الإنسان مفطور على العيش ضمن جماعة. في الماضي كانت الجماعة، المتمثّلة بالقبيلة، الحامية من المخاطر من أجل استمرار الحياة؛ ولهذا كان العقاب الأقصى للإنسان هو النفي عن القبيلة، لأنّ النفي كان يعرّض المنفيّ للموت الجسديّ. مقابل الحماية كان الإنسان مستعدّاً أن يطيع الجماعة في كلّ شيء، وأن يخفّف من نتوء فرادته إلّا في ما يخدم الجماعة وحياتها، أو في ما لا يضرّ بها.في العصر الحديث، ومع نشوء الدول التي تؤمّن الحماية، انتفت الحاجة إلى قبيلة لضمان الحماية وأُتيح للشخصيّة الفريدة بالبروز بشكل أكثر حِدَّةً. لكن لم تنتفِ الحاجة إلى الجماعة البشريّة، إلى الانتماء، إلى أن يكون الإنسان محبوباً ومقبولاً ومحترماً في جماعة. هذه حاجات إنسانيّة لا يمكن اختزالها ولا الإطاحة بها لأنّها جزء من البنية النفسيّة للشخصيّة الإنسانيّة عبر الحضارات، واللغات، والأقوام، والتنوّع الذي يكاد لا ينتهي للطبيعة الإنسانيّة.
قد تقوم الجماعة أمام اعتداء جسديّ بحماية الفرد في ظلّ غياب ظرفيّ أو دائم للدولة. لكنّ وظيفة الجماعة في العالم المعاصر هي أساساً أن تمنح الإنسان بيئة تحميه نفسيّاً من العزلة وتمنحه شعوراً بأنّه محبوب، ولذلك فهو مقبول ومُحتَرَم في فرادته مقابل أن يحبّ هو فيقبل ويحترم فرادة غيره، كما وتمنحه مجالاً لتحقيق فرادته بالعمل. هذه البيئة تتيح للإنسان منذ الطفولة أن تنمو فرادته دون أن تجنح إلى التسلّط أو الاستغلال المدمّرين للآخرين كما وللأنا. في النهاية وظيفة الجماعة أن ينشأ الحبّ في هذا العالم، فيُحفظ الناس من الموت: الموت النفسيّ من العزلة، والموت المعنويّ من الاستغلال والتسلّط.
هذا التوازن بين وجود الجماعة وانتعاش ونموّ الأنا في وسطها، تؤمّنه بيئة الحبّ القائم على القبول والاحترام المتبادل للفرادات، أي القائم على الحرّية، على مسافة الاحترام بين الفرادات المختلفة دون تسلّط أو استغلال. لهذا، من المفترض أن تكون الحرّية مرغوبة ومطلوبة؛ لكنّ الحرّية، القائمة على احترام الفرادات دون تسلّط أو استغلال، أمر صعب جدّاً، وما يجعله صعباً هو وهم التألّه بالذات. عندما يطلب إنسان مالاً منقطع النظير بسبب جشعه، أو سلطة لا تُرَدّ على أجساد الناس وتصرّفاتهم بسبب تسلّطه، فهو يطلب سلطة مطلقة، أي سلطة تجعله يشعر بأنّه على كلّ شيء قدير، تماماً كما نقول عادة عن الله. هذا هو وهم التألّه بالذات. هذه القدرة المطلقة هي وهم ينتهي بصفعة الموت.
عندما يجتمع أكثر من واحدٍ من الناس على التألّه بالذات، أي على اكتساب سلطة مطلقة مدفوعين بالجشع أو التسلّط، فذلك لا يكون سوى بالقمع أو بالتلاعب بالعقول، لأنّ لا أحد يشتهي طوعاً أن يكون مستَغَلّاً أو مسحوقاً. يمكن إجبار الناس على قبول سعي آخرين لسلطة مطلقة إمّا بالقمع، أو بالتلاعب بالعقول (عبر إيهام الناس أنّ واقعهم لا يمكن تغييره، وأنّه أفضل من واقع آخر، أو أنّ هناك إمكانيّة لتغييره بمزيد من الجهد) أو بالوسيلتين معاً. القمع هو وسيلة الأنظمة الديكتاتوريّة مع شعوبها، والتلاعب بالعقول هو وسيلة الدول الرأسماليّة الديموقراطيّة مع شعوبها (وسائلها مع شعوب الآخرين تبقى قمعيّة بالعسكر والتجويع).
إنّ الحرّية، أي احترام الفرادات في الجماعة البشريّة، أمر صعب لأنّ هناك بشر يقعون فريسة وهم التألّه بالذات فيفترسون غيرهم. وهم التألّه بالذات هو وهم الحلول محلّ الله لكن بطريقة مشوّهة، بطريقة معاكسة لألوهيّة الله؛ فبينما ألوهة الله قائمة على قدرته على خلق الحياة وحمايتها، يقوم وهم التألّه بالذات على اكتساب قدرة مطلقة على تدمير الحياة (عدا الحروب والإفقار، نحن على مشارف تدمير الحياة على هذا الكوكب). قدرة المتسلّطين التدميريّة للحياة تفضحها عبارة يقولها المتسلّطون الصغار عند تهديدهم لآخر «سأردّك إلى الرحم الذي خرجت منه»؛ ترشح من هذه العبارة رغبة المتسلّطين بقتل الحياة، بالقيام بفعل يعاكس عمل الرَحم الوالد للحياة. يرشح من التسلّط انحراف الفرادة والذي يصل بإنسان إلى التدمير، إلى «ولادة» الموت.
المتسلّطون والمستغلّون الصغار كما الكبار، يتوهّمون أنّهم كلّيو القدرة لأنّهم قادرون على التدمير؛ أمّا القدرة الكلّية الإلهيّة فهي تلك الخالقة للحياة والحامية لها. المتسلّطون والمستغلّون يريدون أن يصبحوا كآلهة بالتدمير، لكنّهم واهمون لأنّ كلّ متسلّط سيستيقظ أمام صفعة الموت في العالم الآخر ويفتح عينيه على جحيمه، وبينما لدى هؤلاء كلّ وسائل التخدير للهروب من حقيقة شعورهم باحتضار إنسانيّتهم في حياتهم هذه، لن يستطيعوا بعد الموت الهروب من خوائهم من الحبّ أمام الله، سيّد الحبّ والمحبّين، سيكونون أمام نبع الحبّ-الحياة بدون قدرة أن يعبّوا منه؛ وهذا الجحيم بعينه.
من أجل ذلك، ومن وجهة نظر إيمانيّة، كلّ نضال لرفع التسلّط والاستغلال هو نضال من أجل الحبّ، من أجل استتباب الحبّ في هذا العالم، هو تعبير عن المحبّة للمظلومين يرفع عنهم يد التدمير، وتعبير عن محبّة للظالم بردعه عن التدمير. المحبّة ليست شعوراً ورديّاً، هي موقف إنسانيّ تجاه الحياة، موقف يحاول أن يكون على صورة إله حقّ: خالق للحياة وحاميها، في كلّ ميدان.

*كاتب وأستاذ جامعي