«هذه الأرض مكان جميل وتستحق القتال من أجلها»، كما يقول الروائي العالمي إرنست همنغواي، وأمام تحديات العالم الخاطفة من دوامات المحن والتهديدات، يبقى السؤال: هل بات العالم يعيش في خريف العمر وخصوصاً أمام ارتفاع درجات الحرارة الحاد، والجفاف، ونقص المياه، وتغيّرات المناخ، التي لا ينفع معها ترياق، أو جهود فردية ذاتية.رغم أن القرن الحالي فيه محركات وعي كبيرة للتعريف بتحدّيات الخطر الكبير، هذه المحركات أصبح جزء كبير منها موضة، أو موديل ضروري لتحسين صورة الدولة أمام الآخرين، وجزء من المكياج السياسي الضروري في صالون العلاقات الدولية. وهذا وارد بصورة حثيثة في ملف المناخ، رغم أن أزمة المناخ ليست خيالاً علمياً أو أزمة مستقبلية، بل وصفت بأنها معركة في العالم الحقيقي. وهي جزء من سلسلة معارك ظاهرها سياسي، لكن باطنها اقتصادي بحت، وخصوصاً ما يتعلق بمستقبل صناعة الوقود الأحفوري والطاقة النظيفة، ونظام التعويضات، والمسؤولية الجماعية لهذه المهمة كجزء من دبلوماسية متعددة الأطراف، التي حتى الآن لم تقدّم ما هو مطلوب. وكأن الجميع رفع شعار الدبلوماسية الخضراء، لكن على سبيل الحضور الافتراضي في هذا الملف الذي تصدّر أجندة النظام العالمي اليوم. اتفق مع مقولة ألبرت آينشتاين: «لن يدمّر العالم أولئك الذين يفعلون الشر، بل أولئك الذين يراقبونهم دون أن يفعلوا أي شي».
«الاحتباس الحراري» (أنجل بوليغان)

لا مناص أن البضاعة الليبرالية جذابة في محتواها، وجينات مضمونها، وأفكار فلاسفتها في البيئة المعرفية، لكن تحوّل الكم الهائل من منصات أفكارها إلى مجرد موضة سياسية من الضروري أن تعلّق على أبواب حصونها الفكرية، بل إلى ضرورة خطابية على شرفات دعاتها الأيديولوجية، التي هي بالنتيجة قابلة للتأويل، ومنها موضوعات باتت تحتل مساحات الاهتمام مثل المناخ والنسوية والمساواة وغيرها.
بالمقابل، فإن هذه الموضات الفكرية تكاد تنخر الصدأ في مساحتها العملية أمام التحديات الثلاث التي وصفها نعوم تشومسكي بأضلاع المثلث: الاحتباس الحراري، الحرب النووية والتضليل عبر انهيار أي نوع من الخطاب العقلاني في العالم.
في عالم هوبزي جشع لا يسع تفكيره إلا موضوعات زيادة الإنتاج وحسابات البنوك، وبالتالي لن يهمّه أن يكون لون العالم أخضر أو أصفر في مخططاته، وحتى إذا ما وجد مساحة ضئيلة كما هو حاصل في بعض الشركات الكبرى في بعض شعاراتها ودعواتها، فإنه يبقى جزءاً من «الغسيل الأخضر» لو صحت تسميته. يعني عناوين عاطفية براقة وجاذبة وثورية، في الوقت نفسه لا يحتل الاهتمام أية مضامين حقيقية لتقنين العقد الأخضر للكوكب عبر التخلي عن طاقة الوقود الأحفوري، القرار الذي لا يزال يفتقر إلى الإرادة السياسية لوضع نهاية، أو تقليل، لخطورته. رغم أن مفاوضي نحو 200 دولة جلسوا في محاولة إنقاذ هذه الدبلوماسية الخضراء من الذبول، لكن يبدو أن هناك نجاحاً لكوابح الشركات المتعددة الجنسيات والدول الصناعية الكبرى في جعل القضية مجرد مزايدة استعراضية شعبوية في المسرح الدولي. ولنعترف بأن طرفها الآخر، المتمثّل في المجتمع المدني ونشطاء المناخ، تحوّل همّهم إلى مجرّد العبث بتاريخ وذاكرة العالم الفنية.
لا ينكر أحد من صنّاع القرار ضرورة السيطرة على مصدر الانبعاثات للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة العالمي عبر السعي إلى بناء نظام فعال ومعقد، رغم أن الملف يحظى بالاهتمام الرسمي والشعبي. فبخصوص الأوّل، حسب تقدير حديث للأمم المتحدة في برنامج البيئة، وقّع قادة العالم على أكثر من 500 من الاتفاقيات المعترف بها دولياً، بما في ذلك 61 اتفاقية متعلقة بالغلاف الجوي ذات الصلة بالتنوع البيولوجي، وكذلك 179 اتفاقية متعلقة بالمواد الكيميائية والمواد الخطرة والمخلفات، و46 اتفاقية بشأن الأراضي، و 196 اتفاقية ذات صلة عامة بقضايا التعامل مع المياه. تصدّرت البيئة والمناخ الآن أكثر المجالات شيوعاً في القواعد والمناقشات الدولية، لكن لا يزال عنوان الفشل البشري في معالجة أكبر تهديد للوجود يتصدّر، حتى إن القمم المناخية صارت روتيناً دولياً؛ من البرازيل، إلى كيوتو، وباريس، وغلاسكو، وشرم الشيخ، إلى أبو ظبي القادمة، لا نزال بحاجة إلى حلول ناجعة بعيداً عن الخطب التأبينية والمواعظ لإعلان موت الكوكب قريباً.
