لا يعدو الكلام والكتابة عن الله، كونهما مقاربة محدودة بالضرورة لله، إذ لا يمكن الإحاطة بالإله، وما نحن - فرادى ومجتمعين - إلّا بشر محدودون بألف طريقة وطريقة، وسيبقى الله متجاوزاً بما لا يُقاس كلامنا وكتاباتنا عنه، كما وكلّ العقائد الدينيّة. الكلمات إنسانيّة بالضرورة، ولا يمكن أن نقبض على الله في تعريف. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ كلّ كتابة وكلام يرتكزان بالضرورة على منطلقات إيمانيّة، وهذه تتمايز في أديان ومذاهب وفلسفات وعقائد متباينة، ومن هنا لا بدّ من أن تأتي الرؤى متباينة. كتب أحد تلامذة يسوع يوماً بأنّ «الله محبّة». عندما تقولُ المسيحيّة إنّ «الله محبّة» هي لا تعني فقط أنّ الله يحبّ الناس، وإنّما تعني أنّ ذاته هي محبّة، أنّه هو محبّة، كينونته محبّة. وبالتالي فإنّ كلّ أمر إلهيّ نعقله، نقرأه، وكلّ ما نظنّه من الله وفيه (قدرة، حكمة) يجب أن يكون مرتبطاً به كمحبّة. قدرة الله هي قدرة محبّة، وحكمته هي حكمة محبّة، إلى ما هنالك. من خلال هذه الرؤية كيف نقرأ المآسي الإنسانيّة؟
عدا الآلام الفظيعة، تثير المآسي الإنسانيّة تساؤلات من نوع: لماذا تحدث المآسي للناس الطيّبين؟ عبر التاريخ الإيمانيّ ربط الإنسانُ وقوع المآسي بخطايا يفعلها البشر، وذلك قياساً على خبرة الإنسان الملموسة من أنّ انحرافات الإنسان تستجلب العقاب في المجتمع. حين تفَكَّر الإنسان بالألوهة، لا بدّ أنّه أسقط تجربته الإنسانيّة عليها فشعر بأنّ المآسي العظام التي تحدث في الطبيعة هي عقاب إلهيّ، واعتقد أحياناً أنّ المآسي التي يفعلها البشر ببعضهم البعض لا بدّ أن تكون عقاباً على شرّ ما. ولكنّ الإنسان اصطدم بمشكلة المآسي التي تصيب البريء. قصّة أيّوب هي تماماً معركة فكريّة إيمانيّة مع هذا السؤال: إنسان بريء بارّ ومحبّ لله، لمَ إذاً تصيبه المآسي؟ فنحن فطريّاً، نشعر بالظلم أمام عقاب بلا سبب.
بعض المآسي يرتكبها البشر وعندها قد نرجعُ أسباب حدوثها إلى إرادة الإنسان عندما تنحرف عن المحبّة، فترتكب الشرّ (ارتكاب مجزرة بحقّ جماعة). ولكن حتّى عندها نتساءل كيف لا يتدخّل الله ليمنع استفحال الشر؟
وبعض المآسي هي نتيجة أحداث الطبيعة (زلزال، بركان، مرض) التي تقع على الأبرياء. لا مسؤوليّة على الإنسان عند وقوع مأساة نتيجة عوامل الطبيعة، إلّا بقدر انعدام تطبيق الناس لمحاذير السلامة (إهمال، غياب قوانين، غياب التخطيط، حصار اقتصاديّ،…). أمام الحدث الطبيعيّ، يتوجّه الإنسان إلى خالق هذا العالم، الله، ويتساءل «لماذا»؟ فالله بحكم خَلْقِه للعالم مسؤول عن وجود أحداث طبيعيّة.
هكذا، في حالة المآسي التي يختبرها الأبرياء، بسبب أذى ناتج من حرّية الإنسان عندما تجنح لفعل الشرّ، أو بسبب أذى ناتج من الطبيعة، نوجّه سؤالنا إلى المسؤول الأوّل عن وجود الخليقة (والسؤال اتّهاميّ ولو بشكل مبطّن).
هناك قراءة تقليديّة للعلاقة مع الله تقول إنّ المآسي تحدث للبريء وإنّ الله «يسمح» بحدوثها بسبب «حكمة» إلهيّة لا يمكن أن نفهمها. تحاول هذه القراءة أن تخفّف من الاتّهام المبطّن لله بمسؤوليّته عن المآسي، وترفع الاتّهام عنه بالقول بأنّ هناك أمراً جيّداً لا بدّ يصنعه الله، ولكنّا عاجزين عن فهمه. هذا الموقف، على علّاته، ينطلق من إحساس جيّد بأنّ الله لا يظلم. هو موقف يحاول أن ينزّه الله عن الظلم. لكنّ المرارة تبطّن معظم الأحيان هذا الجواب، فالإنسان عادة يشعر باللامعنى، وباحتجاج لعدم تدخّل الله لمنع المآسي.
لكنّ المجال مفتوح في المسيحيّة لقراءة أخرى، ابتكرها في الكنيسة المشرقيّة اللاهوتيّ كوستي بندلي. القراءة هذه تستند إلى كلام يسوع في الإنجيل. فحين سُئِلَ يسوع مرّة عمّن ارتكب معصية لكي يولد إنسان أعمى، هو أم والداه، رفض يسوع جملة وتفصيلاً هذا الموقف، وقال بصراحة كلّية «لا هذا ولا والداه». الإنجيل يقول إنّ يسوع أجاب ثمّ شفى الأعمى. إذاً، انطلق يسوع من العمى كواقع موجود في الطبيعة، من دون أن يعيد أسبابه لـ«ضربة» إلهيّة «حكيمة»، ثمّ قاوم مفاعيله بطريقته، بقدرته على الشفاء. واليوم، يمكن أن يقاوم الإنسان مفاعيل انعدام البصر بقوانين متعدّدة تعدّ المجتمع كي يكون قادراً على فتح مجالٍ فيه كي يحيا الإنسان الذي لا يبصر ويعمل بحسب إمكاناته.
انطلاقاً من هنا، لا تقبَل هذه القراءة الإشارة إلى مواقف الله بطريقة لا تنسجم مع المعطى الأساس: الله محبّة؛ وبالتالي ترفض التفسير القائل بأنّ الله يريد، لـ«حكمة» له لا نعلمها، أن تقع مأساة، وبأنّه يعلّم بواسطتها الإنسانَ أمراً ما، وبأنّه «يفيد» هذا الأخير من حيث لا يعلم. فإلحاق الضرر بالإنسان بحدّ ذاته غير منسجم مع المحبّة: كلّ منّا ينبّه أولاده ويحرمهم من ألعاب لفترة لكي يهذّبوا رغباتهم ويغيّروا أفعالهم، ولكن ما من أحد يقتل أحد أولاده لـ«يعلّم» الآخر درساً، أو لـ«ينقذ» القتيل من ارتكاب أخطاء كان سيرتكبها لو عاش (على هذا الأساس قتل البشريّة أمر جيّد إذ يمنع الجميع عن الخطيئة!).
إنّ القول بأنّ الله «يسمح» بالمآسي لـ«حكمة» ما، يجعله مشاركاً بوقوعها بشكل فاعل، شئنا أو أبينا. عوض ذلك، يمكن التفكّر بالأمور بطريقة أخرى منسجمة أكثر مع كون الله محبّة، ومع احتجاجنا على المأساة. إنّ الكون مخلوق، ولذلك هو حكماً متمايزٌ عن الخالق الكامل وحده. الخليقة هي حكماً ليست الخالق، وبالتالي هي حُكماً ناقصة، بحكم مخلوقيّتها. من عدم كمال الخليقة، تنبع معطوبيّتها: وجود الموت، وجود المرض، وجود الأحداث الطبيعيّة التي نعيشها ككوارث...إلى ما هنالك من خبرات نقص ومحدوديّات.
لكن، لماذا لم يخلق الله الكون كاملاً دون نقصان؟ على هذا نجيب أنّ المخلوق هو حكماً غير الخالق، وحكماً ناقص، لا يمكن تجاوز هذا المُعطى الأساس، إن آمنّا بشكل جدّي بأنّ الله محبّة. فكونه محبّة فهذا يعني أنّه يحترم تمايز الكون عنه، وبالتالي لا يخلقه دون كينونة، لا يخلقه ولكأنّه ظلّ للألوهة، أو دمية يتلاعب بها. هذا نقيض المحبّة. لهذا كلّه، لأنّ الله محبّة وخالق والكون مخلوق محبوب، فالكون ناقصٌ وفيه ما فيه من زلازل وبراكين وما شاكل.
أمّا الكوارث غير الطبيعيّة، فهي نتيجة وجود حرّية الإنسان التي خلقها الله واحترمها لأنّه محبّة. ولكن لمَ خلق الله الحرّية؟ لا يمكننا بالطبع سوى أن نتأمّل لنحاول أن نفهم. الإنسان هو المخلوق الذي نقول عنه إنّه شخص، ولعلّ كونه شخصاً حرّاً (إلى حدّ) هو ما يجعله «صورةَ الله» وخليفته. الله حرّ، وأراد - كما نلاحظ من وجودنا - أن يخلق مخلوقاً حرّاً مثله، على صورته، لكي يتمكّن الإنسان أن يحبّ مثل الله. خلق الله هذه الحرّية التي يمكنها أن تعارض الإله أو أن تحبّه. حرّيتنا هي تاج الكرامة الإنسانيّة، ولكن هي مأساتنا أيضاً، بل وهي «مأساة» الله (إن جاز التعبير) لأنّ كلّ مأساة تصيب الإنسان هي بلا شك مأساة تصيب بطريقة لا نفهمها محبَّ الإنسان الأكبر: الله. حرّية الإنسان تلد الحبّ والتعاطف والموسيقى والشعر والفرح وغير ذلك من جمالات، ويمكنها أيضاً أن تسبّب المآسي. بالطبع، بحسب الإيمان، الله لا يقف موقف المتفرّج على مآسي الإنسان، بل موقفاً فاعلاً، عاضداً للعمل الإنسانيّ الذي يواجه الظلم ويحاول منع وقوع المآسي، كما يواجه تبعات المآسي إن وقعت. كيف يفعل ذلك لا نعرف بالتفصيل، ولكنّنا نثق ونؤمن بأنّه المحبّة، ولذلك فإنّ كلّ خير وكلّ عمل لمواجهة الشرّ، ولمواجهة أثر نواقص الطبيعة، يقف وراءها الله. الله هو خلف العقل والفكر والتعاطف، هو منحنا هذا كلّه وهو يعضدنا - لا نعلم كيف - في فعل هذا كلّه. كونه أرسل الأنبياء، ثمّ أرسل كلمته بيننا ليتجسّد بيننا، دليل على أنّ الله «خاض» غمار التاريخ مع الإنسان ولم يجلس «فوق».
لِمَ خلق الله هذه الحرّية الإنسانيّة، هذا المخلوق الحرّ، إن كان يعلم أنّ حرّيته ستتسبّب بالمآسي؟ ما نعرفه من وجودنا ووجود حرّيتنا، أنّ الله - المحبّة أراد أن يدخل في علاقة محبّة مع الإنسان المخلوق وأن يغدق عليه حبّاً وفرحاً؛ وبما أنّ المحبّة لا يمكن أن تكون دون حرّية، فقد خلق اللهُ الإنسان حرّاً لكي يتمكّن من أن يحبّ الله والبشر. لا محبّة دون حرّية، لا قيمة لتقديم جواب «نعم» على محبّة الله البادئة (أو محبّة إنسان آخر)، دون أن يكون لدينا إمكانيّة قول «لا» لتلك المحبّة. الحرّية الإنسانيّة موجودة لتكون المحبّة الإنسانيّة ممكنة.
رغم محاولات الإجابة هذه، فإنّ وعينا للمآسي يوجعنا، ولا يخفّف برأيي من الوجع إلّا العمل الحثيث لمقاومة الشرّ (نتيجة انحراف الحرّية عن المحبّة) ولتقليص تبعات نواقص الطبيعة (أمراض، زلازل…). الكلّ يمكن أن يقاوم الشرّ، والكلّ من خلال نوع عمله يمكنه - إن أراد - أن يساهم في بناء مجتمع متحابّ وتأمين حاجات الآخرين الحقيقيّة والمشروعة، والكلّ يمكنه أن يتبرّع بماله، ووقته، إلخ… وبالرغم من وجعنا جرّاء وعْينا، وتعبنا، هل يتمنّى أحد منّا لو أنّه ولد حجراً، مثلاً، عوض أن يكون إنساناً؟
لقد حاولنا أن نحلّل ما أمكن بالعقل الذي منحنا إيّاه الله، لكن لا جواب للسؤال الأخير: ولماذا أراد الله مغامرة الخلق هذه؟ فلقدرتنا على التأمّل في إرادة الله حدود تكلّمنا عنها في البداية. أمّا بالنسبة إلى من آمن بيسوع، فيكفيه أنّ الله، من خلال خبرة يسوع، أخذ على نفسه أوضاع الخليقة وخبرتها (ما خلا الخطيئة). بيسوع «اختبر» الله المآسي الإنسانيّة كمن يختبرها «من الداخل» لا كمن يشاهدها من بعيد أو من «فوق»، فصار مع الإنسان ليكون الإنسان معه، أو صار كلمة الله إنساناً ليصير الإنسان على مثاله كلمة لله.
من خلال يسوع، عرفنا أنّ الله «يحبّ الإنسان حبّاً جنونيّاً» كما كتب القدّيس نيقولا كاباسيلاس يوماً. وفي قارب الحبّ هذا، يضع الإنسان أسئلته كي تذكّره بضرورة السفر أبعد؛ في قارب الحبّ يقوم الإنسان بمغامرة الحياة مع الله، ويركع مع المحبّين ركعتين في العشق ذكرهما الحلّاج، لا يصحّ وضوؤهُما إلّا بالحرّية المغمّسة بالفرح، وبالدمع، وبالدم أحياناً.

* كاتب وأستاذ جامعي