علينا أن نعي جميعاً أننا، كأفراد وشعب عربي، لا نمر في مرحلة تاريخية سهلة، أقصد على الجانب النفسي والعاطفي. الهول الذي نراه كل يوم، من قتل ودمار وتوحّش، ليس بالأمر الطبيعي، ولا يجب أن يُطبّع معه. وكعربي وعربية، يمسي هدفكما إنهاء دوامة المعاناة التي تعانيها شعوبنا. حين مراقبة وسائل التواصل، نستطيع أن نرى كيف أنّنا أمّة بذوات أخلاقية منهكة وحالة نفسية وعاطفية منهارة. هذا الوباء من الاكتئاب والتعب، على صعوبته، يدل على وحدة عابرة للحدود ولو على صعيد المشاعر. بيد أنه، وعلى الصعيد العملي، فإن المسألة المحورية هنا هي ماذا تنشده وتنتجه ذواتنا المنهكة؟ فلأسباب مختلفة، أبرزها سياسية لها علاقة بالقوة الخطابية للغرب وحلفائه، تجيّر هذه المشاعر لتؤول إلى العدمية واستمرارية دوامة التدمير الذاتي لأوطاننا وإعادة تحفيز أحقاد أهلية تشعل الحرب من جديد. ففي صراعات معقّدة كالتي يواجهها وطننا العربي تصل الحرب إلى مرحلة ينسى فيها المتحاربون لماذا يخوضونها، وتتحوّل الحرب إلى غاية في نفسها لها اقتصادها ومنافعها المالية، وكذلك الإيديولوجية، وتحديداً مع أزمة الهويات عربياً، إذ يمسي الوجود الإيديولوجي والمسيّس لبعضها مرتبطاً بوجود الحرب، وإيقافها ينهي هذا الوجود. من هنا نرى لا منطقية وتناقض المواقف من حصار سوريا. فرغم معرفة الأغلب أثر الحصار على زيادة معاناة السوريين الذين تأزّمت عواطفنا لهول ما يمرّون به في المقام الأوّل، فإنّ القوة الخطابية الغربية عن «العقوبات على الأسد»، والضخ الاعتباطي للمشاعر وأكثر من عقدٍ من حفلة تنكّر عالمية للتضامن مع السوريين، تؤول في الأخير إلى العدمية؛ سرديّة ليكن ما يكون فالوضع سيّئ في كل الأحوال، وعبارات مثل «لم يبق بلد أصلاً»، كما زيف لفظ «عقوبات» (يخيّل لكثيرين أن المسألة هي جريمة/عقاب). وبسبب اعتباطية المشاعر، يميل المرء إلى حالة من التشفي من كل شيء حتى سوريا نفسها كوطن، ونرى مشاهد فيها من الأسى والعجب، كما لو أنّك تحدّثت عن أثر الحصار على السوريين فستُشتم ويُعدّ فعلك لا أخلاقياً وجريمة، بينما كل ما في الأمر أنّك أفسدت حالة التشفي الاعتباطية، و«العقاب» الشبه إلهي من السماء، لمجموعة من خلف الشاشات تريد أن تخلق تصوراً كسولاً يريح ضميرها على حساب سوريا.
المؤلم أنه، وبمنظور تاريخنا كعرب، فإنّ ما يحدث تكرارٌ مهول لما حدث مع الشعب العراقي، وللأدوات الأميركية ذاتها، بل هو في حد تطابق حرفي بين الخطاب السياسي الأميركي في التسعينيات واليوم. والأنكى إعادة إنتاج مخبرين محليين للنسخة السورية من نموذج التنكيل بالعراق.

المخبر المحلي
لاحظوا كيف أنّ كل أولئك الذين ما فتئوا يردّدون أن المستبد يختزل الوطن في ذاته، وأنّ من طبائع الاستبداد أنّ الوطن هو الحاكم، والحاكم هو الوطن...هم أنفسهم اليوم من يعاملون الأوطان بأنها شخص الحاكم: فالعقوبات على بشار الأسد، والحرب على صدام، والقصف على القذافي...وكأن لا وجود لأوطان ومجتمعات ودول.
