يكتسب السؤال الوارد أعلاه مشروعيته من معطيين اثنين، أولاهما أن قيام الكيان الإسرائيلي، وكذا دوام استمراره، أمر مرتبط بدوام «حبل المشيمة» الذي يربطه بالقطب الغربي الذي كانت تمثّله بريطانيا حتى عام 1956 قبيل أن تغيب شمسها بدءاً من خريف هذا العام الأخير مفسحة المجال لقوة صاعدة مثّلتها الولايات المتحدة الأميركية التي غدت ما بعد عدوان السويس مركز ثقل الغرب. الأمر الذي يفسّر انتقال «الوصلة» من الرحم البريطاني إلى نظيره الأميركي عام 1964 بفعل تغيّر ميزان القوى الحاصل ما بعد السويس. وثاني المعطيين، هو أن الصراع الدائر مع الصهيونية، وعلى الرغم من أنه يكتسب تلاوين عدة، لكنه في جوهره يمثّل صراعاً ما بين حركة تحرّر وبين الإمبريالية العالمية بطبعتها الأشد وحشية: الأنغلوساكسونية. وبمعنى آخر، فإن لصبغته الأيديولوجية دوراً كبيراً في تحديد موازينه، ثم في تحديد وتيرته والمآلات المنتظرة للمسار الذي سوف تتخذه هذي الأخيرة. نبحث هنا في معرض الإجابة على الفرضية السابقة في بزوغ الفكرة، التي نقصد بها هنا إقامة مخفر متقدم للغرب، للمرة الأولى، والتي يمكن لحظها، أول ما يمكن، عند نابليون بونابرت الذي خلص في نهاية حملته على المنطقة 1798-1801 إلى وجوب قيام «عازل جغرافي» ما بين الشرق والغرب العربيين، وهو تصوره في فلسطين. ثم يمكن لحظها أيضاً عبر وعد بلفور 1917 الذي يمكن قراءته على أنه وعد بريطاني بتوريث الكيان المزعوم قاعدة مادية وتكنولوجية تفوق تلك التي يمتلكها المحيط الذي سيسبح فيه، بدرجة أكبر من وعد بـ«قيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين» كما ورد في ذلك الوعد الذي وجهه الوزير البريطاني آرثر بلفور للثري اليهودي روتشيلد. فالوعد كان قائماً من الناحية العملياتية التي فرضتها الضرورة والاحتياج، ولذا لم يكن وعد بلفور أكثر من تعبير عن كلتا الأخيرتين. لكن لربما استطاع الفعل/الوعد أن يتيح للقوى المستفيدة فرصة للضغط على غرف صناعة القرار السياسي وصولاً لدخوله مرحلة التنفيذ بأسرع وقت ممكن. لكن من دون التخلي عن الرابط الأيديولوجي الذي يؤمّن دوام دعم هذا الأخير حتى ولو وجد صانع القرار نفسه يوماً ما أمام حالات تفرض عليه تقليصه أو حتى استبعاده تماماً، من نوع أن يحدث تضارب في المصالح مثلاً، أو ترتقي مفاهيم حقوق الإنسان لتشكل «مطرقة» لا يمكن لذلك الصانع تجاهلها.
