توفّيت أخيراً الداعية السورية، منيرة القبيسي، عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاماً. وكما جرت العادة، كلّما تَصدّر اسم القبيسيات المشهد العام، تَكثر المنشورات والمقالات المسيئة لهنّ، ما بين اتّهام هذه الجماعة من قِبَل بعض العلمانيين بأنها إمّا سلفية أو تحْمل أفكاراً قريبة من «الإخوان المسلمين»، وبين رمْيها من قِبَل التيّارات المعارضة للسلطة السورية بـ«العمالة للنظام» والتعاون مع مخابراته. وُلدت مؤسِّسة الجماعة، منيرة القبيسي، في دمشق عام 1933، وحصلت على درجة البكالوريوس في مجال العلوم الطبيعية ومارست مهنة التدريس. وبدأت رحلة تعليمها الديني على يد مفتي سوريا، الشيخ أحمد كفتارو، شيخ الطريقة النقشبندية، كما أكملت لاحقاً دراسة الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق بهدف تقوية معرفتها الأكاديمية بأمور الدين. ومن الجدير بالذكر أيضاً، أنه بالإضافة إلى كفتارو، كانت القبيسي من المقرّبات من الشيخ عبد الكريم الرفاعي، ومن المرجعية الإسلامية محمد سعيد رمضان البوطي، والكثير من كبار شيوخ دمشق. بدأت جماعة القبيسيات نشاطها في أوائل عام 1960، متّبِعةً الطريقة النقشبندية، ومُلاقِيةً نجاحاً كبيراً، لا في سوريا فقط، بل وأيضاً في العديد من الدول الأخرى كلبنان والأردن، والتي انتقلت إليها التجربة بمسمّيات مختلفة. وتُعدّ هذه التجربة فريدة جدّاً؛ كونها تخصّ أكبر جماعة إسلامية نسائية عرفها التاريخ، فضلاً عن أن منيرة القبيسي تُعدّ من الشخصيات الإسلامية الصوفية ذات التأثير الكبير في التاريخ الإسلامي المعاصر، على الرغم من عدم إنتاجها أيّ فكر صوفي خاص بها. ومن هنا، تَبرز أهمّية تسليط الضوء عليها.
علاقة القبيسيات بالسلطة
تَكثر الاتّهامات المُوجَّهة إلى جماعة القبيسيات من قِبَل المعارضين السوريين؛ ما بين الأكثر تشدّداً الذي يرمونها بالوقوف ضدّ «الثورة»، والتحوّل إلى أداة بيد المخابرات السورية، سهّلت دخول هذه الأخيرة إلى بيوت مختلف العائلات، وبين الأكثر اعتدالاً الذين يَعتبرون أن موقفها من «الثورة» كان متذبذباً، وبالتالي ساهمت عبر صمتها في دعم السلطة، وتضعيف الحراك في دمشق وحلب خصوصاً، حيث ينتشر التصوّف، وعلى رأسه الطريقة النقشبندية، بل يرى بعضهم أن نواة القبيسيات هي من الطبقة البرجوازية، وبالتالي لو وقفت الجماعة مع «الثورة» لتَغيّر موقف تلك الطبقة منها. لكن إذا استطلعْنا العدد الأكبر من المقالات التي تحمل الاتهامات المتقدّمة، فسنجد أنها تبتعد تماماً عن أيّ دراسات ميدانية واقعية، ولا تقدّم أيّ أدلة حقيقية، بل وتعتمد على الأقاويل والإشاعات. لقد بقيت جماعة القبيسيات بعيدة تماماً عن العمل السياسي في سوريا، كحال الكثير من فِرق المتصوّفة تاريخياً، والتي فضّلت عدم الخروج على الحاكم واعتزال العمل السياسي المباشر. ولم تكن للقبيسيات مواقف واضحة حتى قبل اندلاع الانتفاضة، بالرغم من قرب الداعية منيرة من مفتي الجمهورية. وفي أعقاب اندلاعها، لم تتبنّ جماعة القبيسيات موقف الشيخ البوطي بالدعاء للحاكم ودعمه علناً، بل فضّلن النأي بالنفس والصمت المطلق. وعلى الرغم من وقوف بعضهن علناً إلى جانب السلطة، وانحياز بعضهنّ الآخر إلى صفّ المعارضة، إن هذا لا يعكس شيئاً من موقف الجماعة ككلّ. إلّا أنه في غياب أيّ ناطقين رسميين باسمها، وأيّ حضور إعلامي حقيقي، من السهل على جميع الأطراف توجيه شتّى أنواع الاتهامات إليها.
اتهاماتٌ برّرها البعض بأن النظام ما كان سيسمح لجماعة بالبقاء والتمدّد لولا أنه يستفيد منها، إلّا أن هذا لا يعني ضرورةً الاستفادة المباشرة. فالقبيسيات جماعة لا طموحات سياسية لها، بل تُعنى بإصلاح الفرد دينياً، وتشجّعه على الاعتناء بأمر دينه أكثر من دنياه، وبالتالي تبعده عن أمور المشاركة في الحياة السياسية، وعليه، فهي لا تشكّل أيّ تهديد للسلطة القائمة، بل على العكس تُطمئنها. ويضاف إلى ما تَقدّم، أن القبيسيات والجماعات الصوفية عامة غير راديكالية، ومتسامحة إلى حدّ كبير مع الطوائف الأخرى ولا تتدخّل في شؤونها. فهي ليست مثلاً جماعة دعوة إسلامية - بمعنى دعوة غير المسلم إلى الإسلام -، إنّما تهتمّ أساساً بتعليم المرأة المسلمة دينها بشكل أفضل. ومن هنا، فقد عملت السلطات السياسية المختلفة على احتواء مِثل هذه الجماعات بدلاً من محاربتها، ولعلّ أهمّ مثال على ذلك علاقة الدولة العثمانية بالمتصوّفة، وعلى رأسها الطريقة النقشبندية التي برزت أهميتها منذ تأسيس الدولة وحتى سقوطها، ووصل نفوذها إلى داخل قصور السلاطين مثل السلطان سليمان القانوني، فيما اعتمد السلطان محمود الثاني عليها كعون له في شؤون الحكم، واستمرّت مكانتها حتى في تركيا الحديثة. لقد لعبت الجماعات الصوفية دوراً هامّاً في مساعدة السلطات على إدارة المجتمعات، وحتى أحياناً تقوية شرعيتها في عيون المجتمع، ما يفسّر موقف السلطة السورية تجاه القبيسيات، الذي بدأ حذراً، ومن ثمّ بعدما تَأكّد غياب أيّ هدف سياسي لدى الجماعة، نحا نحو احتواء الأخيرة بل وتقديم التسهيلات لها، كونها تقطع الطريق أمام انتشار أيّ فكر راديكالي قد يحاربه، وتخلق في المجتمع حالة من الإسلام المعتدل غير السياسي. وكما يشرح الباحث الفرنسي المختصّ في الدراسات الإسلامية والصوفية، إريك جوفروا، في مقاله «الصوفية هي الحلّ»، فـ«إننا نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحُكم بهدف محاربة ظاهرة الإسلامية السياسية».
أمّا بالنسبة إلى الرأي الأكثر اعتدالاً، والذي يقول بأن القبيسيات بصمتهنّ قد دعمْن النظام، وأنهن لو أردْن لاستطعن إحداث أثر كبير لصالح «الثورة»، لأنهن يملكن القدرة على التأثير في رأي الطبقة البرجوازية، ففيه فهم خاطئ ومعكوس للواقع. ذلك أن الطبقة البرجوازية ليست طبقة ضعيفة لا وعي لديها، بل هي تعي تماماً مصالحها، وتفعل كلّ شيء لحمايتها، وهي لا تحدّد مواقفها على أسس دينية، بل على أساس منافعها الاقتصادية. وعادةً ما تقوم الأنظمة الحاكمة بتأمين شروط اقتصادية معيّنة حتى تبقى البرجوازيات على تحالف معها، وأمّا الدين عندما يسخّر في خدمة الحاكم، فيكون موجَّهاً ليجعل الفقراء والمظلومين ينسون أمور دنياهم، وينشغلون بأمور الآخرة. وحتى لو افترضنا جدلاً صحّة التهمة بأن القبيسيات معظمهنّ من البرجوازيات، فالتأثير يكون عكسياً، أي أن الجماعة ستكون مرآة لمواقف البرجوازية تتأثّر بها ولا تؤثّر عليها.

القبيسيات وتهمتا أسلمة المجتمع والدولة
تتكرّر تهمة «أسلمة المجتمع السوري» في الكثير من المقالات التي تناقش إشكالية القبيسيات، وخطرهنّ المزعوم على هوية المجتمع السوري عامّة والدمشقي خاصة. إلّا أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو متى فقد المجتمع السوري هويّته الإسلامية أصلاً حتى تقوم القبيسيات بأسلمته؟ إن مصطلح أسلمة المجتمع عادة ما يطرحه اليمين المتطرّف الغربي، المتمسّك بفكرة الهوية المسيحية التاريخية للمجتمع الغربي والخائف على اندثارها. إلّا أن تهمة أسلمة المجتمع تفقد معناها تماماً عند الحديث عن مجتمع إسلامي أصلاً. ومن هنا، نرى أن الكثيرين ممّن بحثوا في مسألة القبيسيات، تعاملوا مع هذه الجماعة وكأنها دخيلة على المجتمع السوري، وأهملوا تأثّرها بالظروف التاريخية الاجتماعية والسياسية المحيطة بها، على الرغم من أن جماعة كهذه ما كانت لتلقى نجاحاً اجتماعياً لولا تأثرّها بأعراف هذا المجتمع وعاداته. وكما يشرح الطيب تيزيني في مقاله «داعيات في أوساط النفوذ والثراء»، فإن ظاهرة كالقبيسيات «تستمدّ شرعيتها من قلب البنية السوسيوثقافية والاقتصادية في البلد».
ولا تقتصر المفارقات الغريبة على ما تَقدّم، بل لعلّ واحدة من أكثرها إثارة للعجب، هي اتّهام القبيسيات من قِبَل السلفيين بأنهن من أهل البدع وصولاً حتى تكفيرهن، وفي المقابل اتّهامهن من قِبَل العلمانيين بأنّهن على منهج السلفية من تشدّد وتكفير، وهذا ما يدلّ على مشكلة كبيرة في فهم هذه الجماعة. وعلى سيبل المثال، نَذكر موقف نبيل فياض، الناقد العلماني السوري، من خلال تصريحاته إلى «البوابة»، حيث يقول: «الحقيقة التي لا لَبس فيها هي أن الجماعات الإرهابية التي تلبس قناع الدين، أو التي تقتنع بالفعل بأنها تخدم الله بقتل عباده، تنظّم نفسها في البداية ضمن بنى اجتماعية مثلما هي حال القبيسيات في سوريا، لكن هذا فعل تكتيكي مرحلي، في انتظار أن يضعف النظام الذي يرى أن التنظيمات ذات الطابع الاجتماعي غير مهدِّدة له بنيوياً. هذه البنى ذات الطابع الاجتماعي، قابلة لأن تتحوّل بين عشية وضحاها إلى ميليشيا سياسية عسكرية في حال ضعف النظام». ويضيف فياض: «يدافع رجال الدين من دعاة التقية الجديدة عن القبيسيات باعتبارهن حركة سلمية غير معادية جهاراً للنظام، لكن هذا تدحضه بالمطلق مواقف القبيسيات الإرهابية التكفيرية من الطوائف الأخرى أو القوى العلمانية».
هذا الموقف، الذي يختزل أغلب التهم الموجَّهة إلى القبيسيات، يعكس غياب الفهم الكامل للاختلافات الكبيرة بين فِرق الدين الإسلامي، كما وغياب الفهم الأكاديمي للحركات الجهادية التكفيرية. فمعظم أهل السنة، ومنهم عوام المتصوفة، يتبعون العقيدة الأشعرية أو الماتريدية، وبالنسبة إلى القبيسيات خاصةً، فهنّ على العقيدة الأشعرية. وتشترك كلتا العقيدتين في مسألة الإرجاء، أي انتظار حُكم الله على المسلم يوم القيامة. فالأشاعرة والماتريدية يقولون إن عدم العمل بما أمَر الله به هو من لوازم ضعف الإيمان، وليس من لوازم عدم الإيمان، وهذا يعني أنه لا يمكن الحُكم على إيمان الفرد من أفعاله، وهو ما يتناقض مع مبدأ التكفير الذي يُخرج المسلم من الإسلام بسبب أفعال معيّنة. أمّا العقيدة السلفية (النيو-حنبليّة) فإنها تقوم على مبدأ أن «الإيمانَ حَقيقةٌ مركَّبةٌ من خَمسةِ أُمورٍ هي: قَولُ القَلبِ وعَملُه، وقَولُ اللِّسانِ وعَملُه، وعَملُ الجَوارحِ». فمثلاً، بينما يرى أتباع العقيدة الأشعرية أن تارك الصلاة كسلاً هو عاصٍ، يرى أتباع العقيدة السلفية أن تاركها كسلاً كافر خارج من الملّة. ومن هنا، فإن التكفير أمر يختصّ به أصحاب العقيدة السلفية، ولكن حتى السلفية نفسها تنقسم إلى تيّارات، فمنها العلمية ومنها الجاميّة ومنها الجهادية. وعلى الرغم من اشتراكها في العقيدة، إلّا أن سلوكياتها ومواقفها السياسية تختلف بشدّة. فالجاميّة مثلاً ترفض الخروج على الحاكم مهما استبد، بينما تدعو الجهادية إلى الخروج على الحاكم الظالم، وتشترط أن يكون ذلك عنيفاً بالسلاح، وهو ما ينطبق على «داعش» مثلاً. ومن هنا، يتّضح البَون الكبير بين الجماعات الجهادية وتلك الصوفية كالقبيسيات، فكونها تنتمي إلى الإسلام عامةً، فهذا لا يعني وجود أيّ قرب فكري وعقائدي بينها، ولعلّ أكبر دليل على ما تَقدّم، محاربة السلفيين للقبيسيات؛ إذ صدرت فتوى في حقّهن من قِبَل «اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» برقم 16011، نصّت على أنهم مشركات بالله إشراكاً مُخرجاً من الملة، وبالتالي فلا يجوز للمسلم الزواج منهنّ. وأمّا بالنسبة إلى ما طرحه نبيل فياض وغيره من تشابه بين «الإخوان المسلمين» والقبيسيات، من حيث الاعتماد على إنشاء بنى اجتماعية داعمة لهم، فإن في تلك التهمة إشكالية كبرى، لأنه وببساطة، أي جماعة تحمل أيديولوجيا معيّنة، فهي تحاول استقطاب وخلْق بنى اجتماعية تَدعمها، فضلاً عن أن «الإخوان» لم يخفوا يوماً مطامحهم وتطلّعاتهم السياسية إلى إنشاء نظام حُكم إسلامي، فيما القبيسيات خاصة والمتصوّفة عامة لم يحملوا يوماً أيّ فكر إسلامي سياسي حتى عندما انخرطوا في الحياة السياسية.

النقشبندية وأثرها على القبيسيات
تُعدّ الطريقة النقشبندية واحدة من أكثر الطرق الصوفيّة انتشاراً في العالم، وقد أسّسها الشيخ بهاء الدين نقشبند في القرن الرابع عشر. وللنقشبندية عدّة تعاليم ومبادئ مهمّة، منها التبعيّة الكاملة للشيخ؛ إذ على المُريد أن يُسلِّم نفسه إلى شيخه، وأن يتعلّق قلْبه بمرشده حتى يزداد تعلُّق قلبِه بوجود الله. وهنالك أيضاً مسألة الذكْر الخفيّ: على المُريد أن يكون في ظاهره مع الخلْق وفي باطنه مع الله، وعليه دائماً التوجُّه إلى الله والمراقبة، وأن لا يَغفل عن التصوّر أنه في الحضور الإلهي. ولمريدي الطريقة آداب أخرى كحُسْن الظنّ في الناس، والتزام جانب الاعتدال في المأكل والملبس، وعدم استحقار أيّ خدمة للآخرين، والمحاسبة الدائمة للنفس. وكما نرى، فإن في الطريقة النقشبندية مكانة كبيرة للشيخ، كونها تحثّ على تعلُّق المريد به، ما يشرح طبيعة العلاقة بين آنسات القبيسيات وطالباتها، أو بالأحرى بين الشيخات ومريداتها. إلّا أن العلاقة بين الشيخ والمريد لطالما كانت صعبة التقبُّل والفهم على مَن هم خارج الصوفيّة، ولطالما تعرّضت للفهم الخاطئ، إنْ كان في العالم العربي أو حتى في العالم الغربي. وهنا، يمكن استذكار مثال شهير: علاقة جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي، والقصائد التي كتبها له. فهذا النوع من العلاقات يبدو غريباً من الخارج، خاصّة مع الجهل الكبير المنتشر بين الناس لمبادئ التصوّف وفلسفته، والذي يعود أيضاً إلى صعوبة الفلسفة الصوفية، كما إلى انتشار بعض الصور النمطيّة الخاطئة عند الناس، والذين يظنّون أن المتصوّفة مجرّد فرق ضالّة ترقص وتغنّي وتقبّل يد الشيخ.
تَكثر الاتّهامات المُوجَّهة إلى القبيسيات من قِبَل المعارضين السوريين؛ ما بين الأكثر تشدّداً الذين يرمونها بالوقوف ضدّ «الثورة»، والتحوّل إلى أداة بيد المخابرات السورية


وقد بُنيت الطريقة النقشبندية على العمل بإحدى عشرة كلمة استُمدت من التجارب السلوكيّة لشيوخ الطريقة، هي: اليقظة عند النفس، النظر إلى القدم، السفر في الوطن، الخلوة في الجلوة، الذكْر الدائم، العودة من الذكْر إلى الذات، حراسة القلب من الغفلات والخواطر، حفظ آثار الذكْر في القلب، الوقوف الزماني، الوقوف العددي والوقوف القلبي. ولعلّ أكثر ما يهمنا، في هذه المقالة، هو شرح الكلمة الرابعة، أي الخلوة في الجلوة، والتي تعني الخلوة ظاهراً وباطناً، حيث أن المريد يكون بظاهره مع الخلق وبباطنه مع الحقّ. لهذا، اختلف النقشبنديون عن الكثير من المتصوّفين، فهم لم يرغبوا في العزلة والانزواء عن الخلق، واستندوا إلى قول الله {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}؛ وهم أيضاً يعملون ويختلطون مع الناس، لكنهم يحرصون على إبقاء ذكر الله في قلوبهم في كل الأوقات. ويعود هذا إلى مؤسّس الطريقة النقشبندية، بهاء الدين، الذي كان يرفض بشدّة الزهد الذي اتّسمت به بعض الطرق الصوفية، وكان يشجّع مريديه على العمل في كل المجالات والانخراط في المجتمع. وهذه نقطة مهمّة من الناحية الاجتماعية، لأنه من المفهوم أن يُنظر بعين السلبية إلى أيّ جماعة يدفعها تديُّنها إلى الانعزال التامّ عن المجتمع، والابتعاد عن العمل، والمساهمة في الحياة الاجتماعية، إلّا أن مريدي الطريقة النقشبندية بعيدون عن هذا المبدأ، كونها لا تتطلّب عزلة طويلة ولا تعاليم صعبة.
ويمكن رؤية انعكاس هذا المبدأ على جماعة القبيسيات، حيث أن معظم المنتميات إليها من المتعلّمات العاملات في المجتمع، فمنهنّ: الطبيبات والمعلمات والمهندسات والكثير من المهن الأخرى. فلم تقف القبيسيات في وجه تعليم المرأة وعملها، بل حثّت عليه.

خصوصيّة جماعة القبيسيات وانفرادها التاريخي
تنفرد جماعة القبيسيات بكونها أكبر جماعة نسائية إسلامية عرفها التاريخ. وليس من الغريب أن تنتمي أهم جماعة نسائية إسلامية، للتصوف. فبالوقت الذي واجهت فيه المرأة بعد انتهاء حقبة الخلافة الراشدة، توجُّهات فقهية أبعدتها عن المشاركة في فهم وتفسير النصّ الديني، وعملت أحياناً على تشريع دونية المرأة بالنسبة إلى الرجل وكان « تيار التصوّف أكثر تقبّلاً لحضور المرأة داخله، وعددهن يتجاوز كمّاً وكيفاً النسبة التي يمثّلنَها بين جمهور الفقهاء، كما يشرح مراد جدّي، في مقاله: التديّن الصوفي في طبعته النسوية. وتنفرد جماعة القبيسيات بكوْنها جماعة نسائية خالصة، فإذا ما قارنّاها، مثلاً، بالكفتاريات، حيث تتخرّج الداعيات على يد الشيوخ الرجال، فإن الآنسات القبيسيات يتخرّجن على يد الشيخات. وقد فضّلت جماعة القبيسيات أيضاً تدريس الكتب التي قامت هي نفسها بإنتاجها، مِن مِثل كتاب «المتاح من الموالد والأناشيد الملاح» الذي ألّفته نوال أبو الفتوح.
إلّا أن هذا لا يعني أبداً أن القبيسيات جماعة نسويّة؛ إذ ليس عندها أفكار معاداة لما تسمّيه النسوية الإسلامية «سلطة الذكورة الفقهيّة»، ولا يوجد لديهنّ أيضاً أيّ مشروع إصلاحي نسوي، كتقديم تفسير نسوي جديد مثلاً. لكن غياب الفكر النسوي عن هذه الجماعة، لا ينفي عنها أهميّتها ولا حتى تقدميّتها، وإنْ كانت تقدميّة محدودة، فإن مجرّد التأكيد أن العمل الدعوي ليس حكراً على الرجال، يشكّل بحدّ ذاته تقدُّماً واضحاً عن ما هو سائد. وقد انفردت القبيسيات بالتنبُّه إلى أهميّة دور المرأة في الإصلاح الديني للمجتمع. ففي الوقت الذي تنادي فيه الكثير من الجماعات الإسلامية بهذا الإصلاح، إلّا أن أحداً لم يلتفت إلى ضرورة تعلّم المرأة الدين بشكل أكاديمي بعيد عن المعرفة السطحية. فمثلاً، تأسّست جماعة «الإخوان المسلمين» حول نظرية التدرج الإصلاحي، حيث يرى «الإخوان» أنهم يعيشون في مجتمع غير مكتمل الأسلَمة، وأنّ الحلّ يكون بإصلاح الفرد المسلم والذي سيؤدّي بدوره إلى إصلاح الأسرة المسلمة وثم المجتمع المسلم، وهكذا وصولاً إلى أستاذية العالم. لكن مع ذلك، لم يكترث «الإخوان» لأهمية دور المرأة في تعلُّم الدين ونقله، فكان رأي حسن البنا: «ليست المرأة في حاجة إلى التبحّر في اللغات المختلفة، وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أنّ المرأة للمنزل أوّلاً وأخيراً… علّموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكْم مهمّتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل ورعاية الطفل». وعلى رغم إنشاء «الإخوان» قسماً للأخوات المسلمات، إلّا أن دور المرأة بقي مهمّشاً جدّاً ومرتبطاً بأيديولوجية الجماعة التي تختصر أهميّة المرأة على دورها البيولوجي بإنجاب الأطفال والاعتناء بهم.

تتكرّر تهمة «أسلمة المجتمع السوري» في الكثير من المقالات التي تناقش إشكالية القبيسيات، وخطرهنّ المزعوم على هوية المجتمع السوري عامّة والدمشقي خاصة


ومن هنا، نرى خصوصيّة وتقدميّة طرْح جماعة القبيسيات التي ترى أن صلاح المجتمع يكون أوّلاً وأخيراً في تعليم المرأة الديني، لأنها هي مَن تربّي الأجيال. ومن الواضح أيضاً أن الجماعة لم تهتمّ فقط بالتعليم الديني للنساء بل بالتعليم عموماً. والدليل على هذا، أنهنّ لم يكتفين بإنشاء معاهد لتعليم الدين فقط، بل قمن بإنشاء عدد ضخم من المدارس الخاصّة التي كانت تُدرّس المناهج الحكومية، والتي عُرف عنها تفوّقها الكبير على المدارس الحكومية من حيث جودة التعليم. وقد شجّعت الجماعة أيضاً على انخراط المريدات في سوقَي العمل العام والخاص، وخاصّة في سلك التدريس.

الخاتمة
قليلة هي الأبحاث التي تعاملت مع موضوع القبيسيات بحياديّة. وعلى رغم الكثير من الانتقادات التي يمكن توجيهها للجماعة، إلّا أن أكثر الأبحاث والمقالات اعتَمَدت على رمْي التهم الواهية البعيدة عن أيّ تحليل أكاديمي علمي. لذا، فإن ميْلنا للدفاع عن القبيسيات في هذه المقالة، ليس بسبب غياب المآخذ لدينا على هذه الجماعة، بل هو مجرّد محاولة تصحيحية للكثير من المواقف المعادية لهنّ التي تشوبها المفارقات والمغالطات. وطبعاً، هذا لا يعني، بأيّ حال من الأحوال، أننا نَعتبر أن ظاهرة القبيسية هي ظاهرة إيجابية بالمطلق، بل هي بعيدة عن ذلك. إلّا أنه، وفي ظلّ التخلُّف الاجتماعي الذي لا يزال سائداً في عالمنا الإسلامي عامة والعربي خاصّة، وبالتحديد في مسائل حقوق المرأة، فإنه من الصعب علينا أن نعادي جماعة تقف مع تعليم المرأة وعملها، حتى وإنْ كان همُّها الأوّل التعليم الديني.

* باحثة سورية مقيمة في فرنسا