ما يميّز عصرنا عن عصور الظلام شدة الضوء التي أعمت كثيرين. وإنّ كثرة الحرية وإطلاقها صنعت من كل فرد مشروع طاغية، يمارس حريته حتى الانفلاق على حساب آخرين، ممّن هم من أبناء جنسه. وقد شرعت له مجموعة من الفلاسفة، أمثال سارتر ونيتشه وغيرهما ممن جنوا على البشرية بعقدهم، وبفلسفات تركزت على ردود فعل متطرفة، أرادوا بها حلولاً لمشكلات اجتماعية وسياسية وثقافية، فكان العلاج المفترض سبباً في مشكلات جديدة. وإن قال البعض إنّ هؤلاء قدّموا بعض القيم الإضافية على الساحة الإنسانية، قلنا إن الأمر طبيعي، ففي العلوم الاجتماعية بشكلٍ عام ليس ثمة صفر أو واحد، ولكل اتجاه إيجابيات، ولكن دعونا ننظر في التداعيات الكارثية لبعض الأفكار التي يطلقها هذا الاتجاه. وإنّ من نكد الدهر أن يتم التركيز على هؤلاء في الجامعات من دون غيرهم، ويُذكروا وكأنهم حققوا للإنسانية فتحاً عظيماً، لكن يغيب عن الأذهان أن معظم آلام الشعوب اليوم هي بسببهم بشكل رئيس وبسبب أمثالهم.والنقاش في باب الحرية طويل، وطويل جداً على بساطة مطلبه، ولكن يجري التعقيد فيه لأسباب عدة، تجعل تناوله من قبل المنظرين كمن يلف يده اليمنى حول رأسه ليصل إلى أذنه اليسرى التي توجعه، مع وجود اليسرى القادرة وغير المشغولة. ولكن، بكل الأحوال، سيقف الجميع أمام محكمة العدل الحق، الوحيدة التي ستنصف الجميع، فالمحاكم الباقية، كمحكمة التاريخ والشعب، أثبتت أنها هراء على ورق سرعان ما يأكله العث.
الإشكاليات كثيرة، وطرحها بأسلوب التساؤل يحفز العقل، ويفسح المجال أمام النقاش البناء، ويساعد في اتخاذ القرار الأصح تجاه هذه القضية التي يتلطى خلفها الفاسدون والمفسدون في الأرض، مرة في حرق القرآن الكريم والاعتداء على المقدسات، وأخرى في احتلال واستعمار الشعوب، وغيرها من التجاوزات التي تتسافل عن مرتبة غير الإنسان، لتصل إلى درك يتبرأ منها حتى الشيطان.
أمّا الإشكاليات، التي هي -كما قلت آنفاً- كثيرة، وهي تذكرني بالمرأة النجيبة التي توجهت إلى الناس المستقبلين للزمخشري استقبال العظماء لأنه وضع ألف دليل على وجود الله، فقالت لهم لو لم يكن لديه ألف شك على وجود الله لما وضع الألف دليل، والمقصود من هذه القصة أن الأمر ليس بحاجة إلى كثير النقاش المعقد لنصل إلى رسم حدود الحرّية. فعلى سبيل المثال، تجربة بسيطة للباحثة مارينا إبراموفيك لتخلص أن الحرّية لا يمكن أن تمنح بصورة مطلقة من دون رادع أو قانون أو نظام. إذاً، الإشكاليات هي كالآتي:
1. هل يولد الإنسان حراً بالمطلق، أو حتى جزئياً، فمن منا اتخذ قراراً يعبر فيه عن حرّية عند ولادته؟
2. تقر بعض الأديان والتشريعات الوضعية أعماراً محددة يكون الإنسان قبلها غير مسؤول عن تصرفاته، وهذا يعني أن حرّيته منقوصة، تؤثر فيها عوامل ضاغطة، ليس أقلها عدم اكتمال النضج. فإلى أي مدى يستطيع ممارسة حرّيته، وهل تُسمّى حرّية في هذا المقام؟
3. هل يصبح الإنسان حرّاً بالمطلق عند بلوغه الرشد، وهل تكون قراراته متخذة ومنفذة بواسطة أدوات يسيطر عليها بالمطلق، كبعض أعضائه والوقت، وما يملك -وهي ملكية اعتبارية، ليس بمقدوره التصرف بها من دون حد- أم أنّ سيطرته مقيدة. فعلى سبيل المثال: هل يستطيع هذا الإنسان منع الأذى عن نفسه وعن غيره لو قرر تعاطي المخدرات، أو هل تستجيب أعضاؤه له بالمطلق في أي فعل يقوم به؟ أو هل يستطيع منع الكثير من العمليات الداخلية، ومنع مساره النمائي أو الانحداري، أو إيقاف عمره عند حد معين؟
4. هل الإنسان كائن، يحيا في نظام مغلق، أم أنه في علاقة تبادلية يؤثر ويتأثر مع محيطه؟ وهل اتخاذه لأي قرار وأي حرية يمارسها حتى على نفسه، لها تأثير على من حوله؟ فمثلاً: إن شرب الخمر وفقد عقله، فهل يكون في موقف يمارس فيه حريته، أم أنه أصبح محكوماً لهذا الفقدان؟
5. هل يمكن أن تستقيم الحرّية بمعناها المقيد في إطار ازدواجية المعايير، فلا بأس بالاعتداء على مقدسات جماعة بشرية كالمسلمين وبعض الجماعات الأخرى كجماعة ناطوري كارتا، اليهود المعاديين للصهيونية، ويحرم الاعتداء على جماعة أخرى كاليهودية الصهيونية؟
6. لم يُسمح بحرق القرآن الكريم، ويُعتبر الفعل من الحرّية، ولا يُسمح لروجيه غارودي (رحمه الله) بأن يُناقش في مسألة تضخيم الهولوكست التي حصلت في أوشفيتز؟
7. على أي أساس يُعتبر الحجاب مساً بالحريات، مع أن مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وخصوصاً المادة 18 تكفل هذا الحق، وتعطي الحرّية في إظهار المعتقد، ويُعتبر التعري من دون أي قيد تعبيراً عن الحرّية؟
خلاصة القول: الحرّية، مفردة جميلة إن فهم الإنسان معناها العميق، وهي حرية مقيدة وواسعة في الوقت نفسه، ولكن محكومة بمنطق التكامل الإنساني، أي أن يكون الإنسان متفاعلاً في دينامية الخير، على تنوع أوجهه، بدءاً من النقاش البناء الذي يراعي احترام حرّية الآخر في أن يكون بمنأى عن الأذى النفسي المتقصد، وليس انتهاء بتنظيم تعامل هذا الإنسان مع التنوع البديع في الأرض، وما بعدها قليلاً، وبعيداً من منطقة الشر، فهو مؤتمن بأن يأخذ هذه النفس إلى رقيها، لا إلى سقوطها.

* باحث سياسي