لم تكن الحركة الصهيونية قد قامت في أيديولوجيتها على التوراة، أو ملحقاتها التي أنتجتها الثقافة اليهودية في ما بعد، بل كانت تلك الحركة نتاجاً لـ«الكلفانية» التي تبلورت كمنهج خرج إلى العلن في أتون الحرب الأهلية الإنكليزية الأولى 1642 - 1646، ثم تبلور في أعقاب اندلاع الجولة الثانية من تلك الحرب 1948-1949. ففي أتون السنوات السبع المتقطعة لتلك الحرب نشأت جماعة متطرفة داخل طائفة البروتستانت الإنكليزية عرفت باسم «البيوريتان»، أو المطهرون، التي كانت تسعى للخلاص من الأساقفة، وتطالب بمراجعة كتاب الصلاة. وفي غضون طروحاتها تلك اصطدمت بالملك شارل الأول الذي حاربها بعد أن تبيّن له أن «رأسه» هو المطلوب في النهاية. وفي خضم ذلك الصراع راحت أفكار الفرنسي جون كالفن التي راجت ما بين عامي 1936 و1559 تنتشر لتشكل منهجاً للجماعة على الأرض البريطانية، والثمار أينعت عندما نجحت ثورة أوليفر كرومويل بقطع رأس الملك شارل، الفعل الذي رمز ليس إلى قطيعة مع الملكية فحسب، بل إلى صعود أيديولوجيا جديدة من النوع الذي سيصبح شديد التأثير في السياسات العالمية على امتداد القرون اللاحقة.
توسم «البيوريتان» بأنها جماعة متطرفة نشأت داخل طائفة البروتستانت الإنكليزية، وقد قويت شكيمتها في أتون الحرب الأهلية الإنكليزية حيث ستشكل أفكار أوليفر كرومويل، الذي قام بقطع رأس الملك شارل الأول، قاعدة لظهور الحركة الصهيونية، وفي ذاك كان كرومويل قد ادعى السماح للشعب الإنكليزي بتحقيق «النقاء الأخلاقي» الضروري لتجاوز محنة السنوات السبع، سنوات الحرب الأهلية، والترحيب بعودة السيد المسيح والعيش معه ألف عام بسلام. لكن ذلك لكي يتحقق، وفقاً لقراءة كرومويل للتوراة، يتوجب على اليهود أن يتشتتوا في أصقاع الأرض، ثم أن يتجمعوا في فلسطين ويعيدوا بناء «هيكل سليمان» الذي هدمه سرجون الثاني 722 ق. م، ونبوخذ نصر 589 ق.م، ثم القائد الروماني تيتوس عام 70 م.
القس الأميركي وليام بلاكستون (1841-1935) كان بحق هو الأب الروحي للصهيونية


كانت للحرب الأهلية الإنكليزية تداعيات على التركيبة الدينية لـ«الأرض الجديدة» أيضاً، وفي نهاية الثالثة منها عام 1651 وجدت الولايات الجنوبية من هذه الأميركية، الكاثوليكية واللوثرية، نفسها في مواجهة الولايات الشمالية التي أضحت تدين بالكلفانية، ومنذ ذلك الوقت اتضح أن أساس المصالحة الأنغلوساكسونية يقوم على أساس الالتزام المشترك بالصهيونية. وهذا الأساس استمر على حاله، وهو لم يتغيّر بعد انتقال القطبية الغربية من مركز ثقلها في لندن إلى المركز الجديد في واشنطن. ومن دون شك تدرك التيارات والأحزاب الفاعلة على الجبهتين الأميركية والبريطانية أن أية «إدانة» لإسرائيل سوف تؤدي إلى تقويض التحالف القائم ما بين الطرفين.
في أيلول عام 1868 قامت الملكة فيكتوريا بتعيين اليهودي بنيامين دزرائيلي رئيساً للحكومة، وقد اقترح هذا الأخير -الذي شغل منصبه ذاك لمدة تزيد على 12 عاماً- على الملكة قيام تحالف بريطاني مع اليهود في الشتات بهدف تطوير الإمبراطورية البريطانية. والطرح إياه، الذي استساغته فيكتوريا، قاد نحو ترسيخ موقع دزرائيلي في رأس هرم السلطة البريطانية وكذا في رأس هرم «الشتات اليهودي»، الأمر الذي تمظهر في نجاحه بتدوين عبارة «استعادة إسرائيل» على جدول أعمال مؤتمر برلين 1878 الذي انعقد لمعالجة انقسام العالم من جديد.
على الضفة الأخرى من الأطلسي كان هناك معطيان اثنان يشيران إلى إنتاش بذور «الكلفانية» في الأرض الأميركية؛ الأوّل منهما تمظهر في وصول جورج واشنطن «الكلفاني» للبيت الأبيض ثم تبعه توماس جيفرسون وبنيامين فرانكلين، الكلفانيان أيضاً. والثاني في الدور الذي لعبه القس الأميركي وليام بلاكستون (1841-1935)، فالأخير كان بحق هو الأب الروحي للصهيونية بعكس ما عملت عليه الأدبيات الصهيونية التي تضع ثيودور هرتزل في ذلك الموقع، مشيرة في ذاك إلى الجهود التي بذلها لانعقاد مؤتمر «بال» في سويسرا 1897 الذي وضع الأساسين النظري والعملياتي لحدث أيار 1948 عندما أعلن ديفيد بن غوريون في عصر ذلك اليوم عن قيام «دولة إسرائيل».
لربما كان فعل تلك الأدبيات ناجماً عن أن وليام بلاكستون، رجل الأعمال الأميركي، كان صهيونياً لكنه لم يكن يهودياً، فالرجل استطاع، بدءاً من كتابه «يسوع قادم» الذي نشره عام 1878، أن ينقل الصهيونية، المولودة من الرحم الكلفاني، من عالم التبشير إلى عالم الممارسة السياسية.
من الممكن تلخيص أفكار بلاكستون التي طرحها في «يسوع قادم» بالتالي: إن المسيحيين الحقيقيين لن يكونوا بحاجة لدخول «امتحان» يوم القيامة، وإنما سيرفع هؤلاء إلى السماء مباشرة لكن بعد خوض «المعركة النهائية» التي سيشنها اليهود الذين سيخرجون منها منتصرين ثم يعلنون عن اعتناقهم للمسيحية من جديد. والمؤكد هو أن هذه الأفكار هي التي وضعت الأساس الديني الذي أتاح قيام قاعدة مجتمعية ثقافية راسخة تضمن تقديم الأميركيين لدعم لا محدود للصهيونية الرابضة فوق أرض فلسطين. والشاهد هو أن الدعم إيّاه كان قائماً بنفس الزخم حتى قبيل قيام «إيباك» الذي لم يكن قيامه أكثر من عملية خلق أطر تفعل فعل «المزلاج» الذي يسهّل الحركة. ومع ذلك، فإن الفعل لم يزد في مناسيب الزخم سابق الذكر، وإن كان قد منحها «دائرة الضوء» التي غالباً ما تعطي الحدث هالة في أوساط من المهم أن ترسخ فيها هذي الأخيرة لخلق جدارات صلبة، لدى هؤلاء، تحول بينهم وبين الآمال في إمكان انفراط الروابط.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أن مسيحيي الشرق ليسوا «حقيقيين» وفق تقويم بلاكستون، بل هم مسيحيون «سيئون»، الأمر الذي تبنته في ما بعد منظمة «أنغلوساكسون، بيض وبيوريتان». في النهاية، لا بد من القول إن النظرة التي تشكلت لدى بعض النخب العربية حول طبيعة الارتباط الأنغلوسكسوني بإسرائيل ممّا ظهر، مثلاً، عند المفكر الفلسطيني رشدي الخالدي الذي قال: «لا بعد دينياً لوعد بلفور»، هذه النظرة خاطئة بالمطلق، فالصهيونية كانت مدركة جيداً أن المصالح قد تتغيّر بتغيّر المعطيات وتغيّر الأهداف. وما يجعل «الرباط» وثيقاً هو «الأيديولوجيا» التي تعشش في الأذهان فتستطيع إبقاء المتغيرين السابقين تحت السيطرة حتى ولو جنحا، كلاهما أو أحدهما، في اتجاه يشي بإمكان انحلال ذلك الرباط.

* كاتب سوري