انطلقت «حركة التحرير الوطني الفلسطيني» (فتح)، قبل 58 عاماً، مُعلنةً عن «رصاصتها الأولى» فجر الأوّل من كانون الثاني/ يناير عام 1965. وعلى مدى العقود الستة الماضية، انتقلت «فتح» من كوْنها حركة تحرُّر تدعو إلى الكفاح المسلّح والثورة واسترداد الحقوق المسلوبة، لتصبح مجموعة من المراكز والتيارات والأجهزة المُلحَقة بعواصم واستخبارات الإقليم، تقودها «ديوك» تتصارع على «جيفة». هذا الانتقال، من النقيض إلى نقيضه، ومن «فتح الثورة» إلى «فتح الحكم الذاتي»، لم يَحدُث دُفعة واحدة، بل إن الحركة وصلت إلى واقعها المأسوي الراهن بالتدرُّج، وعبر آليات لا حصْر لها من التدجين والتجريف والإفساد. وبعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، تصاعَد العمل الفدائي الفلسطيني عبر الحدود، وانطلقت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وغيرها من القوى اليسارية القومية، ما دفع العدو الصهيوني إلى القيام بمغامرة عسكرية فاشلة، في 21 آذار، مارس 1968 في الأردن، استمرّت نحو 15 ساعة من القتال، وكان هدفها اختبار «قوّة المخرّبين». غير أنه اضطرّ للانسحاب بفعل صمود الفدائيين ومشاركة بعض قطاعات الجيش الأردني في تلك المواجهة، تاركاً مهمّة تصفية «منظّمات المخرّبين» في ما بعد إلى النظام الأردني، بالاتفاق مع الولايات المتحدة وبريطانيا والقوى الرجعيّة في المنطقة. مع ذلك، كان لتلك المواجهة في «الكرامة» دوراً كبيراً لجهة اتّساع التأييد الشعبي لحركة «فتح» التي اعتَبرت ما جرى انتصاراً للثورة، ورداً على هزيمة حزيران، وجُهداً مُكمّلاً لـ«حرب الاستنزاف» التي كانت تخوضها القوات المصرية. ومع بداية عام 1969، وضع الكيان الصهيوني خططاً بديلة لمواجهة الفلسطينيين؛ فبدأ في تصفية «الرؤوس الحامية» وإزاحتها من المشهد السياسي والإعلامي والثقافي، فيما لعب جهاز «الموساد»، بدعم مباشر من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه»، ودول أوروبية وعربية، دوراً استراتيجياً في تحقيق هذا الهدف الذي يمكن تلخيصه بـ«تجريف» الثورة الفلسطينية. فاغتيال كوكبة من قادة حركة «فتح» و«الجبهة الشعبية» وغيرهم (من بينهم عُلماء وأدباء وشعراء وقادة سياسيين في بيروت وعواصم أوروبية)، كان هدفه التخلُّص من «النواة الصلبة»، وتعبيد الطريق أمام قيادات فلسطينية تقليدية لتسيطر على قرار المنظّمة بزعامة ياسر عرفات، المدعوم بالمال الخليجي، والمُباركة المُتسرّعة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والاتحاد السوفياتي.
وإذا كانت سياسة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وبعض الأنظمة قد تجسّدت في استخدام العنف والسلاح لتجريف الثورة بالقوّة وعبر سياسة الاغتيالات والمُلاحقة والاختراقات الأمنية، فقد كانت مهمّة النظام العربي النفطي، تطويع قيادة الثورة وتدجينها بالقوّة «الناعمة» والمال والامتيازات. هذا التقاسم الوظيفي مثّل تعبيراً عن معادلة «العصا والجزرة»: فكُلّما كثرت التنازلات الفلسطينية، وأبدت قيادة المنظّمة استعدادها لـ«الحلّ السلمي» والتكيّف مع «المجتمع الدولي»، كُلّما تصاعَد «الدعم العربي» لـ«منظّمة التحرير» بقيادة «فتح». وليست صدفة عابرة أن يشرف أصحاب البنوك من الفلسطينيين على «الصندوق القومي»، ويتحكّموا في أرصدة المنظّمة وأملاكها.
يجب أن نعترف أن سياسة «الخُطوة خُطوة» التي وضعتها قوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية لاستهداف الثورة الفلسطينية، كانت استراتيجية ناجعة وفعّالة، حَصَدَ الكيان الصهيوني والنظام العربي الرسمي ثمارها بعد أقلّ من 10 سنوات على انطلاقة «فتح»، مع تبنّي ما يسمّى «برنامج الحلّ المرحلي» و«إقامة الدولة/ السلطة الوطنية». فهذا المشروع التدميري الذي قدّمته «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، جاء بإيعاز من قيادة المنظّمة، وسيشكّل نقطة تحوُّل سلبية في مسار القضيّة الفلسطينية.
دخلْنا بعد «اتفاق أوسلو» مرحلة جديدة تسارعت معها عملية التدمير الذاتي


كانت حركة «فتح» ولا تزال خيارَ الأنظمة العربية - وبخاصّة بعد عام 1974 -، والحصانَ الذي راهن عليه النظام العربي بقيادة السعودية، ولاحقاً نظامَي «كامب ديفيد» و«وادي عربة» من أجل إحكام السيطرة على مؤسّسات «منظّمة التحرير» وضبْط «مجانين فتح» وإضعاف اليسار القومي، وتحديداً «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي شكّلت نهجاً ثوريّاً وبديلاً ممكناً. كما أراد النظام العربي سَلْخ قضيّة تحرير فلسطين عن محيطها العربي (فَلَسطنَة القضيّة)، فتخلّى عن مسؤوليته لصالح «منظّمة التحرير»، وصار يُكثِر من الحديث عن «الهويّة الوطنية الفلسطينية»!
لم تقف قيادة الحركة أمام «أحداث الأردن» بين عامَي 1967 و1972 ولا تجربة «الثورة» في لبنان بين عامَي 1972 و1985 لتستخلص الدروس وتقوم بعملية المراجعة والتجديد المطلوبة. ومع تعذُّر الإصلاح الداخلي في الحركة، جرى تجريف سياسي وثقافي أيضاً، طاول الأفكار والأهداف والمنطلقات الأساسية. ولعب المثقّفون الفلسطينيون من «أنصار الشرعيّة الفلسطينية» دوراً تخريبياً في تكريس حالة الفساد في المؤسّسات والاتحادات النقابية والشعبية، وفي حصار كل صوت نقدي وشيطنة كل مبادرة تدعو إلى التغيير الثوري.
لا غرابة، إذن، في أن يأتي «مؤتمر مدريد» التصفوي في كانون الأول/ ديسمبر 1991، و«اتفاق أوسلو» في أيلول/ سبتمبر 1993، كطعنات مسمومة غادرة للانتفاضة الشعبية الفلسطينية في الأرض المحتلّة (1987-1993)، وكمحصّلة منطقيّة لمقدّمات وتنازلات فلسطينية وعربية كبرى. إنّ السقوط في وحل التسوية، ثم في مستنقع التصفية، سبقه سقوط «الثورة» في جيب شرائح وطبقات وأنظمة بعينها. والآن، بعد ثلاثة عقود على انطلاقة «قطار مدريد - أوسلو» تقف قيادة حركة «فتح» مكشوفة وعاجزة أمام الجماهير الفلسطينية والعربية. ولا غرابة أيضاً في صعود قوى فلسطينية جديدة («حماس» و«الجهاد») بعد حالة الانحدار التي أصابت مشروع «م ت ف» وقوى اليسار على المستويات كافة. وتعمّقت الأزمة أكثر مع التحوّلات الدولية والإقليمية التي عصفت بالعالم وبالمنطقة العربية على ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى، وبروز قوى جديدة، أهمّها صعود إيران كقوة أساسيّة في المنطقة والإقليم. وبدل أن تكون هذه التحوّلات دافعاً للصمود والتغيير، جرى التلطّي خلفها واتخاذها مبرّراً للغوص أكثر في وحل التصفية.
ما تقدّم، يُثير الحُزنَ والغضب؛ فهناك تاريخ كفاحيّ مُشرق لحركة «فتح» تعمّد بالدم والعذاب وآلاف الشهداء، لا ينكره إلّا جاحد أو جاهل، وثمّة إنجازات وطنية صنعتْها القواعد الشعبيّة المُناضلة في السجون والمنافي وفي ميادين الصراع والقتال قبل أن يجري السطو عليها من تيّار التصفية. ولم تسطُ هذه الطبقة على تضحيات الطبقات الشعبية في الوطن والشتات فحسب، بل تزعُم اليوم أنها صنعتْها، فصادرتها واعتبرتها رصيداً خاصاً لها تستقوي به على «حماس» و«الجهاد»، وفي مواجهة كل تيّار شعبي يطالب بالتغيير والبديل الثوري الديموقراطي.
ظلّت الأخطاء «الصغيرة» تتراكم وتتحوّل إلى خطايا كبيرة وجرائم، وبالتوازي تتفاقم أزمة حركة «فتح» وتتآكل شرعية «منظّمة التحرير». ومع ارتفاع الزعيم - الأب - المؤسّس إلى مرتبة الأنبياء والقديسين وغياب المحاسبة وسُبُل وآليات التغيير الديموقراطي في المؤسّسة الفلسطينية، ومصادرة صوت الجماهير الشعبية، تحوّل الفساد إلى القاعدة وليس الاستثناء، ودخلْنا بعد «اتفاق أوسلو» مرحلة جديدة تسارعت معها عملية التدمير الذاتي.
إذا كانت هناك ثمّة مهمّات نضاليّة أمام «شباب فتح»، فإنها المهمّات الثورية ذاتها التي انطلقت من أجلها الحركة، يُضاف إليها المشاركة مع قوى المقاومة الفلسطينية في تأسيس جبهة وطنية موحّدة للعودة والتحرير، والقطْع الكامل مع سلطة الحكم الذاتي العميلة... أمّا مواصلة التبرير والسَيْر على نهج محمود عباس وفريقه وتكرار المقولات الفاشلة ذاتها، فلن يجلب للحركة إلّا مزيداً من التفكُّك والانهيار.

* كاتب فلسطيني