بشكل من الأشكال، مرت مسألة «اعتكاف» رئيس الوزراء الأسبق، سعد الحريري، وكأنها حدث «عادي» أو «طبيعي». هذا الحدث «العادي» أملى أن يعتزل رئيس تيار «المستقبل» العمل السياسي بشكل شبه كامل. أملى عليه، أن ينسحب وتياره من المشاركة في الانتخابات النيابية التي أجريت في الربيع الماضي. أملى كذلك، أن يُمنع من الإقامة في بلده وفي منزله، وأن يوضع في شبه إقامة جبرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحت رقابة غير مباشرة من قبل ولي العهد السعودي بواسطة حليفه الإماراتي محمد بن زايد.لم يتساءل الرأي العام السياسي اللبناني التقليدي، لماذا حصل ذلك وكيف له أن يحصل؟! انصبَّ الاهتمام فقط على ماذا سيحصل بعد، وهل ستعود المياه إلى مجاريها بين ولي العهد السعودي وسعد الحريري؟! سعد نفسه، وبالعمق، لم يتساءل عن مسؤولية والده عن نسج علاقة مع قيادة المملكة، على هذا النحو من «المونة» والالتحاق.
حصل ذلك، ويستمر، على رغم الخطوات والتدابير الحادة والصاخبة التي رافقت انفجار النقمة السعودية على وارث رفيق الحريري، الذي كان أقرب إلى الأسرة المالكة السعودية من حبل الوريد! الواقع أن ولي العهد السعودي، في نوبة غضب وعجز متصاعد و خسائر فادحة في الأرواح والمعنويات والأموال، منذ غزوه اليمن عام 2016، قد قرر تجاهل صمود «أنصار الله» (الحوثيين) وتوجيه نقمته إلى طرف خارجي هو إيران ومعها «حزب الله» اللبناني. كان على سعد الحريري أن يتولى مواجهة «حزب الله» في لبنان لإشغاله عن دوره اليمني الذي يعتقد ابن سلمان أنه كبير وأنه يجب أن يتوقف وأن يدفع «حزب الله» الثمن في لبنان وليس في أي مكان آخر. كان لسعد الحريري رأي آخر: واضح وحاسم أبلغه للملك السعودي، كما ذُكر قبل فترة وجيزة من احتجازه: «حزب الله» قضية إقليمية، ولا قدرة لي ولا للبنان على معالجتها»! وهكذا جاء الرد سريعاً من وليد العهد: الاحتجاز والإكراه والإهانة. كان سعد رئيساً للحكومة اللبنانية. رغم ذلك، لم يتردد ولي العهد في استدراجه واختطافه. استدعى ذلك ردّ فعل دولياً إزاء تصرف غير معتاد في تقاليد العلاقات بين الدول! اضطر ابن سلمان للإفراج عن الحريري من دون أن يتراجع عن مطالبه وخطته: إمّا أن يعمل سعد وفق ما تمليه السعودية أو أن لا يعمل إطلاقاً! هكذا جاء الاعتكاف المزعوم «طوعياً» فيما هو ثمرة عملية ضغط وإكراه ومنع من العمل السياسي بالكامل. جاء ذلك في امتداد محاولات لاستبداله بأخيه بهاء، وبعد دفعه إلى الإفلاس والإقفال خصوصاً «مملكة سعودي أوجيه». لقد أفلس سعد وأُذل وقُمع ومُنع، فيما كان «سياديون» منافقون يحجون إلى السعودية للتحريض عليه ولنيل «بركات» المملكة وولي عهدها!
يحدث للمرة الأولى، ربما، في تاريخ العلاقات بين الدول، أن يفرض على رئيس حكومة أن يستقيل من قبل سلطة خارجية، ثم يفرض عليه، عندما لم يستجب لأوامر تلك السلطة بإدارة فتنة أهلية في بلده، أن يصبح مطارداً سياسياً واقتصادياً وشخصياً، ثم يُمنع من ممارسة العمل السياسي في بلده تحت التهديد والوعيد!
الواقع أن هذا التهاون بالاعتداء على سيادة لبنان، هو امتداد لما طبع نهج ومواقف مجمل فريق السلطة مع الأزمة الطاحنة التي عصفت بلبنان وباللبنانيين


مرّ حادث اختطاف الحريري، في لبنان، بأقل قدر من الاهتمام الجدي. تركز المطلب اللبناني، كما أشرنا، على إنهاء العملية، لا على البحث في أسبابها. ويخوض معظم الإعلام في بيروت، ويخوض العديد من القوى الحزبية ذات الاتجاه اليميني، معركة ضارية لمصلحة السعودية وسلطاتها على رغم مسؤولية ولي العهد عن اغتيال الصحافي جمال الخاشقجي بأوقح وأبشع الوسائل في القنصلية السعودية في إسطنبول بعد أقل من سنة على احتجاز الحريري. يندرج ذلك ضمن دعم خطة ولي العهد السعودي لتحويل المملكة باتجاه الاستهلاك و«الترفيه»، وللانتقال من الاعتماد على التيار الديني ومؤسساته القمعية قاعدة للنظام الملكي المطلق، إلى الاعتماد على الطبقة التجارية الكبرى والطبقة الوسطى. تستقطب المملكة الآن، وفرة وفيرة من الفنانين والفنانات، من لبنان خصوصاً، فضلاً عن الكثير من الإعلاميين من صنف المرتزقة ممن لا يزالون يتكاثرون يوماً بعد يوم. أمّا على المستوى الشعبي، فقد كان الوجوم سيد الموقف بالنسبة للتيار «الأزرق» الذي لم يحرك ساكناً تحت وطأة التهيب والمفاجأة. أمّا سبب ذلك التعامل البارد، نسبياً، فيجب البحث عنه في خلل العلاقات بين قوى الداخل (كمنظومة وكأطراف) وبين الخارج. لقد تكرست، منذ نشوء الكيان اللبناني، علاقة مرضية مع الخارج الاستعماري والإمبريالي تقوم على التبعية والالتحاق سياسياً واقتصادياً، بهدف الحماية من جهة، أو بهدف تغيير التوازنات عندما يكون الاستقواء بالخارج ضرورياً. ولقد توسعت وترسخت هذه العلاقة بأبعاد اقتصادية وسياسية وطائفية ومذهبية حتى تحولت «ثقافة» قائمة بذاتها «يعتز» بها لبنان وبسواها «يهتز» كما لخّص أحد منظري «الصيغة اللبنانية الفريدة»! إذاً، لقد اندفع أرباب منظومة التحاصص في طلب الولاء والتبعية للخارج والاستقواء به، ما جعل الأمر يقع خارج كل تعارض مع السيادة التي امتهن فريق من اللبنانيين أن ينادي ويباهي بها، حتى وهو يُدير علاقات تنسيق وتعاون مع أعداء لبنان بمن فيهم العدو الصهيوني!
الواقع أن هذا التهاون بالاعتداء على سيادة لبنان، هو امتداد لما طبع نهج ومواقف مجمل فريق السلطة مع الأزمة الطاحنة التي عصفت بلبنان وباللبنانيين فحوّلت أكثريتهم الساحقة فقراء بفعل النهب واللصوصية والفساد. على رغم كل ما تكشّف من فشل النظام وعجزه وإفلاسه، فقد دأب أقطاب سلطة المحاصصة على التمسك به، بشكل كامل. وهم بعد أن أضعفوا البدائل التغييرية التي رفعت شعارات إلغاء الطائفية السياسية والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية وبناء دولة قانون ومؤسسات، نجحوا كذلك في تجويف تغييريي 17 تشرين بحيث اقتصرت مطالبهم على نقد الحكام من دون النظام الذي هو سبب الانهيار والتوترات وعدم الاستقرار، والتبعية هي بمثابة القلب من الجسد. في كل تعاملهم مع الأزمة، دأب أقطاب المحاصصة الذين يدّعون الدفاع عن مصالح هذه الطائفة أو ذلك المذهب، على الدفاع عن مصالحهم، أي عن مصالح البرجوازية الكبرى في حقيقة الأمر، وبالتالي، وبالتأكيد، عن نظامها التبعي الحالي الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن انهيار لبنان وتدمير مؤسّساته وتجويع شعبه وتعريضه للتشريد والهجرة والإفلاس والضياع.
سعد الحريري تمرَّد، جزئياً، على مرجعيته السياسية الطائفية، فكان ضحية، وينبغي أن يصبح عبرة! هو تراجع و«انكفأ» من دون أهوال وتهديدات كبيرة كانت وما زالت تستهدفه. لكن في مرحلة ما، تصرف بمسؤولية، تمرَّد، رفض الفتنة... وانطلق في ذلك من مصلحة لبنان واللبنانيين ودفع الثمن!
لا بدَّ لأي مشروع تحرري لبناني من أن يبدأ من الأزمة الحقيقية لا من قشورها فقط.

* كاتب وسياسي لبناني