لا شكّ في أن جيلاً عربيّاً كاملاً يتحمّل مسؤوليّة كبيرة في توالي النكبات علينا لأنه خفّف من خطر المشروع الصهيوني، أو بالغ في قياس الإعداد العربي لمواجهة مشروع الدولة اليهوديّة (من أمثال رياض الصلح وقادة العرب الذين كانوا حتى 1948 يتحدّثون عن «خطة سريّة» لإلحاق الهزيمة بالعدوّ). ولا شكّ في أن التخفيف من أخطار وقوّة العدوّ كان سبباً من أسباب الهزيمة الشنيعة في 1967 (ربّما كان جمال عبد الناصر من أكثرهم عقلانيّة في تقييم قوّة الخصم، وكان يردّد انه يحتاج إلى وقت لإعداد القوّة العسكريّة، وكان حتى 1967 يقاوم ضغوط التهوّر التي كان يقودها البعثيّون في سوريا والنظام الهاشمي في الأردن).
ومسألة التقييم العلمي لمكامن القوّة والضعف في كيان العدوّ مسألة دقيقة: لو أنتَ (أو أنتِ) بالغت في حسبان القوّة فإنك تساهم في التيئيس الذي قاد إلى التسليم بجبروت إسرائيل وسهّل من مهمّة السادات الذي زاد من ضخ دعاية التيئيس في صفوف الجمهور المصري (من يقرأ مظاهر الرأي العام المصري والتسليم الحماسي بطغيان السيسي يصل إلى قناعة ان السادات كان أنجح، ويا للأسف، من عبد الناصر في التأثير في الثقافة السياسيّة في مصر). ولو أنتَ (أو أنتِ) خفّفت من أخطار العدوّ أو من حسبان حجم قوّته، كما فعل الزعماء العرب مثل شكري القوتلي الذي طمأن وفداً فلسطينيّاً زاره قبل النكبة ان حدّاداً ماهراً في حي دمشقي عتيق توصّل إلى اختراع قنبلة ذريّة (كما روى القصّة موسى العلمي بحرقة في سيرته عن النضال ضد الصهيونيّة) فإنك ستحتّم تحقيق الهزائم المتوالية والمتراكمة. التخفيف من قوّة العدوّ هو الذي مثّله الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ الذي كان يكرّر أن لديه خطّة لتحرير فلسطين لا تستغرق أكثر من أيّام. الموازنة الدقيقة هي في تحديد موازين القوّة وموازين الضعف من دون شطط في هذا الاتجاه أو ذاك. طبعاً، إن عمليّة التحديد هذه لا يجب ان تقتصر على تقييم فرد منّا وإنما يجب ان تخضع لدراسة وافية من قبل لجنة من المختصّين (والمُختصّات) وذلك من أجل إنتاج تقييم علمي مدروس يستند إلى علم خبراء في مجالات شتّى. لكن المساهمة في هذا الموضوع، ولو كانت ذاتيّة، تبقى ضروريّة.

التخفيف من أخطار وقوّة العدوّ كان سبباً من أسباب الهزيمة الشنيعة في 1967


يتغيّر الرأي العام العربي في تصوّره لمدى الخطر الإسرائيلي. لم تعد صورة العدوّ على ما كانت عليه من قبل. لكن العدوّ يحاول ان يتلافى أخطار ومضاعفات هذا التغيّر عبر تعاون وثيق مع حكومات الخليج وخصوصاً مع وسائل الإعلام السعودي (درجت محطّة «العربيّة» على نشر أسماء قتلى (قتلة) جيش العدوّ، كما انها باتت تقلّد صحف الغرب في نشرها عناوين عن «مقتل فلسطينيّين» في غزة من دون تحديد هويّة القاتل فيما تعنوِن ان «حماس» «صفّت» جنوداً للعدوّ، ربّما لأن كلمة «صفّى» توحي بالوحشيّة). لكن هناك نواح عدّة في مكامن الضعف عند العدوّ لا تستطيع الدعاية الصهيونيّة ان تمحوها.
أوّلاً، العامل الديمغرافي. من المعروف ان العامل الديمغرافي مقلق للنخبة العنصريّة الحاكمة منذ ما قبل إنشاء الدولة، لكنه تعاظم في الخمسينيات وبكلام صريح عن كيفيّة التعامل مع الأكثريّة العربيّة التي أصبحت - بالقوة العسكريّة والطرد - اقليّة. لكن هناك أكثر من جانب لهذا الأمر: في الوقت الذي تنمو الأقليّة العربيّة في فلسطين 1948 (دلائل النسبة المستقبليّة تتضح في نسبة مَن هم تحت سن الـ19، إذ انهم يشكّلون نحو ربع السكّان، فيما هم نحو خمس السكّان في المجموع). وهذا النموّ يقابله في الجانب الآخر شيخوخة بين اليهود (وقد هاجر من اليهود من روسيا وأوروبا الشرقيّة مَن لم يكن في سنّ الشباب، ونسبة الخصوبة متدنيّة بينهم). وتزيد نسبة النموّ بين العرب عن اثنيْن في المئة فيما هي أقلّ من اثنيْن في المئة بين اليهود (هي عالية بين «الحريديم» وتقارب الخمسة في المئة). وهناك عامل آخر، يعيش كثير من الإسرائيليّين اليهود (تعدادهم يقارب نحو ستة ملايين) خارج فلسطين التاريخيّة (المُحتلّة). هناك أكثر من نصف مليون حامل للجنسيّة الإسرائيليّة يعيش خارج دولة العدوّ في أميركا، وهناك عشرات الآلاف ممن يعيشون ويعشن في دول أخرى حول العالم. ويقول خبراء العنصريّة الإسرائيليّة (وبينهم المؤرّخ مايكل أورن، الذي شغل منصب السفير الإسرائيلي السابق في أميركا، في مقالة «المخاطر الوجوديّة السبع» في مجلّة «كومنتري» قبل بضع سنوات) أنه لا يمكن لليهود ان يحافظوا على التوازن بينما يعتبرونه «ديمقراطيّة» إسرائيل وبين يهوديّتها إلا إذا بقيت نسبة اليهود فوق نسبة 75% في المئة. هذا يفسّر لماذا هذا الإصرار المجنون من دولة العدوّ على الحصول على اعتراف عربي رسمي بيهوديّة الدولة لأنها تريد مأسسة اليهوديّة في الدولة حتى لو تناقضت مع الواقع الديمغرافي أو الواقع الديمقراطي العددي. تريد إسرائيل ان تحتفظ بحق رمي الأطفال العرب الذين يفيضون عن النسبة التي تريد دولة العدوّ المحافظة عليها. (في المناسبة، كشفت الصحافة الغربيّة ان وزراء دول مجلس التعاون الصهيوني قبلوا رسميّاً مبدأ يهوديّة الدولة لكن محمود عبّاس عاد وخاف ان يوافق عليها في مجلس جامعة الدول العربيّة). ويحاول اليهود تلافي أخطار التغيير الديمقراطي عبر وسائل وخدع مختلفة منها الطلب من الدول الغربيّة تشجيع توطين الفلسطينيّين في أراضيها، والتهجير القسري التي تعمد إليه دولة العدوّ. لكن ماذا سيفعل العدوّ، بعد عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة؟ هذا خطر داهم لا حلّ له عندهم.
ثانياً، بات هناك مَن يقهر العدوّ «الذي لا يُقهر». لم يعد الجندي الإسرائيلي هذا البعبع الذي حيكت عنه (عن غباء وعن خبث) الأساطير في إعلام العدوّ وفي إعلام العرب. منذ ما قبل الكيان، كان العدوّ يعمد وعن قصد إلى إشاعة الذعر والرعب في صفوف العرب من سطوة وقسوة جنوده لأن ذلك كان الطريقة الوحيدة - بالتلازم مع التهجير القسري - لإفراغ فلسطين من سكّانها الأصليّين. كانت مجزرة دير ياسين مقصودة بأبعادها الإرهابيّة، وتقصّد العدوّ باعتراف مناحيم بيغن في «التمرّد» إشاعة أخبارها بين العرب. وحرب 1967 كانت في تطبيقها وفي سرعتها خطة مقصودة لإشاعة الذعر في صفوف جنود العرب. صحيح ان حرب 1973 (التي انتهت بهزيمة محققة للجيش السوري والمصري) شكّلت بداية لكسر أسطورة الجندي، لكنها بقيت على مستوى من الفعاليّة للعدوّ زادها في وحشيّة اجتياح 1982 وانهيار مقاومة منظمة التحرير في جنوب لبنان آنذاك. إن حرب 2006 وحروب غزة التي تلتها ساهمت أكثر من أي مرحلة أخرى في تدمير صورة الجندي الذي لا يُقهر. وإذلال جنود النخبة من جيش العدوّ من قبل المقاومة في لبنان وغزة بات موضع تندّر على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الشباب العربي. هذا جانب لا يُشترى، ولا يمكن لأي دعاية نفطيّة أو غازيّة أن تزيله.
ثالثاً، تناقص نسبة التأييد لإسرائيل في أوساط الشعب الأميركي بين الأصغر سنّاً وبين غير البيض. وفق استطلاع حديث من مؤسّسة «غالوب» فإن نسبة التأييد لإسرائيل تزيد مع تقدّم السنّ، ومع بياض البشرة (نسبة التأييد لدولة العدوّ هي أقلّ بكثير بين السود والآسيويّين والمُتحدّرين والمُتحدّرات من أصول أميركا اللاتينيّة). والبيض سيصبحون أقليّة في أميركا في نحو ثلاثين سنة بحسب تقديرات رسميّة هنا. وتأثير العامل الشبابي يصيب اليهود الأميركيّين: فنسبة التعاطف مع دولة العدوّ في صفوفهم هي أقل من نسبة التعاطف في صفوف آبائهم وأجدادهم (خصوصاً). وعليه فإن نسبة الانتماء إلى دولة العدوّ، والتي تنعكس هجرة إليها وانخراطاً في جيشها الإرهابي، ستتقلّص باستمرار. وهذا الجانب بالغ الأهميّة لأن عامل التأييد الشعبي للعدوّ هو الأساس الذي يتعمد اللوبي الإسرائيلي عليه من أجل استمرار سياسة الدعم المطلق من قبل الكونغرس الأميركي.

إن حرب 2006 وحروب غزة التي تلتها ساهمت في تدمير صورة الجندي الذي لا يُقهر


رابعاً، تغيّر صورة الـ«موساد». كانت الـ«موساد» تخيف العرب لعقود طويلة، ونجحت تلك المنظمة الإرهابيّة في حقل العلاقات العامّة والدعاية أكثر من نجاحها في حقل الفعل على الأرض، كما قال عنها ستانسفيلد ترنر (مدير الاستخبارات الأميركيّة في عهد كارتر) ذات يوم. كان العربي يظنّ أن الإسرائيلي على معرفة بكل أحوال العرب وأن خبراء الـ«موساد» يعلمون عنا أكثر مما نعلم عن أنفسنا. ونجحت الـ«موساد» في تحقيق نجاحات ضد فصائل منظمة التحرير في الحقبة اللبنانيّة، وذلك بسبب تسيّب حركة «فتح» وتساهل ياسر عرفات مع ظاهرة التجسّس المُعادي، بالإضافة إلى خصوبة «البيئة الحاضنة» في لبنان والتي أنجبت - يا لعار مسخ الوطن - عدداً هائلاً من جواسيس العدوّ.
إن تجربة حزب الله في لبنان كانت رائدة في التفوّق على الـ«موساد»، في كشف شبكاتها (بالإذن من الإعلانات الموسميّة لأجهزة المخابرات اللبنانيّة) العاملة في لبنان، وفي اختراق الجهاز العسكري والاستخباراتي للعدوّ. وهذا ما تفعله المقاومة في غزة هذه الأيّام. وبالرغم من تحويل قائد شرطة دبيّ نفسه في السنوات الأخيرة إلى مهرّج بيد أولاد زايد المتحالفين مع الصهاينة، فإن كشفه في الإعلام طريقة اغتيال القيادي الحمساوي محمود المبحوح في 2010، وتسريبه صور إرهابيّي الموساد مع وسائل تنكرهم الهزليّة، شكّل ضربة قويّة لمعنويات الجهاز (وجاء اغتيال المبحوح بعد أربع محاولات فاشلة) كما أنه جاء بعد سلسلة من الإخفاقات خصوصاً تلك صاحبت عدوان تمّوز. لم يعد العرب يحيطون الـ«موساد» بتلك الهالة الأسطوريّة التي زرعها الجهاز الصهيوني وزرعها إعلام آل سعود، منذ سنوات مجلّة «الحوادث» (راجع كتاب إبراهيم سلامة، «غداً سندخل المدينة» عن الدور المشبوه للمجلّة).
خامساً، العامل الاقتصادي. إنّ الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد في تسليحه على التمويل القوي من الحكومة الأميركيّة، التي تموّل نحو ربع (23% كي نكون دقيقين) الميزانيّة العسكريّة الإسرائيليّة بالإضافة إلى تكريس جزء من ميزانيّة «البحث والتطوير» الأميركيّة لشؤون خاصّة بأمن دولة الاحتلال. هذا العامل مستمرّ لكنه ليس محكوماً بالاستمرار إلى الأبد. لكن من الصعوبة بمكان في ظل سيطرة اللوبي الإسرائيلي على صناعة القرار في «الكونغرس» التنبّؤ بتغيّر بأجل محدّد حول تغيّر السياسات. لكن أي تدهور اقتصادي طارئ، في ظل تنامي الجناح الليبرتاري في الحزب الجمهوري سيؤثّر في تلك الميزانيّة العملاقة.
سادساً، تنامي حركة المقاطعة. يحاول العدوّ الإسرائيلي وأعوانه العرب، وبينهم المُتسكّعون والمُتسكّعات في مقاهي «ستاربكس» المُعينة لدولة العدوّ ولاحتلالها (وما حاجة العرب إلى مقاهي مستوردة وحتى اسم «موكا» ما هو إلى تعريب لمرفأ «المخا» في اليمن، حيث كانت القهوة تُصدّر منذ القرن الخامس عشر إلى دول العالم)، التخفيف من وطأة المقاطعة لكن بعض المسؤولين الأميركيّين والإسرائيليّين (مثل جون كيري ويائير لابيد) باتوا يعترفون بخطورتها. هذه الحركة العالميّة تنمو باضطراد وتغزو حتى الدولة الأميركيّة - آخر معاقل التأييد الشعبي الغربي لدولة العدوّ. وكانت المقاطعة الرسميّة للعدوّ من قبل الجامعة العربيّة تكلّفه المليارات من الدولارات وفق دراسات «خدمات بحوث الكونغرس»، ولهذا استحصلت الحكومة الأميركيّة على ضمانة من دول الخليج ومصر عام 1990 على إلغاء المقاطعة العربيّة الرسميّة (خصوصاً مقاطعة الدرجة الثانية المهمّة) من قبل الجامعة العربيّة مقابل شنّ الحرب الأميركيّة على العراق.
سابعاً، تنامي العداء لإسرائيل في دول العالم قاطبة. من المعروف ان نسبة التعاطف مع العدوّ في الرأي العام الأميركي هي ثلاثة إلى واحد في الاستطلاعات. لكن هذا التعاطف والمناصرة القويّة لا تتوازى في دول الغرب الأخرى. على العكس، فإن نسب التعاطف مع العدوّ في دول الغرب في تناقص مستمر.