هم هنا أوّل من يتبنّى ذهنيّة المستبد، والأهم، والأمر ليس محض مصادفة، أنّهم مجرّد مكرّرين للخطاب الغربي الذي ألحقهم بشبكات أمواله «غير الحكومية» (تحاول برلين اليوم لعب دور لندن ضد العراق). فالخطاب السياسي الغربي، وضمن الاستشراق اللازم فيه، يحوّل المجتمعات والدول الأخرى إلى شخص، اسم زعيم أو رئيس، ويسرد الأميركيون التاريخ كتفاعل وصراع مع هذه الشخصية السحرية التي تختزل ملايين البشر وآلاف الكيلومترات المربعة من الفيافي والبنى التحتية من مدارس وجامعات ومشافٍ، وبطبيعة الحال تمثّل طرف الشر، فيباح كل شيء في مواجهتها (تخيّلوا مثلاً مدينة بعراقة دمشق بكل حمولتها التاريخية تُختزل في عائلة الأسد وفي أنّها «مناطق النظام»).
هيمنة هذا الخطاب هي العماد الذي يستند إليه الأميركيون والمخبرون المحليون معهم في ممارسة جرائم الحصار والاحتلال، وكذلك الصهاينة؛ فالحصار على غزة وقصفها هما حصار وقصف لـ«حماس»، والضحايا مجرد أضرار جانبية، والوقوف ضد هذا الحصار والقصف هو وقوف مع «حماس» - أي في الخطاب الغربي وقوف مع «الإرهاب».
في حالة العقوبات الجماعية على أوطان بأكملها تهيمن معادلة: الوقوف ضد الحصار يساوي الوقوف مع الحاكم، والمشكلة مع هذا الخطاب ليست فقط في لا أخلاقيته أو الكسل المعرفي الذي يعتريه بل في أنه غير منطقي ومتناقض


وفي حالة العقوبات الجماعية على أوطان بأكملها تهيمن معادلة: الوقوف ضد الحصار يساوي الوقوف مع الحاكم، والمشكلة مع هذا الخطاب ليس فقط لا أخلاقيته أو الكسل المعرفي الذي يعتريه بل المشكلة الأساس أنه غير منطقي ومتناقض؛ من ناحية أنه، حتى على افتراض أن غاية المخبر المحلي إسقاط النظام، الحصار لم يسقط تاريخياً أي نظام أو سلطة، ويضر المواطن البسيط ومقدرات البلد ككل. إنّ غرض المخبر المحلي هو في استمرار حالة الانتفاع المادي والاجتماعي الشخصي من علاقته بمركز القوة في الغرب. هذه وظيفته وما يتقاضى المال لأجله، وهو مجرد فرد في شبكة رؤوس أموال ضخمة عابرة للحدود، من المؤسسات البحثية والحقوقية والإعلامية التي تمثّل الذراع الثقافية للمصطلح الذي يمقته المخبر وهي: الإمبريالية.
إنّ هذه الذراع هي ما يقوم بإنتاج الخطاب السياسي الغربي الذي تستهلكه شعوبنا، ويصوغ تصوراتها ونشاطها السياسي. للباحثة الهندية شاندرا موهانتي ملاحظة لطيفة، في دراستها للخطاب النسوي الغربي للمرأة في العالم الثالث، تقول: إنّ عملية إنتاج خطاب سياسي في ظل شروط عدم تساوٍ في موازين القوى هي خصلة استعمارية. ومن ضمن هذه العملية نفهم دور المخبر المحلي العربي ومؤسساته بين مأساة سوريا ونظيرتها في اليمن، ففي الأولى الانتهازية مربحة، أمّا في اليمن فحتى الانتهازية غير مربحة مادياً في سلّم شبكة الانتفاع الغربية.

