هذه مراجعة نقديّة لكتاب صدر لفؤاد عجمي بعد وفاته، بعنوان «عندما فشلَ السحر: مذكّرات لطفولة لبنانيّة، عالقة بين الشرق والغرب»، والصادرة عن دار نشر «بومباردير» (لم أسمع بها من قبل).لم أكن قد سمعتُ الكثير عن فؤاد عجمي عندما وصلتُ إلى أميركا في عام ١٩٨٣. عرفتُ من قصّته أنه كان من أرنون في جنوب لبنان وأنه شذَّ بصورة عامّة عن الرأي العام العربي في حينه، من ناحية التأييد العارم للشعب الفلسطيني وقضايا التحرّر العربي. وكان ذلك قبل أن أسمع من إدوار سعيد عن فراقه عن عجمي: كيف أن عجمي أرسلَ (فجأة) رسالة طويلة لسعيد طالبه فيها بقطع الصداقة بينهما (كان ذلك في منتصف الثمانينيّات). احتاجَ عجمي في انحداره المستمرّ (هو صعود بمقياس جريدة «النهار» أو إعلام الرجعيّة) إلى أن يقطع صلاته بدعاة القضيّة الفلسطينيّة في الغرب. لم تمرّ إلا بضعة أعوام قبل أن يكون عجمي خطيباً في حفل لجمع التبرّعات للمستوطنات الإسرائيليّة. أصدر عجمي كتاب «الإمام المختفي: موسى الصدر وشيعة لبنان» في عام ١٩٨٧، فكتبتُ في هجائه أوّل مراجعة لي. وكان صدور الكتاب مترافقاً مع ظهور كثيف لعجمي في وسائل الإعلام الغربيّة زمن الرهائن الغربيّين في لبنان. وكانت لهجته عن العرب ملؤها الاحتقار والتشفّي. هو زادَ سوءاً في مواقفه وعنصريّته عبر السنوات، لكنه كان سيئاً جداً في سنوات وصولي إلى الولايات المتحدة.
وصعود عجمي في الأكاديميا الأميركيّة كان غريباً جداً، من الناحية الوظيفيّة. درسَ في «كليّة شرق أوريغون — بات اسمها اليوم «جامعة شرق أوريغون» (ولم يسمع بالكلية معظم الشعب الأميركي، ولم أكن أنا قد سمعتُ بها) قبل أن ينتقل إلى جامعة «واشنطن في سياتل»، وهي جامعة حسنة، لكنها ليست بارزة. لا أهتم بتراتبية الجامعات ولا بسلّم الوجاهة، لكن تلقّي عجمي عرضاً من جامعة «برنستون» في عام ١٩٧٣ بعد تخرّجه من «سياتل» كان جدّ مستغرباً. يندرُ جداً أن تعرض جامعة «برنستون» المعروفة وظيفة على حامل شهادة دكتوراه من «كليّة أوريغون الشرقيّة» وحتى من «جامعة واشنطن في سياتل». عملَ عجمي في برنستون وكان محافظاً سياسياً قبل أن ينحو نحو اليمين الصهيوني. غير صحيح أنه كان عروبياً ومتحمّساً لفلسطين. هناك تلك المناظرة التي أطلقت الطالب نتنياهو في عام ١٩٧٨ عندما كان عجمي في صف الفريق المناصر لفلسطين، اسمياً في المناظرة. لكن لهجته كانت باردة، وكان شديد الاحترام للشخص الذي يقف أمامه والذي كان قد عاد لتوّه من مهمّات عسكريّة عدوانية في البلد الذي وُلد فيه عجمي. وحتى في «جامعة واشنطن في سياتل»، يقول عنه زميلٌ له من تلك الأيّام إنه لم يكن متحمّساً للعروبة أو فلسطين كما باقي العرب. مشروع عجمي بدأ مبكراً، وهو مشروع السفر نحو الرجل الأبيض وارتداء ما يليق بعمليّة التحوّل من ملوّن إلى أبيض. هي رحلة كان قد مشيها قبله في. إس. نيبال (وكان عجمي شديد الإعجاب به). نالَ عجمي منصباً في جامعة برنستون وكان قريباً من عميد المستشرقين الصهيونيّين، برنارد لويس. وفي ١٩٨٠، بعد تقاعد المستشرق العراقي الأصل، مجيد خدّوري، من رئاسة قسم دراسات الشرق الأوسط في «كليّة الدراسات الدوليّة العليا» في جامعة «جونز هوبكنز»، تنافس