حزب اللـه اللبناني مثال على المعادلة الحيّة في كل فردٍ منا للأسف، إن اللبناني ناجح جداً على حدود الخارج وفاشل جداً في سياسة الداخل. أصبحت المسألة بديهية لدرجة أنها لا تتطلب نظريات علماء البصَريات العراقيين أبو علي الحسن ابن الهيثم (البصرة) أو أبو يوسف يعقوب الكنْدي (الكوفة) لكي نستوعب أن الشعاع الضوئي الخارجي ينكسر في داخل الشأن العام، ولكي نستنتج أن نظرة الناس إلى الأولويات تتغير أيضاً، لا بل يجب أن تتغير خصوصاً في حاضرنا، بسبب المستجدات المأساوية والدراماتيكية على أرض الواقع. تتطلب بصيرة كل لبناني من دون استثناء، في سر أسراره مهما رفض البَوح ومهما طغت عليه النزعة الطائفية، ترقية جديدة متقدمة إلى نوع الألياف البصرية 2 تيرّابِت في الثانية، في كل ثواني العيش: لقد فات الأوان ودخلنا فترة اعوجاج الوقت والمصداقية في الثقب الأسوَد. هل من ينظر ويستوعب؟ إذا استفز عنوان هذه المقالة ومقدمتها شعورك الطائفي أو انحيازك السياسي الأعمى، أرجوك الاستغناء عنها وإرسالها رأساً إلى سلة المهملات، وكل سنة وأنت والعالم الثالث والرابع والخامس بخير. توقف عن القراءة هنا. «أنت العايز المستغني». أتمنى لك التلهي المستدام بالتواصل الاجتماعي والتغريد المتواصل لآلهة وزعامات البلد، وأن تبقى مفتوناً بالنفايات السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والثقافية حتى البَطر، على قول صاحب نهج البلاغة «إن استَغْنى بَطِرَ وفُتِنَ».
أنا من محبي المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومن مناصري الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية ومن أعداء الدواعش والجيوش المغيرة في كل بلدان سوريا التاريخية، مهما كان لون المقاومة شيعياً أو سنياً أو قومياً أو يسارياً أو علمانياً أو ملحداً.
بعدما أمّن الشعب اللبناني راحة باله النسبية على الحدود بقدرة المقاومة أولاً ومؤازرة الجيش (المقيد ضمنياً بإرادة سياسية منقوصة وكرم «المجتمع الدولي»)، من الطبيعي أن يُغيّر الشعب سلّم أولوياته فيهبط «الوعد الصادق» من رأس اللائحة عدة درجات. المُلِح، الطارئ، والأهم الآن هو وعد صادق داخلي في الإصلاح السياسي وبناء دولة شبه طبيعية. كمواطنين لا نتوقع من أي حزب أن يقوم وحده بالواجب، بل يتم ذلك من خلال تحالف أحزاب. لكن أن يضع حزب اللـه نفسه عائقاً أمام السعي الحقيقي نحو تحسين الأوضاع الداخلية، بظرف تحالفه الظاهري مع الحكام المسؤولين عن الخراب والفساد التراكمي في الثلاثين سنة الأخيرة، فهو يصبح بنظر كثيرين شريكاً بطريقة ما في الصمت على الخراب. في كل ذلك عود عن بدء إلى تسعينيات القرن الماضي وها نحن على أبواب الـ2023، في إساءة استعمال الطائف (المشؤوم أصلاً) كما فعلت الحريرية ويتابع اليوم ورثتها وزعماء ميليشيات الحرب الأهلية منذ عقود.
المواطن الأعزل لا يريد بدائل عن الدولة المستقيمة والجيش المُدافع والأمن الداخلي المسؤول حتى في أدنى فعّاليتهم العملانية. الفرد العزيز النفس لا يبحث إلا غصباً عن هِبات وفتات البلدان الأخرى طالما يعلم أن بمقدوره التزود بمائه وتربته وغازه وعلمه وفكره وشطارته وذهبه وعرق الجبين. المؤمن بالروحانيات والوجدانيات لا يستجدي إلا مرغماً إعاشات لتغذية الجسم من الدكاكين المذهبية والمناطقية. الإنسان الصالح والعادل بحق نفسه وحق الآخرين لا يستبيح جيبه ومصلحته أو يجيرهما لمصلحة أمثال رياض سلامة وكل المستفيدين من حوله في الطبقة البلوتوقراطية الحاكمة. ممكن أن يُضَحي الشخص بالكثير أمام عدوان خارجي أو اجتياح إسرائيلي. ممكن أن يبلعها مؤقتاً ويصبر داخل حصار أميركي خانق من أكبر قوة في العالم. لكن من الصعب إقناع الناس بأن ابن جلدتهم يُجَوّعهم وينهبهم في الداخل من أجل مصلحتهم! أي منطق هذا أن نقبل في استمرارية مقومات الخراب والفساد على يد من دمّرنا وسرقنا علناً، مقابل «حماية» سلاح المقاومة. أي عذر هذا أن نصبغ بالشرعية أنجح مختبر للحوكمة السيئة في الكون، مقابل «حماية» سلاح المقاومة. أي عدل هذا أن نعطي رخصة بالتصرف غير المشروط لرؤساء مجلس وحكومة وجمهورية ومصرف متحالفين في الفساد ضد كل المواطنين مقابل «حماية» سلاح المقاومة.
الأمن الداخلي في مجتمعنا والخارجي على حدودنا هو أمننا جميعاً. سلاح المقاومة والجيش سلاحنا جميعاً. حمَلَتهُ هم أبناؤنا. والشرف في ذلك لنا. سلاح المقاومة حقيقي، ولكن حمايته وهْمٌ وتجارة. من أقنع الحزب أن المقاومة بحاجة إلى «حماية» على يد الفاسدين. في هكذا سياق تلعب «الحماية» دور التقليل من قيمة المقاومة وتدنيس لشرعيتها.
كذب كل من أكد حتمية الصراع الشيعي-الشيعي أو السني-الشيعي أو المسيحي-المسلم إذا لم يتأمن كيت وكيت وكذا... أي جهل هذا؟ جاري وجارتي وجيرانهما في كل البلد يطلبون السترة مثلي وليسوا من هواة هدم البيت على الرأس، إلا إذا استسلمنا جهلاً كل ما دق الكوز بالجرة للشحن المذهبي من الرؤساء المقيتين وغيرتهم المقززة والمزيفة على طوائفهم. فليقنعنا حزب اللـه كيف يتوقع أن ينجح الفساد اللبناني في مقاضاة نفسه على يد من هم مسؤولون عن الفساد؛ إنها سابقة ستتم تدريسها يوماً ما في جامعة الدجال دونالد ترامب عن كيفية تصميم الأوهام الجماعية. لست أدري أية منفعة يريدها الحزب من التحالف مع مجرمين بحق البلد. ألا يدري أنه ستضيع الطاسة مثلاً لو أفرغنا سجون لبنان في قاعات الدولة اللبنانية؛ كيف تميّز بين المجرم والمجرم؟
الناس بحاجة ماسة إلى أبطال شجعان وقيادة صادقة وإرادة صلبة لبناء الدولة. البلد لا ينقصه شرفاء (وربما أكون موهوماً) ابتداءً من حزب الله والتيار الوطني الحر وغيرهم من نظيفي الأيدي في كل المكونات اللبنانية. تأتي أوقات في تاريخ الشعوب عندما ينهار كل شيء وتضمحل فعالية الديبلوماسية الكلاسيكية والسياسة التقليدية في كواليس البرلمان ودهاليز الحكومة، وهذه واحدة من تلك الأوقات. التوافقية غير موفقة ولا تنفع في هذه الظروف. نريد وقفات عز تغير حياتنا الوطنية جذرياً وإن كان تدريجاً على أساس استراتيجية واضحة كعين الشمس. هكذا تُبنى الأوطان من الركام. هكذا يُحمى السلاح من تلقاء نفسه ومن دون جميلة أحد. الشعب يحمي السلاح. سئمنا لعبة تدوير الزوايا إلى حد اختفائها، بَح زوايا، فأصبحت دولة الفاسدين قرصاً صغيراً يقضمه موظفو السفارات كلما تفلسفوا على اللبناني في تنصيب رؤساء جمهورية العار وحكوماتها.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية