يكاد كلّ ما يسمّى بـ«مسيحيّ» في الحقل العام أن يكون مناهضاً للمسيح وضدَّه.
فبينما الله هو الآب السماويّ، والصلاة المسيحيّة اليوميّة، وهي الوحيدة التي أوصى بها يسوع، تدعو الله «أبانا الذي في السماوات»، أي «أبانا» جميعاً نحن البشر، يغيب عن الذهن أنّ طَلَبَ حصّة من سلطة ومال هو طلب أنانيّ وحصرٌ للمشاركة في خيرات العالم التي وهبها الله لأبنائه وبناته أجمعين بمجموعةٍ منهم فقط، وبذلك هو مخالف لهذه الصلاة وللإيمان بأنّ الجميع «عيال الله» على «صورته». إنّ الـمُطالبة السياسيّة الطائفيّة قائمةٌ على فكرة أنّ القُربى بين الناس هي في الطائفة والدين، وهذا خيانة لتأكيد يسوع أنّ القُربى بين الناس لا تولد من الدين، بل من خدمة الإنسان لبعضهم البعض، وللمهمّشين بشكل خاص، وهو ما قاله المسيح في مثلٍ صريحٍ وواضح (مثل السامري الشفوق) حيث لم يعتنِ بالإنسان المضروب إنسان من نفس الإيمان، بل إنسان من خارج إيمانه، وبهذا قال يسوع إنّه غدا قريباً.
ينجرّ الكثير من الناس، ومنهم مسيحيّون، إلى التهرّب من مسؤوليّتهم عن مصيرهم ورمي المسؤوليّة على من يسمّونه بالـ«غريب» (المهجّرون السوريّون حاليّاً، والفلسطينيّون سابقاً). كلّ جرائم السلطة السياسيّة والمالية التي أودت بالبلاد إلى هذه الحالة من الفقر وشبه انعدام الخدمات العامّة المجانيّة، يرميها السياسيّون بأبواقهم الإعلاميّة على «الغريب» فيندفع الكثير من المسيحيّين إلى كراهية «الغريب» بينما جعل يسوع في تعليمه من إيواء الغريب (وإطعام الجائع وسقي العطشان وزيارة الأسير وإكساء الفقير) مقياساً لدخول الملكوت؛ وقد كان مشدّداً على أن ينفّذ الإنسان إيمانه لا أن يُعلنه بالكلام فقط، إذ قال «ليس كلّ من يقول لي "يا ربّ يا ربّ" يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات».
تدّعي تمثيل «المسيحيّين» في لبنان قيادات عنصريّةٌ، بالقول وبالفعل، ارتكبت في الحرب الأهليّة جرائمَ موصوفة (قتل عُزَّل، مجازر، قصف مناطق سكنيّة)، ولكن لا يزال كثير من المسيحيّين يتّبعون خطى تلك القيادات بإخلاص ما بعده إخلاص، وبذلك هم يتركون خلفهم يسوع المسيح «مصلوباً» مع أولئك الذين قتلتهم تلك القيادات، أو شرّدتهم، أو يتّمتهم، أو رمّلتهم. قد يعذر القارئ نفسه فوراً بفكرة أنّ «الآخرين فعلوا شيئاً شبيهاً»، لذلك لا بدّ من التذكير بقول المسيح «لماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك، والخشبة التي في عينك لا تفطن لها؟»، وأشدّد هنا على قوله «أخيك». ليس الموضوع «مَن فعل ماذا ومتى؟»، الموضوع هو أنّ الأقوال والأفعال التي عدّدناها هي خيانة ليسوع ارتُكبت وتُرتَكَب باسمه! هذا هو لبّ الفكر الطائفيّ الذي يشترك جميع المتديّنين: أن يخون الناس إيمانهم باسم إيمانهم، أن يخونوا الله باسم الله، أن يمسحوا الأرض بتعاليم كتبهم المقدّسة باسم تلك الكتب نفسها، أن تنتفخ الجماعات لتصبح هي ومصالحها المرجع عوض أن يكون الله، وذلك باسم الله نفسه.
الفلسطينيّ هو يسوع بيننا بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المظلوم بشكل مميّز، هو الأخ والأخت بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المطروح على قارعة التاريخ بشكل مميّز


أمّا في الموقف من الاحتلال الإسرائيليّ ونظام الفصل العنصريّ الذي أنشأه في فلسطين، فالتراث الكنسيّ الذي يسمّي يسوع بـ«الغريب»، وتعاليم يسوع التي ذكرنا بعضها فوق، تجعل من الإنسان الفلسطينيّ الذي قُتِلَ وهُجِّرَ وهُمِّشَ وغُرِّبَ بكلّ الأشكال، وجهَ يسوع بشكل مميّز. الفلسطينيّ هو يسوع بيننا بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المظلوم بشكل مميّز، هو الأخ والأخت بشكل مميّز لأنّه اليوم هو المطروح على قارعة التاريخ بشكل مميّز إذ هو إمّا خارج أرضه أو خاضع في أرضه لاحتلالٍ ولنظامِ تمييزٍ عنصريّ إجراميّ. لا يمكن للمسيحيّ إلّا أن يناهض أيّة إيديولوجيّة عنصريّة إجراميّة استغلاليّة، وكأن يواجه كلّ إيديولوجيّة متصالحة مع التمييز العنصريّ. وصايا المسيح تعني أن نحرّض أنفسنا دائماً لمناهضة نظام الاحتلال والتمييز العنصريّ الصهيونيّ القائم في فلسطين والذي هدّد ويهدّد بلداناً أخرى. من وجهة نظر إيمانيّة، لا تطبيع مع الخطيئة، الإنسان يحارب الخطيئة في نفسه، ومُطالبٌ بأن يكون مسؤولاً عن الحياة بأن يناهض انعكاسات خطيئته وخطيئة غيره الاجتماعيّة: المستغِلّ يُفَقِّرُ غيره، المطلوب، إذاً، مواجهة أنظمة الاستغلال؛ المتسلّط يأسر غيره، المطلوب، إذاً، مواجهة أنظمة التسلّط؛ نظام الاحتلال والتمييز العنصريّ يسحق الفلسطينيّين، المطلوب، إذاً، مواجهة هذا النظام لا التطبيع معه.
من وجهة نظر الإيمان المسيحيّ، الالتزام الذي يُدعى "مسيحيًّا" في الشأن العام هو التزام غير مسيحيّ، هو التزام في الباطل وعبادةٌ لصنم الطائفة وصنم القائد. هناك ضرورة لالتزام مسيحيّ حقّ، التزام غير منعزل، وإنّما مُتعاون مع كلّ البشر المخلصين لقضايا العدالة والأخوّة الإنسانيّة. إن غربة المسيحيّين عن المظلومين تبقيهم مغتربين عن يسوع، المصلوب مع المصلوبين، والمناضل مع المناضلين ضدّ أنظمة الاستغلال والتعسّف، والباني مع البانين لأنظمة الأخوّة والمشاركة الإنسانيّة.
طالما حاول منتمون إلى المسيحيّة، عبر التاريخ، أن يبنوا لهم صنمَ إلهٍ يكون على مثال أهوائهم عوض أن يسيروا هم نحو «مثال» الله، وأن يصنعوا ملكوتاً لله على صورة ملكوت قيصر القائم على التعسّف والاستغلال وعبادة الذات الجماعيّة، عوض أن يعملوا على تحويل ملكوت قيصر ليصبح على شبه ملكوت الله، مكان لقاء إنسانيّ ومشاركة لخيرات الأرض. ألم يحن الوقت في لبنان للخروج من مدينة الكراهية والانعزال للانضمام إلى مسيرة خدمة الكرامة البشريّة؟ ألم يحن وقت غسل وحل الطائفيّة عن نجمةِ العقل والقلب لكي تدلّ على المسيح المولود في طفولةِ الحبِّ والحرّية؟

* كاتب، وأستاذ جامعي