما عزّز من مكانة وقيمة اللعبة الداخلية نسبياً. وعليه، لأوّل مرّة من بعد الطائف لبنان، وربّما قبل، لا يكون تحت رعاية مباشرة من الخارج، ما يعني أنّ الفضاء اللبناني هو المسرح المباشر للمعادلات وأشكال التفاعلات -ولو بالشكل- ويتوسّع الفضاء لنقاش كل شيء بعيداً من افتراضات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية اعتبرها البعض مسلمات. ولأوّل مرّة يكون الجميع تقريباً مساهماً في رسم مشهد لبنان وتنوّعه من موقع التكافؤ والشراكة. لم تعد أي من المكونات كمّاً بل أصبح لكل لونه ومساهمته في بناء اللوحة الوطنية وفي تحديد الدور والشاكلة للبنان، وهذه لحظة مهمة من التجربة اللبنانية بعد عقود من تشوّهها على صعيد الجوهر، وهي مقدمة مساعدة لاستئناف عملية بناء فعلية ومتوازنة للبنان. المشاركة اليوم أصبحت فعلية من الجميع وليست صورية أو جوفاء، الكل ضخ نموذجه ويضخ قيمه وثقافته ورؤيته وهذه الميزة هي التي يمكن أن تشكل أرضية متينة للحوار.

* باحث لبناني