السؤال هو: ما هي النتيجة الواضحة لنحو ثلاثة عقود زمنية من المفاوضات، في حين أن الانبعاثات بلغت مستوى قياسياً ولا تزال تواصل الارتفاع. ورغم كل هذا الاهتمام، لم تنجح الدبلوماسية الدولية في وضع خطة لخفض الانبعاثات بشكل جذري. وكأن سيارة الإسعاف الدولية لم تسعف بعد الكوكب الذي يعيش في قسم الطوارئ، وكالحالة مع بقية التحدّيات العالمية لا يمكن عزل الملف عن السياسة الداخلية والخارجية للدول، وخصوصاً أن كبار الملوثين - لو صحت التسمية - ليس لديهم الرغبة الحقيقية في خفض انبعاثاتهم. وبالتالي، فإن العدالة المناخية في النظام القائم الحالي تحتاج إلى مراجعة، رغم ما حققته قمة شرم الشيخ الأخيرة في مصر بإنشاء صندوق للتعويض عن الأضرار المرتبطة بالمناخ، الخاص بتمويل الأضرار المناخية التي تتكبدها الدول الفقيرة، مقابل استمرار الدول الصناعية الكبرى بعدم الالتزام، وهذا يحتاج بحد ذاته إلى مراجعة شاملة.
في عالم هوبزي جشع لا يسع تفكيره إلا موضوعات زيادة الإنتاج وحسابات البنوك، وبالتالي لن يهمّه أن يكون لون العالم أخضر أو أصفر في مخططاته


الكل يتفق على هدف اجتماع باريس باحتواء ارتفاع متوسط الحرارة، لكن لا يريد الجميع التنازل والاستمرار بنفس السياسات الصناعية. صحيح أن الوصول إلى هدف الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى خفض الانبعاثات لتحقيق الاستقرار عند متوسط درجة حرارة عالمية تبلغ 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة بحلول عام 2100، ليس سهلاً، لكن الإرادة الدولية لتحقيق هذا الهدف لا تزال في بداية السباق بينما تتصاعد حرارة الكوكب ولا تنتظر الأرض الأمّ، بطبيعة الحال، التوظيف السياسي للأزمات كما حصل في أزمة «كورونا» التي أصابت جهاز التنفس البشري بشكل فردي وكشفت عورة العولمة ومعيارها الأساس عبر الأنانية السياسية تحت شعار «نفسي ومن بعدي الطوفان». بينما نحن نعيش اليوم أزمة وجود؛ كل مصادر الحياة البشرية بقيت تحت رحمة التنافس الصيني - الأميركي، والحرب الروسية الأوكرانية وأزمات الطاقة، فإن اضطرابات الطاقة الناتجة - مثلاً - من الحرب في أوروبا دفعت العديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى معاودة فتح محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم، أو الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال، كأنّ العالم يعيش اليوم تحت وطأة حرب باردة مناخية يشكل أحد أطرافها الولايات المتحدة الأميركية، ومجموعة العشرين، والاتحاد الأوروبي، مقابل دول مجموعة 77 مع الصين.
المشكلة أن الدبلوماسية الجماعية تحتاج إلى الاعتماد على البنيان التأسيسي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، التي تشكل بمثابة الاتفاقية التأسيسية عام 1994 بشأن العمل المناخي، وتم تطويرها في اتفاقية باريس لعام 2015 ولاحقاً المؤتمرات، وأسمّيها «مؤتمرات الحياة»، وهي باتت تشهد مظهر الخلاف بشكل واضح بين أطرافها. ويبدو أن الظروف الدولية لم تساعد حتى أن تستفيد من هذه الاجتماعات في صناعة دبلوماسية الأسرة المتكاتفة التي تواجه خطر الزوال لمجتمعاتها ومستقبلها القريب مع زيادة مرض فقدان الثقة الدولية، واضطراب ميزان العدل المناخي، وخصوصاً بين عالم الجنوب والشمال، وهذه لن تكفيها مبادرات خضراء أو مؤتمرات خطابية أو بروتوكولات مونتريالية، ما لم تحوّل إلى «صيدلية دبلوماسية» كفيلة بإيجاد الحل الآني والفوري، الذي بالنتيجة لن يكون عبر تلويث السماء الزرقاء بلا اكتراث وبالمقابل تدفع أضراره مادياً، في معادلة هجينة وسطحية هي الأقرب إلى عقل صانع القرار الغربي، كأحلام من ينامون على الريش ولا يفكرون بمن ينام على الأرض.
