عند مقارنة زيارتَي الرئيسين، الأميركي في تموز الماضي، والصيني في الشهر الحالي، للسعودية، فإن ما يلفت النظر هو أن الزيارة الصينية هي أنجح، وذلك في بلد كانت علاقاته مع الولايات المتحدة الأميركية هي حجر الرحى في بنية علاقاته الدولية منذ عام 1945 عندما التقى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود عند «ترعة السويس»، حيث بنيت العلاقة الأميركية - السعودية، أقلّه وفق التصور الأميركي، على ثنائية «الأمن السعودي» مقابل «النفط لأميركا». ما بين الزيارتين، حصلت في يوم 5 تشرين الأول واقعة التنسيق السعودي - الروسي في منظمة «أوبك بلاس»، عندما اتخذ قرار بتخفيض إنتاج النفط بمقدار مليونَي برميل باليوم للحفاظ على الأسعار مرتفعة، وهي خطوة استفزّت الأميركان إلى حدود دفعت الرئيس الأميركي جو بايدن، ومستشاره للأمن القومي جاك سوليفان، إلى مهاجمة السعودية.هنا، لا يمكن فقط عزو هذا الانزياح السعودي نحو موسكو وبكين إلى توترات عند الرياض من الأميركان تعود إلى قضية خاشقجي عام 2018، ولا إلى تخوفات سعودية من عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع إيران بعد استئناف واشنطن المفاوضات مع طهران من أجل ذلك منذ نيسان 2021 في فيينا، بل الأرجح أن هذا الانزياح السعودي ناتج من إحساس عند وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بأن نظام القطب الواحد الأميركي للعالم، والقائم منذ خريف 1989 مع انتصار الأميركان على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، حصلت فيه تشققات في بنيته، منذ يوم 24 شباط 2022 مع محاولة الانقلاب الروسية على هذا النظام عبر غزو أوكرانيا، تتيح حريةَ حركة للدول الأخرى بعيداً عن السيطرة أو الهيمنة الأميركية. هذه المحاولة الانقلابية لا يمكن، حتى الآن، قياس مدى نجاحها أو فشلها، فهذا يحتاج إلى زمن يقصر أو يطول. ولكنها قامت بهزهزة القبضة الأميركية على العالم، والتي رأينا مدى قوتها في حرب الخليج 1991 عندما لم تسأل واشنطن عن ممانعة الرئيس الفرنسي ميتران لضرب العراق، وفي حرب كوسوفو 1999 عندما تجاهلت المعارضة الروسية والصينية لضرب صربيا، بل حتى قامت الطائرات الأميركية «عن طريق الخطأ» بضرب السفارة الصينية في بلغراد، ثم كانت الذروة عندما تجاهل الرئيس الأميركي بوش أثناء غزو 2003 للعراق المعارضة الفرنسية - الألمانية - الروسية للغزو ولم يلتفت إليها أو يقم لها اعتباراً.
لا تقتصر هذه القراءة لمشهد عالم ما بعد 24 شباط 2022 على الرياض، بل هناك على ما يبدو قراءة مماثلة في طهران


لا تقتصر هذه القراءة لمشهد عالم ما بعد 24 شباط 2022 على الرياض، بل هناك على ما يبدو قراءة مماثلة في طهران، وهو ما يفسر التصلب الإيراني في المفاوضات النووية والبادي منذ أيلول الماضي، وهناك مؤشرات على أن الإيرانيين أصبحوا يديرون الظهر، أو لا يرغبون في إحياء اتفاق 2015 النووي الذي خرجت منه أميركا عام 2018 بزمن إدارة ترامب ويريد بايدن إحياءه. وربما يفضلون الخيار الكوري الشمالي، أي امتلاك القنبلة النووية ومن ثم إجبار الآخرين على التفاوض وفق الواقع القائم، أو خيار «العتبة النووية» الذي قال به الدكتور كمال خرازي في تموز الماضي في مقابلة مع قناة «الجزيرة»، أي امتلاك القدرة على صنع القنبلة والتوقف عند ذلك. هنا، ازدياد التعاون الإيراني - الروسي أخيراً، في مجالات عسكرية واقتصادية وتقنية، يدخل في هذه القراءة الإيرانية، وخاصة أنه يترافق ويتزامن مع التصلّب الإيراني في الموضوع النووي.
أيضاً، هناك قراءة مماثلة في أنقرة، حيث ازدادت العلاقات التركية - الروسية وترسخت أكثر مع ظرف الحرب الأوكرانية، وازداد تباعد الأتراك عن الأميركان. وفي نيودلهي كذلك، حيث ازداد التقارب الهندي - الروسي ولم تُجدِ محاولات استثمار واشنطن في الخلاف الصيني - الهندي حول الحدود منذ عام 1962 لإبعاد الهند عن روسيا التي أصبحت تشكل حلفاً مع الصين، قامت الحرب الأوكرانية بمظهرته. وبالتأكيد أن الرئيس البرازيلي الجديد لولا دا سيلفا يحمل رؤية مماثلة، وهو الذي ولدت مجموعة «البريكس» في بلده عام 2009 وضمّته مع الصين وروسيا والهند، ثم انضمّت جمهورية جنوب أفريقيا في العالم التالي، هذه المجموعة التي اجتمعت على السعي من أجل «عالم متعدد الأقطاب». وعلى الأغلب إن دا سيلفا الذي سيتسلّم الرئاسة البرازيلية مطلع العام سيكون بعيداً عن واشنطن أكثر مما كان برئاسته السابقة للبرازيل بين عامَي 2003 - 2011 وذلك بفعل قراءته لعالم ما بعد 24 شباط 2022.
هذه الهزهزة للقبضة الأميركية على العالم، والتي تعطي مؤشرات ملموسة على تشققات أو شقوق في بنية نظام القطب الواحد الأميركي للعالم، ليست ناتجة فقط من محاولة الانقلاب الروسية في 24 شباط الماضي، والتي تمثل خرقاً لقواعد الانضباط الدولي المعمول به، ليس فقط منذ عام 1989 بل منذ نشوء الأمم المتحدة في عام 1945، بل ناتجة أساساً من أن يوم 24 شباط 2022 ولد به معسكران متواجهان: الولايات المتحدة - بريطانيا - الاتحاد الأوروبي - اليابان ضد معسكر روسيا - الصين. ومن يراقب الأشهر العشرة الماضية يلاحظ مدى التركيز الأميركي ضد الصين بالتزامن مع مجابهة واشنطن مع موسكو وكيف ازداد التقارب التحالفي الصيني مع روسيا.
المجابهة بين هذين المعسكرين هي التي أتاحت حرية حركة للرياض وطهران وأنقرة ونيودلهي، وأيضاً للبرازيل وربما لمصر في المستقبل. هي شبيهة بحرية الحركة بين معسكرَي الحرب الباردة التي قرأ ممكناتها جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وجوزيف بروز تيتو وأحمد سوكارنو في مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي ولدت فيه حركة عدم الانحياز.

* كاتب سوري