بعيداً من أيّ أوهام حول نشأة النظام السياسي العربي، وتَشكُّل الدولة العربية المعاصِرة، فإن مُضيَّ ما يقرب من القرن على ذلك يُفترض أن يكون قد وفّر لهذا النظام عوامل استقرار كافية تجعله يذهب إلى شيء من التمرُّد على ظروف نشأته، وتعطيه بعضاً من الثقة التي تخفِّف من اعتماده على الدول الكبرى - وخاصّة الإمبريالية منها - للبقاء، وتدفعه إلى إيجاد علاقة أكثر «معقولية» بينه وبين شعبه. وباستثناء الفترة «الناصرية»، تَصرَّف النظام السياسي العربي بدونيّة مع القوى الإمبريالية، فكان يُستخدَم من قِبَلها، وفي أغلب الأحيان كان سعيداً بذلك الاستخدام ويسعى إليه. وفي الوقت ذاته، تَصرَّف بعنجهيّة تجاه شعبه، تراوحت بين القمع والاحتقار والتجاهل التامّ. دونيةٌ اقتضت أن تبحث الأنظمة المشكِّلة له (النظام العربي) عن تموضع مع هذه الدولة الكبرى أو تلك، والاستقواء بها على بعضها البعض، ما أثَّر سلباً على العلاقة البينيّة بين الأنظمة، فكانت سيّئة ومتوتّرة في كثير من الأحيان، حتى صارت فكرة العمل على تقارب شعوب المنطقة غريبة ومستهجَنة. وفي المرّات القليلة التي نجحت فيها الأنظمة في التلاقي، غالباً ما كانت بدعوة من دولة كبرى، مِن مِثل اجتماع الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع الزعماء العرب في السعودية، أو اجتماع الرئيس الصيني، شي جين بينع، معهم. حتّى في هذه الحالات النادرة التي التقى فيها ممثّلو النظام العربي، لم تكن اللقاءات تنمّ عن تقارب في الرؤى في ما بينهم، بقدْر ما كانت لقاءات «قطيعيّة» استجابةً لدعوة زعيم دولة عظمى.
العالم يتغيّر
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، هيمن الغرب الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة على العالم، وأصبح هو المقرِّر الوحيد للأحداث الكبرى، وأحياناً غير الكبرى في العالم. في تلك الفترة، تصرَّفت أميركا وحلفاؤها بشكل غير مقبول نهائيّاً؛ فشَنَّت حروباً لا مبرِّر لها، ودمَّرت دولاً ومجتمعات، وقتلت الملايين، وغيَّرت أنظمة، واغتالت من أرادت اغتياله، وجوَّعت شعوباً بكاملها، وصنعت اتفاقات وألغت أخرى. أكبر ديموقراطية في العالم تصرَّفت كأكبر ديكتاتور دموي في هذا العالم.
الولايات المتحدة (والغرب) التي غزت العالم «بقيمها» المتمثّلة بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، قَبل جيوشها، أيّام الحرب الباردة، لم تَعُد بحاجة إلى العناوين المذكورة بعدما تربَّعت وحيدة على عرش العالم، لأنها لم تَعُد بحاجة أصلاً إلى التظاهر بوجود قيم وأخلاق، بل ذهبت إلى الاحتلال المباشر، والحصار الاقتصادي وغير الاقتصادي، والإملاء، ولم يَعُد يُرى منها سوى العنصرية والاستعلاء والعنجهيّة، حتى على حلفائها التاريخيين، باستثناء إسرائيل طبعاً. هذا التغوُّل بدا بأوضح صوره وأقساها في منطقة الشرق الأوسط. غزو أفغانستان والعراق، وتدمير ليبيا وسوريا، وحصار إيران ولبنان واليمن، وإملاءات التطبيع مع إسرائيل على بعض الأنظمة، والحديث العنصري الاستعلائي لبايدن الذي قال إن بلاده لن تترك المنطقة (الشرق الأوسط)، خشيةَ أن تملأ الصين وإيران الفراغ الذي ستُخلّفه. لا يرى بايدن في هذه المنطقة إلّا فراغاً، لا يرى شعوباً ولا دولاً ولا أنظمة. لذلك، لا يجد نفسه مضطرّاً إلى بذل أيّ جهد من أجل أن يقول ما يريد قوله بشيء من الدبلوماسية، ومراعاة للحدّ الأدنى من الكرامة لبلدان المنطقة.
لكن هذا الوضع الذي تربّعت فيه الولايات المتحدة وحيدة على عرش العالم، آخذ في التغيُّر الآن؛ فالصين عملاق اقتصادي يزداد قوّة و«جرأة» يوماً بعد آخر، وروسيا قوّة عسكرية وثبات اقتصادي واستراتيجي، وإيران تطوُّر عسكري وصمود اقتصادي ونهضة علميّة ودبلوماسية ذكية، إضافة إلى بلدان أخرى في أماكن أخرى من العالم تجد نفسها غير مستعدّة لدخول بيت الطاعة الأميركي. هذا الوضع آخذ في التغيُّر وبوضوح لا لَبس فيه، وعنوانه أن الولايات المتحدة لم تَعُد قادرة على فرْض هيمنتها المطْلقة ولا حتى شبه المطْلقة على العالم كما كانت عليه الحال في العقود الثلاثة الأخيرة.

العرب... غياب الاستراتيجيا
في مثل هذا الوضع الذي يزيد من اختلال النظام العالمي، حيث التنافُس بين القوى الكبرى يصبح صراعاً مكشوفاً وبكلّ الوسائل بما فيها القوّة العسكرية، تتهيّأ الفرص أمام القوى «الضعيفة» والمكبَّلة لتحقيق منجزات لم تكن قادرة على تحقيقها في ظلّ «استقرار» النظام العالمي تحت هيمنة القطب الواحد. هذه الفرص ليست كثيرة في التاريخ، والقيادات الحكيمة وذات الرؤيا هي وحدها مَن تستطيع اقتناصها واستثمارها. لكن للأسف، لا يبدو أن النظام العربي مهيّأ لاستثمار كهذا، بل حتّى إنه لا يفكر في ذلك، مع أن مصلحته المباشرة، فضلاً عن مصلحة شعوب المنطقة، تقتضي العمل الفوري من أجل تحسين وضع بلدانه في النظام القادم.
من الواضح أن هيمنة الولايات المتحدة آخذة في التناقص، وبالتالي فإنّ على النظام العربي الذي يَعتقد أن أميركا هي التي تحميه وتضمن بقاءه واستقراره، أن يكون بمقدوره القيام بذلك الدور في المستقبل غير البعيد. وإذا ما أَضفنا إلى ما تقدَّم، تجربة «الربيع العربي» في السنوات العشر الأخيرة، التي أَثبتت - من وجهة نظري على الأقلّ - أن الوقت الذي نحياه ليس وقت ثورات بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة، وإنّما وقت إصلاحات وتوافقات بين القوى المختلفة في أحسن الأحوال. فـ«الربيع العربي» في كل البلدان التي أحدث فيها تغييرات، لم يَمسّ جوهر النظام، ولم يَستبدل نظاماً بآخر، إنّما جرت تغييرات داخل النظام نفسه، وهو ما جرى في تونس ومصر والسودان وليبيا. إنّ تشابكاً للقوى الخارجية والداخلية، إضافة إلى الدور الكبير للمجتمع المدني، مثَّل مظلّة لحماية الأنظمة، بحيث صار صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، إجراء تغييرات جذريّة عليها. لهذا، فإن الإصلاح بات هو الممكن الوحيد في المنطقة.
ما أَردْتُ قوله هنا، إن على الأنظمة أن تشعر بطمأنينة أكثر في علاقتها مع شعوبها ومع تنظيماتها السياسية، وأن لا تقرأ مصالحها في تعارض مع مصالح شعوبها، وأن تدرك أنها ليست بالضرورة بحاجة إلى قوى خارجية لتثبيت حُكمها. ولذلك، عليها أن تكون أكثر جرأة في تبنّي استراتيجيات للخلاص من نظام الهيمنة الإمبريالي، أو تحسين شروط علاقتها معه بالحدّ الأدنى. وعلى رغم أن هناك ما يشير إلى تطوّر في فهْم بعض الأنظمة العربية لعلاقتها مع الولايات المتحدة والغرب، وخاصّة في ما يتعلّق بالحرب في أوكرانيا وبعض السياسات النفطية، هناك أيضاً ما يدعو إلى أكثر من القلق في موضوع التطبيع مع إسرائيل والسياسات المرتبطة بها في المنطقة. إنّ محاولة الفكاك (مهما كانت بسيطة) من الهيمنة الأميركية لا تنسجم بتاتاً مع ما يجري من تمتين متنامٍ للعلاقة مع إسرائيل، وهو تعبير عن عدم فهْم للعلاقة القائمة.
الوضع الذي تربّعت فيه الولايات المتحدة وحيدة على عرش العالم آخذٌ في التغيُّر الآن


كل ما يقوم به النظام العربي - باستثناء ما أَشرنا إليه في موضوع أوكرانيا ومقاطعة روسيا - يشير إلى ما يعانيه من تخبُّط وفوضى الاستراتيجيا أو حتى غيابها، على رغم أن الظرف التاريخي الراهن يتطلّب استراتيجية واضحة وفعلاً جديّاً لتغيير الأوضاع من دون تأخير. ويَظهر التخبُّط الاستراتيجي للنظام العربي في الموقف من كلٍّ من إسرائيل وإيران. فالأصل والطبيعي أن تكون العلاقة مع إيران جيّدة لاعتبارات الجيواستراتيجيا والتاريخ والثقافة، بينما العكس تماماً بالنسبة إلى إسرائيل. لكن بعض العرب استبدلوا عدوّهم البديهي والطبيعي والاستراتيجي، بإيران، وذهبت غالبية أنظمتهم إلى التطبيع مع إسرائيل بلا أيّ مقابل استراتيجي. فالأنظمة العربية التي طبَّعت مع إسرائيل لم تطلب منها حتّى تحديد حدودها التي عليها الاعتراف بها، ولم تتلفّظ بكلمة واحدة حول المشروع النووي الإسرائيلي، بينما تختلف مواقفها جذريّاً عند الحديث عن المشروع النووي الإيراني، على رغم الاختلاف بين المشروعَين في الأهداف وفي الخطورة. وقبل كل ذلك، لم تطلب هذه الأنظمة من إسرائيل الانسحاب من الأراضي العربية التي تحتلُّها، ولا حتى وقْف الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية.
والغريب أيضاً أن الأنظمة العربية المطبِّعة، لم تَطرح مشروعاً لخلوّ المنطقة من السلاح النووي، بحيث يُطلب من العدو أيضاً التخلّي عن سلاحه هذا. لم تسأل تلك الأنظمة نفسها مَن المستهدف من السلاح النووي الإسرائيلي الذي وُجد قبل الثورة الإسلامية في إيران بعقدَين من الزمان، بمساعدة إيران الشاه وجنوب أفريقيا العنصرية. اعتَبرت تلك الأنظمة أن المشروع النووي الإيراني هو عدوّها فقط، ولم تتحدَّث عن النووي الإسرائيلي بأيّ كلمة. من الطبيعي أن يوجد لدى إيران ما يثير شكوك النظام العربي، والعكس صحيح أيضاً. لكن هذا لا يبدّده إلّا الحوار والتواصل الذي ترفضه بعض الأنظمة العربية، في حين لا تتردَّد هي نفسها ليس فقط في الحوار مع إسرائيل، بل في «التحالف» الاستراتيجي معها في كل الميادين. غريبة تلك الثقة الموجودة عند بعض الأنظمة العربية بإسرائيل.
لنَعُد إلى جوهر الموضوع؛ قد يكون استمرار انصياع النظام العربي لسيادة الولايات المتحدة والغرب عموماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء نظام القطب الواحد «مفهوماً»، على رغم إدارة الظهر الذي قام به الغرب للحقوق العربية، وعلى رغم العبث والخراب الذي أحدثه في كثير من دول المنطقة. لكن استمرار ذلك الانصياع كما هو في ظلّ ما يحدث في العالم من إرهاصات تشير إلى خلْق نظام عالمي جديد يَحدّ من هيمنة الغرب، هو خطيئة ترتكبها الأنظمة ليس فقط بحقّ شعوبها وبلدانها، وإنّما بحقّ نفسها أيضاً.
ما يجري في العالم الآن هو فرصة تاريخية أمام النظام العربي والشعوب العربية - ربّما لن تتكَّرر في سنوات طويلة -، لتبنّي استراتيجية تقوم على تقوية الذات والتقارب مع الشعوب «الطبيعية» في المنطقة على قاعدة الحوار الذي يبدّد المخاوف، والمبنيّ على مصالح مشتركة، أوّل السطر فيها أن إسرائيل هي الخطر الأكبر على المنطقة، وأن فلسطين هي حجر الزاوية في بناء الشرق المستقرّ والمعافَى والمزدهر.

* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله