‏قيل قديماً إن الكلمة إذا خَرجت لا تَعود ملك صاحبها؛ ويقول الشاعر: «ندمت على شتم العشيرة بعدما مضى واستتبّت للرواة مذاهبه»، ثم يفصّل المعنى: «فأصبحت لا أستطيع دفعاً لما مضى كما لا يرد الدر في الضرع حالبه». وقيل عن الكلمة إنها إذا خرجت من القلْب وقعت فيه؛ وقيل إن جرح الكلمة أكثر مضاء من السيف. ولو حاولتُ سرْد المقولات التي تُظهر أثر الكلمة، لأنفقت حظّاً وافراً من الجهد الذي كفى قليله عن كثيره - فالمعنى لا يتم على أيّ حال بكثرة الشاهد كما يَتصور البعض -، لأن المعنى تذهب به المذاهب ويسير في رحلة اللغة منساباً كالماء، وإذا شئنا التمثيل، فهو كالماء الذي يتسرّب كلّما قبضْت عليه بين أصابعك.‏تبدأ رحلة المعنى من الاكتشاف الجديد الذي يمارسه المتحدّث بين علاقة الدال والمدلول؛ ولعلّي هنا أحاول التساؤل: هل الأصل في اللغة الحقيقة كما تعلّمنا، وهل الشروع في المجاز في حاجة إلى قرينة صارفة؟ ثم إنّي أتساءل: هل القرينة بلا تأمّل، وهل هي كالومضة؟ وقد يتأمّل المرسِل في سك عبارته، فهل المتلقّي الحسّاس في حاجة إلى مزيد من التأمُّل؟ - وتلك قضيّة تشغلني كثيراً -؛ وإذا تأمّلنا في اللغة، فإننا سنراها بحراً من المجاز فقد خاصته وتحوّل إلى لغة معجم/ استخدامات/ أثقال ثقافية/، فهو يستحيل إلى اسم عين/ اسم جنس إلى آخره. ويمكنني أن أصف اللغة على مستويات، وهي كالآتي: المعجم وهو معنى الاسم بين الجنس وبين العين والصفات وتلك الأسماء هي خارج السياق لا تمثّل حقيقة لغوية تامّة، وغير معقّدة وبسيطة، وهي ليست نظاماً من العلامات - كما وصفها فيردينان دي سوسير -، وليست تأليفاً كما وصف أبو علي الرماني، فهي إشارات محدودة تشبه الدلالات الوضعية المرسومة على لافتات الإرشاد: لا تفعل أو افعل أو تابع سيرك أو انعطف نحو اليمين أو على واجهات المحالّ أو شعارات سياسية أو ما أشبه أو تجسيم المجرّدات في أيقونات كوردة الحب أو العدل بالميزان.
‏وتلك الدلالات لا تشي بمعنى معقّد وكثيف، فهي تداولية براغماتية وليست لغة لأنها تفتقر إلى التأليف الكثيف، وموضوعنا هو اللغة باعتبارها بناء مركباً من جملة يحسن السكوت عليها، وهي مكوّنة من حدث كلامي يتراكم ليشكّل وقائع في خطاب ما يأتلف. ولعلّي هنا، من المفيد أن أتوقّف أمام مفردة خطاب؛ هل الخطاب اسم مستغرق لكلّ دلالات الخطاب أم أن الخطاب خطابات؟ وهل يمكننا أن ندّعي أن كل رجل يمارس خطاباً واحداً؟ أَلَسْتَ معي أن الخطاب الواحد يجحف الوظائف المتعدّدة التي تنجزها اللغة، وهذا ما فطن إليه القدماء في نظرية الأغراض الشعرية؟ لذلك، يبدو مجحفاً أن نتحدّث عن الخطاب الشعري على وتيرة واحدة لدى شاعر ما. وتتعدّد نظرتنا إلى الشاعر أو القاصّ أو الروائي، وفق مقامات الإبداع وتَعدُّد الأغراض.
‏وقد تجد مفردة لدى شاعر ما تتعدَّد وفق موقعيها، فهل يأتي المعجم الشعريّ على وتيرة واحدة لدى الشاعر أو الأديب المعين؟ لذلك، يُصدَّق هنا ما قاله ابن الأنباري: «إدخال ما لا يدخل في الحصر عن طريق النقل محال». وإذا كانت المفردة تتشظّى إلى استخدامات متنوّعة لدى الأديب المعيّن، فهذا سيجعلنا أكثر حساسيّة في قبول المعنى على نحو مطّرد في التداول الذي حمل صيغة التواطؤ والتواضع في بيئة معينة وفي حقبة معينة ستزول دلالته بعد زمن، فمفردات السوق التي كانت تُتداول بدلالات الأوزان قبل نحو 70 سنة زالت في وقتنا الحالي. وكانوا يستخدمون المن والربعة على سبيل التمثيل في سوقنا في البحرين، وكانوا يستخدمون مفردة (الفين عيش) وهو مقاس للرز يشي بوزن معيّن انقرض من التداول الآن.
‏وتبدأ مشكلة المعنى من التركيب الذي يَصبغ الكلمات بمعانٍ جديدة، ويسفر عن هذا التركيب ما يسمّيه البعض ظلال المعنى وهو شيء من الإيحاء، ولا شكّ أنّي لا أقصد به الكناية، والتي تعرف بمعنى المعنى، وربّما أجدني في شيء من الجرأة أجد الكناية معنى ثابتاً يحمل معنى الاسمية التي تحدّثت عنها قبل حين بين العين والجنس، وكأنّي لا أجد في نفسي غضاضة في أن أرى التعريض باباً آخر من الإبداع بمعنى أن التعريض يمثّل مستوى من مستويات الحدث الكلامي لأن التعريض يحمل وظيفة أخرى غير وظيفة الكناية، فحاطب ليل لا يحمل حساسية التعريض الذي يبتغي من وراءه المرسل تبديد الحرج في أمر ما، فاستخدام التعويضات نفسها في غرض ما يسفر عن المعنى المراد في وقاحة شديدة. فلو زارك إنسان غني في عزّ الصيف وكنت رجلاً فقيراً وحاولت استجداء ثمن مكيّف وقلت له أعاني من حرارة الجوّ، سيتنبّه صاحبك أنك تدعوه إلى إهدائك ثمن مكيّف، لكنك لو قلت هذه السنة الجو حارّ عذراً سيدي أن أستضيفك في مثل هذا الوقت، وربّما سيكون هناك مَن هو أكثر مهارة، ويقول: بإمكاننا أن نتكيّف مع الوقت بفتح النوافذ والأبواب في هذا الجو المجهد، أرجو تحمُّل الوضع.
‏وإذا كان ما تقدَّم هو مقاربات إجرائية في فهم أنماط اللغة، فإن هذا لا يعني تماماً حصْر اللغة في تلك المعالم، وإنما هي إشارات إلى مفاهيم لغوية تتنامى وتتعدَّد. غير أن الذي يؤرّق المتلقّي هو كيف يرود النص في ظلّ دعوات مختلفة إلى ريادة الخطاب أو الخطابات/ وأول ما يواجه المتلقّي هو هلامية المعنى؛ وما زاد طيننا بلّة أننا نفرنا من شطر المعنى المودع في ثقافة المرسل، وحاولنا القضاء عليه وأحللنا أنفسنا مكانه، بكل جرأة صرنا نحس بإحساسنا ونشعر وكأنه كان يمارس تمارين لغوية تدريبية ونحن نقوّمها حتى أصبح خطاب المبدع خطاباً مستحيلاً إلى معان لا تشبهه.
‏فالجريمة التي مارستها الحداثة - على سبيل الشهرة لا الاستغراق - هي تغريب النص واغترابه لغوياً واجتماعياً، وكان طريق تلك الأقلام إلى الخراب هو التأويل الذي يغترب بالنص عن صاحبه من حيث هو إلى حيث ما يريده الآخرون.
‏هذا الخراب، من خلاله، سيستحيل العالم إلى شيء آخر من القيم المعرفية والاجتماعية.

* عالم لغوي بحريني