اللبناني إيلي سالم (وزير خارجية ١٧ أيّار) مع عجمي لخلافة خدّوري (لم يكن خدّوري يريد التقاعد. وعندما كرّموه في حفلة ومنحوه ساعة تذكاريّة، صرخ بوجههم: أنتم لا تكرّمونني، بل تدفعوني دفعاً كي أتقاعد). كان خدّوري، الذي خرّج عدداً كبيراً من طلبة الدكتوراه، متخصّصاً في القانون الإسلامي، يفضّل أن يخلفه إيلي سالم، الذي درس على يديه في أواخر الخمسينيّات وكتب أطروحة عن الفكر السياسي للخوارج. النافذون في الجامعة اختاروا عجمي. وبسرعة، كشف عجمي عن مشروعه. قال عجمي في صيف ١٩٨٦ في شهادة أمام الكونغرس الأميركي، إن «السنّة هم مجرمون، بينما الشيعة هم انتحاريّون». لا أزال أذكر ضحك، لا بل قهقهة أعضاء الكونغرس عندما فسّر لهم عجمي الفرق بين السنّة والشيعة. هذا النوع من الكلام الكريه لا يجرؤ على النطق به الرجل الأبيض، وهنا دور عجمي: أنه كان ينطق بما لا يجرؤ الرجل الأبيض على النطق به في زمن الصوابية السياسيّة.
دوره تعاظم قبل الغزو الأميركي في ٢٠٠٣ وبعده، عندما كان «صديقه» ديفيد بتريوس يدعوه إلى بغداد للمشورة الاستعماريّة


أوّل كتاب لعجمي كان كتاب «المحنة العربيّة» وهو ليس إلا مجموعة خواطر تندر فيها الفطن، على رأي حنا بطاطو. ويضيف عجمي الكثير من الكلمات العربية في كتاباته الشديدة الإنشائيّة بالإنكليزيّة كي يبهر القارئ الغربي بمعرفته الداخليّة عن العنصر العربي. هو الذي يشرح للغربي عن تضليل وخداع ورياء العرب أجمعين. أمّا كتاب «الإمام المختفي» فقد كتبه من دون أن يكون قد زار لبنان والتقى بأصدقاء وأتباع موسى الصدر. اعتمد الكتاب على مقابلة وحيدة مع حسين الحسيني. أذكر عندما زار حسين الحسيني نيويورك في الثمانينيّات، فاصطحبته الخبيرة جوديث كبير، كما أخبرتني للقاء الحسيني. أجاب الحسيني عن أسئلته، ثم كان يسأل ابنه عبر الهاتف عن موسى الصدر. الكتاب يخلو من كنه البيئة الجنوبيّة التي ولّدت ظاهرة موسى الصدر، وعن مدى المعاناة من جراء العدوان الإسرائيلي. لكن عجمي لا يؤمن بشيء اسمه عدوان إسرائيلي. العدوان في الجنوب هو فلسطيني محض. والغريب أن الكتاب المذكور تُرجم إلى العربيّة ونُشر برعاية من حركة «أمل» نفسها. الكتاب هو (كما راجعته في «ميدل إيست ريبورت» في ١٩٨٧) نتاج التلاقي بين منهج الاستشراق التقليدي ومنهج الدراسات (غير الأكاديميّة) للإرهاب. فؤاد عجمي أنعش فرضيّات الاستشراق العنصريّة بعدما ضعضع إدوار سعيد (في كتابه «الاستشراق») ثقتَها بنفسها. والكتاب مليء، على عادة عجمي، بالمغالطات. اعتبر أن الحرب الأهلية في ١٩٥٨ كانت «حادثة» محصورة في بيروت الغربيّة و«الجبال الدرزيّة» (الجبال الدرزيّة؟) بينما كانت الثورة مشتعلة في مدينة صور مثلاً. وعلى الطريقة العنصريّة التقليديّة في تصوير الشعوب في العالم العربي، يعتبر عجمي أن كل الشيعة في لبنان (وحتى خارجه) يمثّلون كتلة واحدة متراصّة حتى إنه يستعمل عبارة «النفسيّة الشيعيّة» (تماماً على طريقة البرنامج العنصري «الكوميدي» الحالي على شاشة الطائفيّة المسيحيّة المملوكة من بيار الضاهر). وأذكر أن واحداً من أعتى الليكوديين في المطبوعات الأميركيّة راجع الكتاب في «وول ستريت جورنال» وأسبغ المديح عليه.
عالم فؤاد عجمي هو عالم التعميمات والتنميطات والوصف الذي ينشده الرجل العنصري الأبيض. هل لم يقل جديداً عما قاله برنارد لويس من قبله، أو قاله زعماء إسرائيليّون عن العرب. لكن الإعلام الغربي يريد سماعه لأن نطق عجمي به — كواحد منهم — يضفي عليه صدقيّة ومشروعيّة ضروريّة. مهمّة فؤاد عجمي السياسيّة هي في التبرّؤ المستمر من بني جلدته وإعلان خروجه من العرق الملوّن العربي. هو يريد أن يقنع البيض بأنه أبيض مثلهم، وأكثر. هو بالفعل تطرّف في عنصريّته إلى درجة أن بعض البيض هنا نفروا منه. هو مثل رجل أسود أمضى عمره في طلاء بشرته كي يصبح أبيض ببياض أهل النروج. لكن حكمَ خطاب فؤاد عجمي كراهية وحقد شديد ضد الشعب الفلسطيني. الكتاب الذي بين أيدينا سيساعدنا على فهم شخصيّة عجمي.
زادت عنصريّة فؤاد عجمي وتطرّفه عبر السنوات وقطع مع أصدقاء الأمس من العرب الأميركيّين. صعد طبقياً وأصبح الخبير المنزلي في شبكة «سي.بي.إس» عندما كانت (بعد ١٩٨٦) تحت إدارة الصهيوني لورنس تش. تعليقات عجمي عن العرب نضحت بالسخرية دائماً، ما سرَّ الرجل الأبيض. لم يكن لديه فكرة مبتكرة، بل كان ينطق بثوابت العنصريّة العريقة في الاستشراق المبتذل - لا في الاستشراق الأكاديمي العليم والرصين. الذي قرأ الاستشراق الإسرائيلي يدرك فوراً أن عجمي كان ينقل ما يرد في كتابات رافائيل باتاي أو في كتابات إيمانويل سيفان أو موشي معوز أو موردخاي نيسان أو إيلي خدوري أو أفرايم كارش أو برنارد لويس نفسه. كان لدى عجمي موهبة في الكتابة الإنشائيّة بالإنكليزيّة وأحبّ ذلك قرّاء الصحف والمجلات هنا لأنها لم تكن كتابة مألوفة أكاديميّاً. ولو كان عجمي يكتب بالأسلوب نفسه في مديح العرب أو ذمّ الاستعمار الغربي لما كانت لغته تُعتبر مقبولة، وحتما كان سيكون هناك صرامة أكاديميّة في رفض كتاباته. أذكر مرّة أنني رأيتُ المؤرخ اللبناني، ماريوس ديب، في مؤتمر أكاديمي، وكان ذلك بعد تحوّله من أستاذ زعم (عندما كنتُ تلميذه في الجامعة الأميركيّة في بيروت) أنه متأثّر بماركسية حنا بطاطو إلى مقلّد لعنصريّة عجمي ومستسهل لإطلاق وصف الإرهاب على العرب. قلت لديب: انظرْ. لفؤاد عجمي موهبة في الكتابة الإنشائية وأنتَ تفتقر لها، كما أن الساحة هنا لا تحتمل إلا فؤاد عجمي واحداً فقط.
تعاظم دور فؤاد عجمي في الإعلام السائد هنا، وبرز في طبقة الثرثرة في العاصمة الأميركيّة. كان يقيم في نيويورك وسمحت له إدارة «جونز هوبكنز» بالسفر بضع ساعات مرتيْن أو مرّة واحدة في الأسبوع لتعليم صفوفه. لم يكن يتفرّغ للتعليم بحكم الدعوات السخيّة التي كان يتلقّاها من المراكز في أميركا ودول أخرى لإلقاء محاضرات (حتى إن جامعة الكويت طلبته لتقييم مواد علم الاجتماع في الجامعة، مع أنه لم يكن له دور إداري في جامعته). كان تلاميذه يقولون لي إن الصفوف كانت عبارة عن محاضرات من قبل أساتذة زائرين، من أصدقاء عجمي: يوم يأتي توماس فريدمان، ويوم تأتي جوديث ميلر، الخ. وهذه كانت في كليّة دراسات عليا للعلاقات الدوليّة (لكن القيمة العلميّة لـ«كليّة الدراسات الدولية العليا» في جامعة «جونز هوبكنز» كانت تتدنّى، وخصوصاً في قسم الشرق الأوسط بعد تسلّم عجمي له. وكان يدعو عدداً من العنصريّين من أمثاله لتعليم بعض المواد بصفة التعاقد. لا أذكر أن عجمي خرّج خبراء في الشرق الأوسط من حملة الدكتوراه، بعكس سلفه مجيد خدّوري الذي خرّج أجيالاً حول العالم من المتخصّصين العالميين بشؤون الشرق الأوسط).

الكتاب شبه مبتور وهو من دون مبالغة من أسوأ كتب فؤاد عجمي، لكن من أكثرها فائدة في المساهمة في فهم شخصيّته ومساره السياسي


برز عجمي في الحرب ضد العراق في ١٩٩٠-١٩٩١ وتعرّف على جورج بوش الأب. أصبح يتخصّص بنقل النصيحة الصهيونيّة الشهيرة، حول أن العرب لا يفهمون غير لغة القوّة (وكانت حنة أرندت قد ردّت على تلك المقولة الصهيونيّة مبكراً في أوائل الخمسينيّات عندما جزمت، بعكس مقولات الصهاينة، بأن اللغة الوحيدة التي لا يفهمها العرب هي لغة القوّة). تعرّف ديك تشيني والمحافظون الجدد على فؤاد عجمي ووجدوا فائدة جمّة منه، لكن دوره تعاظم قبل الغزو الأميركي في ٢٠٠٣ وبعده، عندما كان «صديقه» ديفيد بتريوس، القائد العام للقوّات الأميركيّة في العراق، يدعوه إلى بغداد للمشورة الاستعماريّة. بات مقرّباً من جورج دبليو بوش الذي قلّده، مع برنارد لويس، وساماً رفيعاً في البيت الأبيض. كيف لا يكرّمه وهو العربي الذي جاهر بتأييد غزو العراق وجاهر في المطالبة بالمزيد من القصف والوحشيّة ضد شعب العراق (مثله في هذا مثل كنعان مكيّة الذي برز مُقلِّداً هو الآخر لعجمي، مع أن الشعب العراقي والجمهور الليبرالي هنا نبذه وخصوصاً بعدما كان يكتب في مجلات صهيونيّة مطالباً بقصف مقارّ وسائل إعلام في بغداد). سعى الناشر مارتن بيرتز (انظر أدناه)، وكان يعلّم صفاً في اللغة الإنكليزيّة في هارفرد، كي يحصل عجمي على عرض للتعليم في الجامعة الشهيرة. زار عجمي الجامعة، وكتبت مجلّة الجامعة، «ذا كريمزن»، مقالة عن زيارته وعن العرض الأكاديمي له. كان ذلك في عام ١٩٩٢ وكنت في زيارة بحثيّة في الجامعة وقابلت الأستاذ العراقي فيها، محسن مهدي. وكان مهدي قد تسلّم في عام ١٩٧٠ رئاسة قسم الشرق الأوسط في الجامعة بعد تقاعد هاملتون غيب (تسلّم مهدي إدارة مركز دراسات الشرق الأوسط بعد انتقاله إليها من جامعة شيكاغو). وفي المقالة عن زيارة عجمي للجامعة، استشهدت المقالة بأستاذ في الجامعة، طلب ألا يُذكر اسمه في المقالة. أخبرني مهدي أنه هو كان الذي استشهدت به المقالة في نقد عجمي. وقال مهدي: لا مانع أن يذمّ الدول العربيّة، لكن لهجته شديدة التبجيل والاحترام في ما يتعلّق بدول الغرب وسياساته. وقال مهدي: إنه يعرف عن عجمي من ظهوره الإعلامي وليس من إنتاجه الأكاديمي. درس عجمي العرض، وطلب أن تبقى إقامته في مدينة نيويورك كما أنه طلب ألّا يدرِّس صفوف السنة الأولى والثانية. أفهمته إدارة الجامعة أن وجوده ضروري في المدينة، كما أن التقليد التاريخي في الجامعة أن يواظب الأساتذة، حتى حملة شهادات نوبل في اختصاصهم، في تعليم طلاب السنة الأولى. رفض عجمي العرض وحافظ على وظيفته في «جونز هوبكنز» قبل أن ينتقل إلى كاليفورنيا في «مؤسّسة هوفر» اليمينيّة التابعة لجامعة ستانفورد، وإن كانت مؤسّسة أبحاث لا تملك صلاحية تخريج تلامذة.
مات فؤاد عجمي في عام ٢٠١٤، وقبل أشهر علمنا أن زوجته عثرت على مخطوطة له عن سنوات طفولته في جنوب لبنان ثم الكرنتينا. عمل ليون فيزلتير على نشرها في كتاب (ليون فيزلتير واحد من صهاينة المجلّة المتطرّفة «ذا نيو ريبلك» عندما كانت مملوكة من مارتن بيرتز، الذي جعل من المجلّة من أكثر الأصوات تطرّفاً ضد الشعب الفلسطيني. المجلّة الآن تحوّلت باتجاه ليبرالي أقلّ صهيونيّةً عما كانت عليه. وليون فيزلتير فقد وظيفته في زمن «وأنا أيضاً»، عندما ظهر إلى السطح عنه تاريخ طويل من اتهامات بالتحرّش الجنسي ضد عاملات في المجلّة). الكتاب شبه مبتور، وهو من دون مبالغة من أسوأ كتب فؤاد عجمي لكن من أكثرها فائدة في المساهمة في فهم شخصيّته ومساره السياسي. الكتاب أفضل تعريف لشخصيّة عجمي. تكتشف في الكتاب أن الرجل نبذ أهله وبلده قبل أن يغادره. وهو عانى كثيراً من شظف العيش، ولهذا سعى جاهداً كي يصعد السلّم الطبقي بسرعة. ترك لبنان في عام ١٩٦٣ بعد الدراسة الثانويّة ولم يزره لنحو عقدٍ من الزمن. تعرّفت على عرب كثيرين في الجامعات الأميركيّة ولم أسمع في حياتي عن طالب عربي جاء إلى أميركا بهدف الدراسة الجامعيّة وغاب عن بلده لعقد من الزمن. لا يمكن أن أتصوّر طالباً لبنانيّاً يترك لبنان لهذه الفترة الطويلة. عجمي كان في مهمّة، والمهمّة تطلّبت أن يبتعد جغرافياً ونفسيّاً عن بلد منشئه. في كل ما كتبه عن العرب، وخصوصاً عن أهل الجنوب في الكتاب، تجد المذمّة والاحتقار الذاتي. وهذا الاحتقار الذاتي يفسّر المسيرة التي نقلت عجمي من حي الكرنتينا إلى المُجاهرة بالصهيونيّة.
والصهيوني ليون فيزلتير، الذي سبق ذكره، يقرّظ الكتاب في غلافه ويقول: «لم أقرأ قطّ عرضاً فاتناً للخيبة أكثر من هذا... ولم أعرف أبداً رجلاً أكثر انغماساً باستقلالية في ثقافته من فؤاد عجمي». طبعاً، فيزلتير يعني الثقافة العربيّة، لكن هذه الشهادة تبطل كل مسيرة عمل عجمي. عجمي سعى كي لا يُحسب على العرب وعلى الثقافة العربيّة. لكن فيزلتير يعترف بأنه بالرغم من إعجابه وصداقته معه، فإنه لا يستطيع أن ينظر إليه إلا كرجل ملوّن من جنوب لبنان. فشلت مسيرة عجمي في هذا الاعتراف — الذّم في معرض المديح. لا يستطيع الأسود أن يطلي بشرته، كما أن العربي في الغرب لا يستطيع أن يصبح رجلاً أبيض مهما اعتنق من الفكر العنصري الأبيض. الطريف طبعاً أن فيزلتير يحكم على عمق انغماس رجل عربي بالثقافة العربيّة، مع أن الحكم صادر عن رجل لا علاقة له بالثقافة العربيّة والشرق الأوسط، باستثناء شدّة مناصرته للصهيونيّة. عجمي نفسه صرّح في مقابلة مع داود الشريان بأنه يعتبر نفسه أميركياً لا عربياً وأنه أكثر أميركيّةً من الأميركيّين أنفسهم. لو أن فيزلتير شاهدَ تلك المقابلة لعجمي لأدرك أن مديحه مذمّة في اعتبار عجمي. ولدَ الرجل غريباً في لبنان، ومات شديد الأميركيّة في أميركا.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@