استطاع فيلم «فرحة» أن يحصد فرحة كثير منّا في الأيام الماضية، ذلك بين تعطّش الفلسطينيين والعرب إلى تمثيل قضيّتهم المركزية عالمياً وبين الحملات الإسرائيلية التي شنّت ضد الفيلم ومنصّة «نتفليكس»، وهذه أصداء مفهومة، إلا أنّ الحاجة تبقى قائمة إلى النقد. فعلى الرغم من أن الفيلم مبنيٌّ على قصة واقعية تعود إلى لاجئة فلسطينية في سوريا، فإن تناول القصة وسرد الأحداث وكتابة النص أقلّ ما يقال عنها إنها مجحفة في حق قضية تطهير عرقي ولجوء. يعود السبب في ذلك إلى اتباع عالم السينما الحديث فكرة رواية القصص الفردية وشخصنتها إلى حدّ مبالغ فيه يجعلك تركّز على فردانية أيّ صراع، لا على شكله الحقيقي وأبعاده الجماعية الكاملة. يبدأ الفيلم بالحديث عن حياة الفتاة فرحة في قريتها ورغبتها في إكمال تعليمها بالمدينة وصراعها في إقناع والدها - مختار القرية - في أن يحقق لها حلمها. لا يلمس الفيلم وضع أهل القرية أو قلقهم من أي خطر، فيعرض مشهداً، أو مشهدين، يعكسان ما يجول في القرية من حديث عن خطر الحرب والتهجير. إلا أن الأحاديث تلك مفرغة المضمون تماماً لأنها تذكر الأخطار التي كانت تواجه الشعب الفلسطيني بشكل مبهم مجهول، مختزلة بمشهد حديث يدور في بيت المختار، حيث يزوره الثوار طلباً للمؤازرة، فنرى نص المشهد يخفي الفاعل، حيث يتحدث عن التهجير بشكل يتطابق مع تقارير الصحف الغربية للنكبة، والتي لا تجرؤ على ذكر مقترف الإبادة. فيقول في المشهد: «تقريباً ما ضلّ من القرى الفلسطينية إلا وطلع منها مهجرين وعم بصيروا لاجئين في عدة مناطق»، وكأن اللجوء حالة اكتسبها الفلسطينيون ذاتياً ولم يكونوا ضحية لها. فضلاً عن عدم استخدام لفظ الاستعمار خلال الفيلم، فكيف لا يذكر الفلاحون المنتفضون الخطر الاستعماري المزدوج من الإنكليز ومن اليهود؟
تكمل حبكة الفيلم طريقها إلى النكبة حتى نصل إلى اقتحام قرية فرحة، والتي لا نعرف عنها شيئاً؛ نرى أهالي القرية يحاولون النجاة من الفاعل المجهول الذي اقتحم قريتهم، ونرى قصفاً يتساقط عليهم من السماء حتى دون أي إشارة من أهالي القرية أن من يقصفهم هم الصهاينة.
ثم يقرّر الفيلم أخيراً أن يردّ على سؤال «من؟» فنرى مشاهد لا تزيد بمجموعها عن 60 ثانية، أي ما يعادل 1,098٪ من الفيلم، لتوحي بأننا عرفنا الفاعل أخيراً في مشهد جريمة قتل عائلة فلسطينية، ولكنّنا حتى حين نصل إلى الإجابة لا نسمع أي شيء أكثر من بضع كلمات عبرية، ولا نرى أي إشارة غير الجندي الذي يرتدي القلنسوة، والذي نراه يبكي لاحقاً حين تثار «مشاعره الإنسانية» على ما ارتكبته عصابته الصهيونية من مجزرة في القرية. والمفارقة هنا هي تسلّل الخطاب الليبرالي الصهيوني الذي يحاول إقناعنا بأنه ارتكب تلك المجازر مكرهاً، وكأنه هو الآخر كان ضحية لها، أو أنها كانت مجرد هفوة تاريخية يمحوها حاضره الأكثر بياضاً، وهو دليل واضح على قصور في فهم القائمين على الفيلم لمعادلة أن وجود الصهاينة على أرضنا مربوط بالضرورة بمحونا وإزالتنا واستمرار نكبتنا.