وفي وقت تجد نسبة 57% من الأميركيّين أن عدوان إسرائيل على غزة هو مُسوّغ، فإن الصورة مختلفة في دول الغرب. وهذا تحوّل كبير من سنوات الخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات حين بدأت صورة إسرائيل تتغيّر في الدول التي أسبغت دعماً ماليّاً وعسكريّاً على إسرائيل من باب تكفير الذنوب عن المحرقة ضد اليهود (طبعاً، إن المحرقة النازيّة ضد شعب الروما (من يعرفون باسم «الغجر») وآخرين لم تكن يوماً ذا بال). إن نسبة 27% فقط من الأميركيّين لديهم صورة سلبيّة عن إسرائيل، فيما يحتفظ 44% من البريطانيّين بصورة سلبيّة عنها، و62 % من الألمان (والألمان بعد الحرب العالميّة الثانية كانوا أكثر الدول مناصرة لدولة العدوّ) و65% من الفرنسيّين و66% الصينيّين وتتعاظم النسب تلك بين سكّان آسيا وأميركا اللاتينيّة. ويُضاف إلى هذا العامل إمكانيّة أو حتميّة صعود دول غير غربيّة في العلاقات الدوليّة وفي التحكّم بمجلس الأمن والمؤسّسات الدوليّة. هذه أمور تقلق إسرائيل التي ترمي بثقلها كلّه من أجل الاحتفاظ بالحظوة الأميركيّة.
ثامناً، انهيار النظام العربي. صحيح ان العدوّ أعاد ترتيب مصالحه في مصر بالتوافق مع أميركا (وباشتراك مريب من ناصريّين ويساريّين سابقين) لكن النظام العربي الذي أنشأته أميركا والنظام السعودي في السبعينيات، والذي اعتمد بصورة أساسيّة بعد اغتيال السادات على نظام حسني مبارك، تفكّك ولم يُعد تركيبه. هناك نظام عربي مُتفكّك ومُتشقّق وتحاول أميركا عبثاً ترميمه بالمال السعودي حيناً أو بالسلاح حيناً آخر. لكن هناك أنظمة انقرضت ولا يمكن إحياؤها، وهي رميم. لا تزال المرحلة السياسيّة الحاليّة مرحلة انتقاليّة ولم تتبلور معالمها بالكامل. الكيان الصهيوني يحتاج في مشروعه إلى نظام متخاذل أو متعامل في دول الطوق وما بعدها: هناك مقاومة في لبنان، وحرب أهليّة ضروس في سوريا وهناك النظام الهاشمي الذليل الذي لا تزال أميركا مصمّمة على المحافظة عليه كرمى لعيون العدوّ بكل الأثمان. لكن التغييرات قد تأتي بحكومات ذات مشاريع تحرّريّة ومقاومة - وهذا لم يحدث بعد لكن الحركات السياسيّة لا تزال في بداياتها. قد يستغرق التحوّل العربي سنوات وقد يستغرق عقود، والعدوّ لا يدري ما سيطالعه.
تاسعاً، وهج حركات المقاومة. لا يمكن إنكار نجاح التحريض الطائفي النفطي والغازي والذي أراد تقويض الشعبيّة التي نالتها حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. بات التأييد لحزب الله ضعيفاً جداً في العالميْن العربي والإسلامي (هل اطلعت قيادة حزب الله على التقرير الأخير لمنظمة «بيو» والتي ظهر فيها صعودٌ كبير في الصورة السلبيّة للحزب في الرأي العام العربي والإسلامي؟) ونجح تيّار دول مجلس التعاون في لصق صفة الطائفيّة بحركات المقاومة المُسلّحة. لكن هذا العامل خاضع للتغيير في أي مواجهة مع العدوّ. كانت حركة «حماس» ضحيّة لحرب من معظم الدول العربيّة الموالية للحكم السعودي، لكن صورة «حماس» تغيّرت مع أوّل صاروخ انطلق نحو دولة العدوّ. وهذا العامل قابل للتأثير في صورة حزب الله في أوّل مواجهة. لكن مشروع المقاومة المُسلّحة الذي عانى من تضعضع بسبب سوء إدارته من قبل ياسر عرفات، كما عانى من لجوء بعض حركات المقاومة إلى عمليّات نفّرت البعض في الرأي العام العربي (حتى لا نذكر الغربي)، يُعاد إحياؤه من جديد منذ حرب تمّوز والمواجهة البطوليّة، وها هو يُعاد إحياؤه من جديد في غزة. إن انتشار حركات مقاومة مُدّربة ومُجهّزة يؤثّر كثيراً في صورة العدوّ وفي قدرته على التخويف والرعب.
عاشراً، زيادة حدّة الصراع الداخلي. تزداد حدّة الصراع الداخلي في إسرائيل حول قضايا داخليّة، العلمنة وحقوق اليهود وامتيازات المتديّنين وغيرها من القضايا التي لا تمتّ بصلة مباشرة للسياسة الخارجيّة والدفاع، إذ هناك شبه إجماع على المشروع الليكودي الفاشي. هذا العامل من شأنه ان يؤثّر في على القدرات الدفاعيّة للدولة بسب زيادة الإعفاءات للمتديّنين.
حادي عشر، انهيار احتكار إسرائيل على سرديّة جرائمها. إن انطلاق وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة إعلاميّة ودعائيّة ضد الاحتلال لم يكن في حسبان المؤسّسين لدولة العدوّ. تفلّتت سرديّة الصراع من أيدي المُحتلّ. إسرائيل تعلن ان وسائل التواصل هذه عدوّة لها، كما ثبت في عدوان غزة حيث كان التعاطف للعدوّ بنسبة 1 إلى عشرين لصالحنا.
ليست هذه دعوة إلى توخّي الأريكة الأقرب لانتظار سقوط الكيان. إن لمحمود عبّاس نظريّة معروفة منذ السبعينيات: كان يدعو الى وقف الكفاح المُسلّح والاتفاق على تسوية ذليلة مع العدوّ لأنه كخبير في الشأن الإسرائيلي (في نظر نفسه فقط) يرى ان الدولة اليهوديّة ستنهار من الداخل حتماً ولأسباب ذاتيّة، وأن ما على العرب إلا الانتظار وفرك المسابح. وليست هذه دعوة إلى التسليم الجبري بعجلة التاريخ كي تأتينا بنصر من عنده. لا، إن عوامل القوّة في طرفنا (أو عوامل الضعف في نظر العدوّ) تحتاج - كما عنصر المقاومة ومُكمّلاتها - إلى تنشيط دائم وعمل دؤوب وتجديد لا يتوقّف.
والإغراق في التأمّل في وطأة مكامن الضعف ممكن أن يودّي إلى الاستهانة بمكامن القوّة الحاليّة (التفوّق العسكري النوعي، الدعم الأميركي المطلق - عسكريّاً واقتصاديّاً ودبلوماسيّاً، التحام العقيدة الصهيونيّة بين اليهود وتناحر العقائد بين العرب، السيطرة الكليّة على القيادة الفلسطينيّة المتنفّذة في رام الله، التحالف بين دولة العدوّ والنظام العربي الرسمي، اللجوء المُستمرّ إلى العدوان لفرض الأجندات الاحتلاليّة، إضافة إلى الغطاء الحكومي الغربي على جرائمها). لكن مشروع الصهيونيّة هو في أساسه غير قابل للاستمرار ويعتمد في استمراره على عوامل غير قابلة للديمومة. ان المثابرة في مقاومة وجود الكيان بحد ذاته يجب ان تبقى عنوان كل المشاريع لمصلحة القضيّة الفلسطينيّة. لم تعد فكرة تشكيل لجان عمل لما بعد تحرير فلسطين ضرب من الخيال. باتت ذروة الواقعيّة السياسيّة المحفوفة بالصواريخ.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)