تتشكّل البلدان، ومن ضمنها روسيا، من خلال الموروثات التاريخية. ومع ذلك قد يلعب الأفراد دوراً أكبر في تشكيل الدولة وثقافتها وهويّتها الوطنية. في حالة القادة الروس، كان بطرس الأكبر هو الذي أدخل إصلاحات ثورية وتمكّن من فتح «نافذة على أوروبا» للروس. وكانت إليزابيث بتروفنا هي التي واصلت عملية التغريب. وكان ألكساندر الثاني هو الذي غيّر وضع الإمبراطورية الروسية الاجتماعي والسياسي بإلغاء القِنانة (حالة من الرقّ أو العبودية ظهرت أولاً في أوروبا خلال العصور الوسطى). وفي وقت لاحق، شكّلت الأفكار والأفعال الشيوعية لفلاديمير لينين وجوزيف ستالين وميخائيل غورباتشوف الدولة الروسية والهويّة الروسية بشكل كبير. ونرى اليوم فلاديمير بوتين يحاول إعادة بناء القوّة الروسية ووجودها الدولي بناءً على رؤيته التي سمّاها كثيرون «البوتينية».

في بلد مثل روسيا يمتلك الأفراد فيها تأثيراً كبيراً على سياسات الدولة، فإن رؤية الرئيس الروسي لبلاده، وفهمه لتاريخها وقيمها، علاوة على تجاربه الشخصية السابقة، تصبح عاملاً محدّداً في الحياة السياسية. فبوتين لم يعد رئيساً للدولة فقط، بل أصبح في نظر الكثيرين «روسيا نفسها». يعتبر البرلماني الروسي السابق سيرغي ماركوف أن روسيا لديها «مؤسسات ضعيفة وقائد قوي جداً. لذلك يعدّ بوتين أعلى من المؤسسات الروسية وأقوى منها. ومن دون بوتين لن تستطيع المؤسسات الروسية الضعيفة الحفاظ على وحدة البلد والاستقرار الاجتماعي وقد تتّجه روسيا نحو الانهيار». ويقول السياسي الروسي فلاديسلاف سوركوف في مقال نشره عام 2019: «اعتباراً من الآن، تكتسب ماكينة بوتين السياسية العظيمة الزخم وتوفّر الإعداد للعمل الطويل والصعب والمثير للاهتمام. لم تصل ماكينة بوتين السياسية إلى القوة الكاملة. هذه النقطة لا تزال بعيدة المنال. لكن بعد سنوات عديدة من الآن ستظل روسيا دولة بوتين، بالطريقة التي لا تزال بها فرنسا المعاصرة تطلق على نفسها اسم جمهورية ديغول الخامسة، والطريقة التي لا تزال تركيا (على الرغم من أن من هم في السلطة الآن معادون للكماليين) تعمل على إيديولوجية أتاتورك، والطريقة التي لا تزال فيها الولايات المتحدة حتى يومنا تستند إلى الآباء المؤسسين».
ومن أجل فهم أكبر للخلفيّات الفكرية للرئيس الروسي أعدّ «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» دراسة بعنوان «تفكيك الشيفرة البوتينيّة: عرّابو فكر فلاديمير بوتين» حول أبرز الشخصيات التي تأثّر بوتين بأفكارها وحياتها وتجاربها (انظر الجدول، وهم: إيفان الكسندروفيتش إيليين، نيكولاي ألكساندروفيتش بيردييف، ألكسندر دوغين، نيكولاي ميخائيلوفيتش كرامزين، ألكسندر إيزاكي سولجينتسين، بيتر أركاديفيتش ستوليبين، أنطون إفانوفيتش دينيكين، أناتولي ألكساندروفيتش سوبتشاك، فلاديسلاف يوريفيتش سوركوف). جرى اختيار هذه الشخصيّات عبر تتبّع خطابات الرئيس بوتين وكتاباته ومقابلاته وقراراته السياسية والثقافية وأهم أقوال وكتابات شخصيّات مقرّبة منه. هؤلاء التسعة، ومن خلال سرد سيرتهم وأفكارهم وأبرز مراحل حياتهم وأهم كتاباتهم، يستطيع القارئ تكوين صورة عامة عمّا يشكّل الأساس الفكري للرئيس الروسي.