في نهاية الفيلم، يمرّ علينا مصير فرحة النهائي في مشهد خروجها من الغرفة إلى قدرها الحتمي وهو الفرار من التطهير العرقي، إلا أن هذا المصير أيضاً يُختزل في بضع جمل قصيرة لا تعكس الحقيقة الكاملة للجوء أو وضع فلسطينيي المخيمات واللاجئين وقضيتهم، وهو ما لن يفهمه أي مشاهد لم يعش ربع هذا الحدث.
بعد مشاهدة الفيلم، يبرز لنا استنتاجان:
الأوّل، يساهم الفيلم، ولو لم يتعمّد ذلك، في تحويل قضية النكبة الفلسطينية إلى حدث انقضى، في تماهٍ تام مع المشروع الغربي لتحويل حدث النكبة إلى مجرد حدث تاريخي لا عملية مستمرة من التطهير العرقي والتهجير والإبادة التي نواجهها حتى اليوم.
ومن هنا نصل إلى الاستنتاج الثاني والأهم، الذي يتلخص في التساؤل عن وصول فيلم عربي يتحدّث عن النكبة الفلسطينية مثل «فرحة» إلى منصة غربية أميركية مثل «نتفليكس» التي تعدّ إحدى أبرز الأدوات الليبرالية الغربية الناعمة الموجّهة إلى شعوب الجنوب. ولنتذكّر هنا أن هذه المنصة نفسها تعرض وبشكل منهجي أعمالاً مروجة للصهيونية.
إنّ أهم ما نستفيده هنا، أنّ كل ما تهدف منه «نتفليكس» من عرض فيلم بهذه المعايير على منصّتها ينصبّ في خانة تمرير زيف الموضوعية بخبث في أذهان الجماهير. وكالعادة يعتمد الغرب الاختباء وراء ستار من الموضوعية المزيفة التي تخفي انحيازه ضد الفلسطينيين والعرب، وذلك من خلال سياسته الانتقائية للخطاب العربي الذي يراه مناسباً في الحديث عن القضية الفلسطينية. فتطابق السرد في «فرحة» مع المواصفات الغربية للخطاب الحقوقي وأشكال التضامن والتعاطف المرغوب فيها يلخّص الإجابة عن تساؤلاتنا. ويجعلنا ندرك محاولة الغرب خلق التوازن، بين انحيازه ضدنا وبين صورته المتقدمة الإنسانية، ليصوّر لنا أن ماضيه الدموي لا يشبه حاضره اللامع، فيحاول أن يستغل موضوعيته المدعاة ليحوّل النكبة إلى حدث تاريخي علينا تخطّيه وجعله حبيس الذاكرة والتخلّي عن مستقبلنا.
وليس من نظريات المؤامرة وضع مقبولية الفيلم غربيّاً ضمن مسار حربهم الدؤوب على حق العودة، وعليه، جعل النكبة مجرّد حبيسة الذاكرة والتخلي عن مستقبل اللاجئين والمخيمات، وأن يكمل سوقنا سكارى ضمن مشروع إبادتنا المستمرة، على أساس أنه مجرد كابوس انتهى. وهو أسلوب ناعم لإفراغ النكبة من معناها الحقيقي، وضمان غربي لاستمراريتها، وعملية تحويلها إلى تاريخ مضى هي طريقة تغطية استمراريتها اليوم.
أخيراً، إن مطابقة «فرحة» لمواصفات الغرب في تمثيل قضايا الشعوب هي انعكاس جليّ للتبعية الاقتصادية في السينما العربية والإنتاج الفني العربي، الذي يمرّ عبر عملية التنقيح الغربية وشبكات تمويل تابعة أو مقبولة له، ليخلق لنا سينما بلغتنا تعكس صوته بشكل يساعده في الإبقاء على صورته الموضوعية الحضارية. الأمر الآخر، ومن باب المفارقة، ومن باب النقد الذاتي، إن جبهتنا الثقافية اليوم من الضعف أننا تركنا تصوير نكبتنا لرؤوس المال الدائرة في فلك الإمبريالية التي نقارعها، وضمن معايير الغرب الذي يرعى إبادتنا ونحن نصفّق: «النكبة على نتفليكس»!

* كاتبة مقدسية