حسناً فعلت عائلة الفقيد الكبير رئيس مجلس النواب السابق المغفور له السيد حسين الحسيني، حين وزّعت على المعزّين، الذين بدا لافتاً عددهم وتنوعهم المميزان، نسخة عن الدستور اللبناني. وكان الفقيد قد سارع إلى طبع كراس بعنوان «وثيقة الوفاق الوطني اللبناني» فور ترحيل أبرز بنودها إلى الدستور اللبناني (بموجب القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990) الذي عُرف مذّاك بـ«دستور الطائف». حرص الرئيس الراحل على تقديم ذلك الكراس إلى زائريه وضيوفه الكثر، من مختلف الطيف السياسي والروحي اللبناني. في السياق نفسه، كانت تلفت زائر الرئيس الحسيني، في مكتبه، لوحة لنص مقدمة الدستور، في صيغته الجديدة، وقد جرى وضعها في إطار يحتل مكاناً بارزاً في صدر صالون ذلك المكتب.
(هيثم الموسوي)

قلنا، حسناً فعلت العائلة بتوزيع نسخة عن «دستور الطائف». أمّا الأسباب فثلاثة، على الأقل. الأوّل، يتصل بالفقيد نفسه الذي كرَّس كل نشاطه السياسي في فترة ولايته رئيساً لمجلس النواب (1984- 1992)، من أجل التوصل إلى تسوية متكاملة للنزاع المتمادي والمدمر، تبدأ بالإصلاحات التي من شأنها أن تعالج الخلل الجوهري في النظام السياسي. الثاني، هو كفاحه المثابر من أجل تطبيق ما هو الأساسي من بنود تلك التسوية والذي ما لبث أن تعثّر منذ اللحظة الأولى! والثالث يتصل بتفاقم الكارثة المتمادية والطاحنة والمستعصية والراهنة. وهي كارثة مفتوحة على الأسوأ بسبب الفئوية والرعونة والإجرام الداخلي، والاستغلال الوقح والمشبوه والخطير الخارجي (الدور الأميركي خصوصاً)؛ وما هو قائم، واقعياً وموضوعياً، من ربط بين الأزمة الكارثية الراهنة وعدم تطبيق كامل تسوية «الطائف» وعدم احترام دستورها!
في سرديته لـ«قصة الطائف»، كان «السيد» يروي، بتركيز ودقة، تفاصيل التحضيرات والتجاذبات والحوارات المتنوعة والمتشابكة ما بين الداخل والخارج. كان شغفه لا يخفى، وحرصه على الإنصاف لا يهتز، وعزمه على السعي لإحياء تلك التسوية، لا يتزعزع. ذلك أنه كان يجد فيها فرصة لبنان الثمينة لكي لا ينجرف إلى الاحتراب أو التفكك أو الانقسام أو السقوط، مجدداً، في القبضة الإسرائيلية.
كانت رواية «السيد» لـ«قصة الطائف» تبدأ بالتعهد الأميركي بالضغط على العدو الصهيوني لتنفيذ قرار مجلس الأمن 425 وسحب كامل قواته من لبنان (زارت «ترويكا» السلطة، آنذاك، واشنطن والتقت الرئيس الأميركي بوش الأب لمتابعة التعهد المذكور لكن...عبثاً). ثم هو يتوقف عند حواراته العربية وخصوصاً السورية والسعودية، وصولاً إلى القوى السياسية والدينية اللبنانية، وخصوصاً مع البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير.
صاغ النهج في مواقف و«مخاطبات» سياسية-إعلامية محتجّة ومحذّرة تضمّنها لاحقاً كتاب بعنوان «مبادئ المعارضة اللبنانية»


لم يكن صعباً الاستنتاج أن عدم وفاء واشنطن بتعهدها قد شكّل المسمار الأول في نعش التسوية المتكاملة التي كان يعوّل عليها الحسيني وفريقه. لقد ترتّب على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي تقديم سبب (ذريعة) للقيادة السورية من أجل عدم تطبيق الشق المتعلق بها والقاضي بإعادة تجميع قواتها بعد سنتين في منطقة «المديرج»، تمهيداً لانسحاب شامل: بعد أن تكون قوى الأمن والجيش اللبنانية قد أصبحت جاهزة للقيام بدورها الداخلي وعلى الحدود. أمّا الضحية المباشرة لهذا الإخلال الذي بدأ أميركياً، ومن ثم سورياً ولبنانياً وسعودياً (شراكة السين_سين)، فكان عنصر التوازن الداخلي في التسوية. كذلك الأمر بالنسبة إلى البنود الإصلاحية التي جرى تعطيلها أو تجاهلها (أو حتى مقايضتها بعدم الانسحاب السوري) حتى... اليوم! ثم إنه كان «طبيعياً»، في التوجه والعلاقات والأدوار، أن «فريق الطائف» اللبناني، بقيادة الرئيس حسين الحسيني، قد ذهب هو الآخر ضحية هذا الانحراف في التطبيق: فكان اغتيال الرئيس رينيه معوض، وسريعاً أيضاً إبعاد الرئيس حسين الحسيني عن رئاسة المجلس بتقديم الانتخابات وزيادة عدد النواب (خارج الاتفاق) وإرساء أسس التسوية الداخلية على الأمن السياسي السوري والتوجه الاقتصادي السعودي الذي جسّده آنذاك الرئيس رفيق الحريري. حصل ذلك، طبعاً، برعاية واشنطن، فهي كانت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بالتزامن مع انطلاق التسوية في لبنان، تعد لشرق أوسط جديد. وهو مشروع انطلق، بضغط أميركي، في مفاوضات موحّدة، بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في مدريد أواخر عام 1991. ثم ما لبثت أن تحولت إلى ثنائية. وقد نجم عنها اتفاقية «وادي عربة» مع الأردن، واتفاق «أوسلو» مع المفاوض الفلسطيني، فيما تعثر المسار السوري، وكذلك اللبناني بسبب عدم تنفيذ القرار 425. تحضيراً لذلك، لم تكن واشنطن مستعدة أبداً لإضعاف موقف إسرائيل التفاوضي، وهي التي دعمتها (ولا تزال) لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية بواسطة العدوان والاحتلال!
التعثُر وسوء التطبيق المبكران دفعا الرئيس الحسيني للانتقال إلى المعارضة بعد انتخابات عام 1992. حاول أن يذكّر بما تجاهله التعاون السعودي السوري لجهة التوازن وإقامة دولة المؤسسات وتطبيق الإصلاحات واستقلالية القضاء... قدّم من أجل ذلك مشاريع قوانين ذهبت أدراج الرياح. حاول بلورة ذلك في نهج وإطار متكاملين. صاغ النهج في مواقف و«مخاطبات» سياسية-إعلامية محتجّة ومحذّرة تضمّنها لاحقاً كتاب بعنوان «مبادئ المعارضة اللبنانية». أمّا الإطار فتجسد في عدد من الصيغ السياسية التي بقيت محدودة التأثير في مواجهة أطراف السلطة اللبنانية، القدماء والجدد، ورعاتهم الخارجيين الإقليميين والدوليين. أمعن هؤلاء في تقاسم الدولة، وتجويف وتطييف مؤسساتها، ونهب مواردها...وصولاً إلى الانهيار! كان يأمل الكثير من انتفاضة 2019. دعم ونصح بأن تُنظم صفوفها بوصفها «شرعية شعبية» بعد أن فقدت السلطة شرعيتها من خلال اللصوصية والنهب والفشل والعجز...لم تسر الأمور على هذا النحو لأن قادة الانتفاضة كانت تعوزهم الخبرة والاستقلالية، ولأن واشنطن وفريقها كانا حاضرين، منذ البدايات، للاستغلال وفق أهداف مغايرة!
سجّلت الوفود، الفريدة التنوع، التي جاءت للتعزية، تقديرها للرجل. بعضها ربما على شيء من الندم وكثير من المخاوف، ما زال الأمل يراوده بقادمٍ أفضل. لم يكن يعني ذلك، بشكل واضح وأكيد، استخلاص العبر والدروس رغم أن الخسائر مدمّرة والمخاطر مخيفة.
رغم الإضعاف والإبعاد، لم يتخلَّ الرئيس الحسيني عن الكفاح من أجل بناء دولة مواطنة وقانون ومؤسسات، عبر التوازن والإصلاح وتحرير الإدارة من التسلط التحاصصي الطائفي وتحرير الأراضي المحتلة من قبل العدو الصهيوني وإقامة علاقات سليمة ومتكافئة مع الشقيقة سوريا... فعل ذلك قبل استقالته من مجلس النواب محتجّاً عام 2008، وواصل نضاله السياسي بعدها، وحتى لحظاته الأخيرة.
هل ذهبت بغيابه كما في تغييبه فرصة إنقاذ لبنان؟ السؤال برسم الحريصين: للاستفادة من العبر، وللحؤول دون تبديد الإنجازات، ولمنع سقوط لبنان وشعبه في الأخطر والأسوأ.

* كاتب وسياسي لبناني