فنّ العقوبات
«فن العقوبات: نظرة من الميدان» (2017)، كتاب للمدعو ريتشارد نيفيو، وهو أحد المسؤولين عن ملف العقوبات الإجرامية على إيران. يفتتح نيفيو الكتاب بجملة أن هذا الكتاب هو للممارسين، أي لهؤلاء الذين سيمارسون عملية سنّ العقوبات على شعوب الجنوب في المستقبل. بتعبير آخر، للفتى والفتاة البيضاء في إحدى الجامعات، الذي سيثابر للحصول على وظيفة في الخارجية الأميركية وسيتعلّم هذا «الفن»، ويوظّف تحته عدداً من المخبرين السّمر الذين سيثابرون، بدورهم، على تبرير حصار شعوبهم. يُعدّ الكتاب شاهداً، ومحاولة لنيفيو، لنحت أحد مناهج العلوم الاستعمارية، ومعرفة ماهية أدوات العقوبات وكيفية تطبيقها، وكذلك التعلم عبر التجربة والخطأ، حيث يخصص فصلاً عن العراق، كحالة فاشلة يستخلص منها النتائج، حيث الضرر أنّ ملايين العراقيين كانوا مجرّد فئران تجارب للديموقراطية الأميركية. تلاحظ وأنت تقرأ هوسَ الكاتب وساديته واستخدام مفردات لها علاقة بالفن أو الطب والجراحة. باختصار، الكتاب يضع معارف ممارسة الإبادة على البشر بأفضل طريقة ممكنة، وبشواهد تاريخية تعود إلى ما قبل الميلاد، ثم يرسم ستة عوامل على ممارس العقوبات الغربي الاستفادة منها في المستقبل:
(1) حدّد أهداف فرض الألم والخطوات العلاجية اللازمة التي على الدولة المستهدف تبنيها ليخف الألم. (2) فهم طبيعة الهدف ومقدار تحمّله للألم. (3) طوّر منهجية وطرقاً لزيادة الألم متى ما استلزم الأمر. (4) راقب مفاعيل الاستراتيجية باستمرار. (5) استعرض شروطاً واضحة للدولة المستهدفة لإزالة الألم. (6) تقبّل احتمال فشل الاستراتيجية لعدم كفاءتها أو لقدرة الهدف على المقاومة. (خطّ الكاتب هذه العوامل بعد عدة صفحات من تعبيره عن حق الإسرائيليين في الشكوى من آثار حركة المقاطعة BDS).
في تشرين الأوّل الماضي، زارت المقررة الأممية الخاصة بالعقوبات سوريا، وهي عقوبات تعود إلى عام 2004، يفصّل تقريرها «مواضع الألم» التي يمارسها مهندسو ما يُسمّى بـ«قانون قيصر» (واستخدام «ما يسمى» مهم هنا، فأوّلاً هو ليس بقانون بل إجراء غير قانوني حتى في معايير القانون الدولي، وثانياً لا شرعية لقانون الأميركيين على أرضنا)، ووفقاً للمقررة، يستهدف القانون إيلام قطاعات الصحة والتعليم والنفط والزراعة والكهرباء والمحروقات والغذاء والمياه والمساعدات الإنسانية على كل السوريين في كل المحافظات بلا استثناء. مواضع الألم هذه هي ما يبرر ويعمل على ديمومتها المخبرون المحليون، أو يستخدمون محاججة أنّ كل المساعدات تُسرق فلا ترسلوها، رغم أنّ حالة الفساد والسرقة حدثت في حالة حصار العراق، فقلة الموارد تُنبت الفساد، إلا أن افتراض أنّها لا تصل بالبتة فهو مجرد مثابرة من المخبر حتى لا يصل أي شيء حتى القليل إلى شعبه. حتى مجرمٌ كنيفيو تحدّث عن الفساد في المساعدات، ولم يدع إلى إيقافها، لكنّ المستعبِد الأسود أسوأ من الأبيض، والمخبر المحلي يأبى إلا أن يكون أسوأ من سيّده.
الفارق في ما تواجهه سوريا اليوم، عن العراق، أنّ القوة الخطابية الغربية في انحدار، في ظل وضع دولي مختلف عن أوّل عقد من القطبية الأميركية. حتى المخبرون المحليون لهذه المرحلة أضعف بكثير من سابقيهم، ولم ولن تعطيهم ميركل أو بايدن ما أعطاهم جورج بوش من قبل. كل هذا يستلزم العمل المسؤول أكثر وتجيير عواطفنا تجاه ما تمرّ به سوريا نحو مصلحتها الكلية كمجتمع ومقدرات الشعب الواحد، وإن أردنا مقارعة الحصار علينا تفكيك زيف الخطاب الغربي الذي يشرعنه، ليس لأجل السوريين وحدهم، بل لكل فقراء العالم من بعدنا الذين يستهدفهم الاستعمار. أمّا بالنسبة إلى المخبر المحلي: فناصب جهدك، فلن يعصمك منّا مال أمير، ولن تجدنا إلا حيث تكره.

* كاتب عربي