يجتمع هؤلاء حول الهوية الفريدة لروسيا. روسيا بالنسبة إليهم ليست أوروبية ولا آسيوية، بل هي «كيان مستقل». يعتبر الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أن «روسيا ليست جزءاً من أوروبا وليست امتداداً لآسيا. إنها عالم مستقل بذاته، واقع جيوبوليتيكي روحي-تاريخي مستقل اسمه أوراسيا». أمّا الفيلسوف الروسي إيفان إيليين فيعتبر أن روسيا ليست «دولة فيها أفراد ومؤسسات، بل هي مخلوق خالد». ويقول الفيلسوف الروسي نيكولاي بيردييف: «إن الشعب الروسي ليس شعباً من أوروبا الغربية، وروح الشعب الروسي هي روح معقّدة ومتشابكة، حيث تصادمت وتخالطت بين تيّارين من تاريخ العالمين الشرقي والغربي. وهذا ما ذكره بوتين أكثر من مرّة حين قال إن الهويّة الروسية هي هوية فريدة، تمزج بين الحضارتين الشرقية والغربية.
وروسيا التي يؤمن فيها هؤلاء التسعة هي روسيا الإمبراطورية بمعناها الحضاري وليس التوسّعي، وبالتالي المكانة الطبيعية لروسيا هي في نظام عالمي تشكّل الحضارات المختلفة حول العالم أقطابه. وهذا ما يفسّر خلفيات إعلان الرئيس الروسي «معركة التفوّق الحضاري» أولوية قصوى في السياسة الداخلية والخارجية، والهجوم الكبير على الليبرالية وما تمثّل من أفكار تسعى لفرضها حول العالم. ولعل بوتين يريد لمسيرته أن تحقّق هدف بلاده الذي طرحه الفيلسوف الروسي إيفان إيليين بالقول: «مهمة روسيا هي حماية الحضارة والخير من خلال إنتاج قائد عظيم ينقذ روسيا ويهزم الآخر الشرير». ويصف دوغين الروس بأنهم «شعب إمبراطورية ومصير هذا الشعب هو التوسع الحضاري وبناء الإمبراطورية الروسية».
يجتمع هؤلاء حول الهوية الفريدة لروسيا. روسيا بالنسبة إليهم ليست أوروبية ولا آسيوية، بل هي «كيان مستقل»


كما يجتمع الأشخاص المذكورون في الدراسة بمواقفهم إمّا المعادية أو المنتقدة بقوّة للشيوعية، حتى إن بعض هذه الشخصيات كان قد نُفي خارج روسيا بسبب مواقفه المعادية للشيوعية. يجادل الفيلسوف الروسي نيكولاي بيردييف بأن التحوّل الروحي للأفراد هو الوسيلة الوحيدة لخلق بديل من الفاشية والشيوعية. وكان يرى أن المسيحية مطلوبة للتغلب على «الدين الشيوعي المصطنع». وكانت لديه قناعة بأن «للمسيحية الروسية مهامَّ خاصة متعلّقة بالمسيحية العالمية». أمّا المؤرّخ الروسي ألكسندر سولجينتسين، فهو كان قد انتقد الشيوعية مراراً وأهمها كان في كلمة له أمام مجلس الدوما الروسي عام 1994. حتى إيفان إيليين كتب في أحد مؤلّفاته: «الاشتراكية بطبيعتها حسودة، شمولية وإرهابية، والشيوعية تختلف عنها فقط من حيث إنها تظهر هذه السِّمات علانية وبوقاحة ووحشية». وأخيراً كان السياسي الروسي أناتولي سوبتشاك جزءاً من حركة البيرسترويكا، وهي حركة سياسية للإصلاح داخل الحزب الشيوعي السوفياتي.
بالإضافة إلى ذلك، تؤمن غالبية هذه الشخصيات بأن دور روسيا الأساسي هو دور مستمد من الكنيسة الأرثوذكسية وبالتالي هي تحمل رسالة إلهية، فالهوية الدينية هي جزء من هوية روسيا. الجنرال أنطون دينيكين، الذي كان قائد الجيش الأبيض الذي حارب ضد البلاشفة وضد قيام روسيا السوفياتية، كان يُؤمن أن الثورة البلشفية من عمل اليهود، وهي موجّهة ضد الأرثوذكسية ولذلك توجّب عليه محاربتها والدفاع عن الأرثوذكس. أمّا بيردييف، فكان يعتقد بأن الفكرة الروسية ليست فكرة ثقافة مزدهرة ومملكة عظيمة بل هي الفكرة الأخروية لمملكة الله. ويعتقد دوغين أن التمسّك بالدين أمر أساسي لروسيا في مواجهة «الليبرالية التي تصرّ على الحرية والتحرر من أي شكل من أشكال الهوية الجماعية. فالليبراليون حرّروا الإنسان من الهوية الوطنية والهوية الدينية». حتى السياسي الروسي بيتر ستوليبين، الذي رفع شعار الإصلاحات الدينية، كان يعتقد أن روسيا يجب أن تظل دولة مسيحية تستمر فيها الحكومة في لعب دور مهم في الشؤون الدينية. وهو ما يؤمن به بوتين أيضاً، فهو يعتقد أن طريق روسيا فريد وأن المسيحية الأرثوذكسية هي أحد عناصر روسيا المميّزة.
وأخيراً، تجتمع هذه الشخصيات على خطورة انفصال أوكرانيا عن روسيا. فيقول أنطون دينيكين: «لن يسمح أي نموذج من روسيا، سواء أكانت رجعية أم ديموقراطية، جمهورية أم سلطوية، بفصل أوكرانيا». وكان دينيكين مقتنعاً بأن النزعة الانفصالية في أوكرانيا يتم تشجيعها من قِبل أعداء روسيا في الخارج بهدف إضعاف بلاده. واعتبر إيليين أن «أي حديث عن انفصال أوكرانيا عن روسيا يجعلها عدواً لدوداً لروسيا». ويقول دوغين في إحدى كتاباته: «الغرب يعرف القليل أو لا يعرف شيئاً على الإطلاق عن التاريخ الحقيقي لروسيا. في بعض الأحيان يعتقدون أن الاتحاد السوفياتي كان من صنع شيوعي بحت وأن الدول مثل أوكرانيا أو كازاخستان أو أذربيجان كانت مستقلة قبل الاتحاد السوفياتي وغزاها البلاشفة أو أُجبرت على الانضمام إلى الدولة السوفياتية. الحقيقة هي أنهم لم يكونوا موجودين على هذا النحو مطلقاً فهم يمثّلون مقاطعات إدارية داخل الإمبراطورية الروسية بدون أي معنى سياسي أو تاريخي. تم إنشاء هذه البلدان في حدودها الحالية بشكل مصطنع فقط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونتيجة لهذا الانهيار». وهذا ما قاله بوتين قبل وقت قصير من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حيث نفى فيه وجود أوكرانيا كدولة مستقلّة بذاتها واعتبر أن «أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لروسيا وإنما هي جزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا وثقافتها».
يمكن القول إن بوتين شخصيّة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ والحضارة والقيم الروسية. وهو بعيد كل البعد عن الليبرالية وما تعكسه من أفكار. قد يكون براغماتياً في بعض الأحيان ولكنه محافظ في الوقت ذاته ومع مرور الوقت تبرز شخصيّته المحافظة أكثر فأكثر. ولا شك أيضاً في أن الرئيس بوتين قارئ ممتاز لتجارب النخب السياسية السابقة، كما أنه مهتم جداً بطروحات النخب الفكرية التي عاصرت الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي. فالتصدّي لمهمّة تحديد موقع روسيا في النظام العالمي يتطلّب فهماً معمّقاً للتجارب السابقة، ورؤية واضحة لموقع روسيا التاريخي، خاصة أن بوتين مقتنع أن التجديد مطلوب في روسيا ولكن بشكل لا يتعارض مع الأصولية الروسية. وكما قال بيردييف: «الأمة لا تُعرف بالسيادة ولا بالدين أو العِرق فقط، الأمة هي المحافظة مع التجديد، هي العودة نحو الماضي والنظر بعيداً إلى المستقبل، فنهاية روسيا وانطفاء الروح يعنيان سيادة الاستبداد وعصر الانغلاق، بحيث تصبح روسيا أسيرة أفكار جديدة نمطية ونهائية».

* باحث لبناني

**الدراسة كاملة منشورة على موقع «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»