وفق المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، كما يراها ستيفن والت، حيث تعتمد كل دولة بشكل أساسي على مواردها للبقاء على قيد الحياة، وبالتالي فإن الثقة تصبح نادرة، والإيثار الدولي شبه معدوم، حينما تطغى المصالح الوطنية الأنانية على القيم العالمية، ولهذا السبب لا تجد الواقعية الغرابة في فشل القوى الكبرى للقيام بما هو مطلوب لمعالجة مشكلة تغير المناخ. مثلاً، في قضية التمويل التي تعتمد على الثقة بين الدول الغنية والنامية ومعدلات الاستجابة الإيجابية من جانب الدول الصناعية، فقد وعدت الأخيرة بدفع 100 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020، لكنها لم تفِ بوعدها.
استعار ستيفن حكاية المنظّر جان جاك روسو عن مطاردة الصيادين للغزال لتوضيح هذه المشكلة، حيث كان يجب على اثنين من الصيادين أن يقرر كل واحد منهما بشكل منفصل، ما إذا كان عليهما اصطياد غزال أو أرنب، وإذا تعاونا للقبض على الغزال، فسوف يستمتعان بعشاء لحم الغزال، ولكن إذا بحثا سراً عن أرنب، فسوف يخسران لحم الغزال، وسيصابان سريعاً بالجوع. وهذا هو موقف القوى الصناعية في خفض الانبعاثات، ولكن قد تميل كل منها إلى الغش، وخاصة إذا كانت تتوقع من الآخرين أن يفعلوا ذلك أيضاً، وهذا يوضح صعوبة إقناع الدول بالتضحية من أجل المصلحة العامة. مثلاً، إن تراجع الاقتصادات الكبرى عن وعودها بالتخلي عن الوقود الأحفوري، رفع سقف مطالب الدول النامية في أفريقيا إلى ضرورة السماح لها بتطوير احتياطاتها من الوقود الأحفوري، حيث تشير الواقعية إلى أن الحل يجب ألا يعتمد على النداءات المثالية للإنسانية، بل البحث عن المصالح الضيقة لكل دولة قومية من أجل أن تقوم بتقديم التنازلات الضرورية في هذا الملف.
وحتى وإن تحوّلت الدبلوماسية الخضراء من مجرد سياسة بيئية إلى محور أساس في السياسات الخارجية للدول (بل تحوّلت إلى جزء أساس من استراتيجيات الأمن القومي، ولهذا عيّنت بعض الدول مبعوثين دبلوماسيين متخصصين في مجال المناخ)، إلا أن - مثلاً - التأرجح الأميركي واضح صداه من موقف ترامب الذي شكك بجدية الخطر البيئي وإمكانية السيطرة عليه من خلال ضبط أنشطة الدول الصناعية الكبرى. فقد قال ذات يوم إنه لن يستغني عن النفط من أجل ما سمّاه أحلام أو طواحين هواء التي هي بصراحة لا تعمل بشكل جيد، ويقصد بها الطاقة النظيفة، مروراً بموقف جو بايدن الذي عيّن جون كيري ممثلاً خاصاً له لقضايا المناخ.
هذا ما يحدث عام 2047 وفق مخيلة الروائي الكندي عمر العقاد في روايته المترجمة «الحرب الأميركية»، حيث يقرّ مشروع قانون يحظر استخدام الوقود الأحفوري في الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا تنفصل ولايات أميركية بعضها عن بعض، فيما تدخل المكسيك تكساس، وتدخل أخرى في حروب أهلية، وفي ظل هذه الظروف يرتفع منسوب البحر، وتغرق فلوريدا والساحل الشرقي، وفيضانات خطيرة أخرى في جنوب آسيا، ويصبح شبح المناخ القاسي مغيّراً لخريطة العالم.
حوكمة المناخ تكشف لنا أيضاً صراع الهوية، في حين أن الأزمة تقع على عاتق الجميع، لكن بلا شك الحصة الأكبر ستقع على دول الشمال الصناعية مقابل دول الجنوب التي يعتقد أنها الأكثر تضرراً في هذا الملف. وأمام المشهد الجيوسياسي الحالي، سيكون ملف المناخ ثانوياً في جدول اهتمامات العمل الدولي، أو أكثر الملفات ضجيجاً وأقلها عملاً. فماذا لو لم يصمت العالم الضاجّ بالأنانية، ولا تستعيد الأرض فتوتّها؟ عندها لن نحتاج إلى نبوّات الدجّالين وفناجين العرافين وسيناريوات هوليوود من أفلام الرعب لمعرفة نهاية الأرض، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش: «نحن في الطريق السريع نحو جهنّم مناخي، ورِجلنا دائماً على دواسة السرعة».

* دبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية