في البدء، لست في غاية الاستعداد إلى أن أجترّ ما كتبه الآخرون من جديد، ولست في غاية السعادة حين أجترّ ما كتبت، فأنا في هدوء شديد حين أفرغ من كتابة مقالة كتبتها، أكره إضافة الرتوش أو الحذف أو التقديم والتأخير، وهذا الأمر يرتبط بفكرة كتبت عنها كثيراً، سأسرد بعض وقائعها في ما بعد. وإذا كان الأمر يرتبط بأفكار سابقة أو تاريخ أفكار العلوم والفنون، فإن من الصعب السرد لكل ما تقدّم من أفكار، إلا من خلال تصورات جديدة، يقدّمها الكاتب بين يدي القارئ. ينبغي ألّا نرهق عقل المتلقّي بتصورات متراكمة عبرت التاريخ حتى وصلت إلينا. لست أبحث عن القطيعة ولا ينبغي أن يتصور حديثي على أنه نحو من القطيعة، لأنني، في بساطة متناهية، أنا لا أنقل التراث، ولا أضيف نسخة جديدة منه، بل أتحاور معه لأن الحوار مع التراث خلاق، الحوار مع تراث مداد لا ينتهي. ولعلّي أفتح قوساً فأقول «لمَ الحوار مع التراث؟»، ولعل الإجابة عن هذا السؤال تقتضي سؤالاً مناوئاً، وهو: لمَ القطيعة مع التراث؟ ولمَ نقاطع ما ورثناه من أفكار؟ ولمَ نحرم أنفسنا من تجلّيات شاركت في بنائها أمم مختلفة، ووصلت إلينا؟ نعم، أنا لست مغرماً بالاحترار، لست متحمساً إلى نقل الأفكار فقط، بل مع التلقي الخلّاق الذي يفرز من هذا التراث أفكاراً منتجة، نحن أمام تحدٍّ صارخ وهو الفهم، تلك القضية التي لن يتجاوزها الزمن وهي فعل «الفهم». الفهم هو الذي يشوّه أحياناً تلقّينا الأشياء.
قبل سنوات، حاولت أن أعبّر عن تحدًّ صارخ يواجه القارئ، وهو التنقيح، وبدأت حديثي عن تدشين كتاب لصديق وصدر هذا الحديث بعنوان وهو «ضد التنقيح» ولعلّي هنا أبدأ بنفسي -وكما وعدت القارئ بأن أعود وأسرد بعض الأفكار، المرتبطة بنصّي أنا، بمقالي، بأفكاري التي حين تدوّن تصبح متاحة للتأمل - وقلت إني بمجرد أن أكتب المقالة لا أعود إليها مدققاً أو مراجعاً لأني في غاية الإيمان، أو كذلك بدا لي، أن الكاتب ما إن يفرغ من مقالته، حتى يصبح قارئاً أول لنصّه، وإذا كان قارئاً أول لنصّه فهو أول ناقد لهذه الأفكار، ومن هنا كانت فكرة التنقيح أو حقيقة التنقيح خيانة أولى للكاتب.
والسؤال الثاني أمام هذا الحوار مع الذات ألا يبدو لنا مفيداً الحوار مع التراث، لأن فهمنا التراث يقتضي الهدوء والصبر والدقة، حتى نصل إلى نتائج مقبولة في فهم هذا التراث، وبما أننا نتحدّث عن التراث فالأولى بنا أن نتحدث عن تراثنا الذي كانت السنوات الأولى قبل الهجرة كفيلة بتأسيسه. فأسّ تراثنا ارتبط بالنص، ليس هذا قولاً يحمل شيئاً من الغلوّ ولا التعصب، لكني أبحث عن أفكار قد بدّدها بعض الباحثين، أو أداروا ظهرهم إليها أو لم ينتبهوا إليها أو عنها كانوا في غفلة. نحن في حاجة إلى قراءة جديدة تفهم التراث على أنه نتاج النص لا نتاج الشعر الجاهلي، وليس الأدب الجاهلي هذا إذا ارتسمت صورة تامة إلى الأدب الجاهلي! لأن أبرز الباحثين يتحدّثون عن الشعر الجاهلي لا الأدب الجاهلي.
وإذا كانت القناعة كذلك، فإن الشعر الجاهلي لم يسهم في بناء هذا التراث على نحو جاد، فرواية الشعر الجاهلي تكاد تكون مهملة حتى منتصف القرن الأول الهجري، أو أكثر، أي أن رواية الشعر نمت ربما مع تحول السلطة من البيت السفياني إلى البيت المرواني، وقد ضاع كثير من الشعر واختلط الكثير منه، وحتى ذلك الحين تكاد رواية الشعر الجاهلي تكون شفاهية لا كتابية. وإذا علمنا أن أول كتاب في نقد هذا الشعر هو كتاب طبقات الشعراء، الذي تصرّف الأستاذ محمود شاكر في عنوانه حيث مارس أول قراءة له، بادئاً بعتبة نصه، وقد أطلق عليه «طبقات فحول الشعراء» وهي أول قراءة أخرى للكتاب، فأقول إذاً هذا الكتاب كان مولد صاحبه (محمد بن سلام الجمحي) في 140 هـ، فإن التدقيق التاريخي والثقافي لهذا الشعر، قد جاء متأخراً، على الرغم مما تضمن من أقوال الرواة والعلماء في نقد هذا الشعر، فإن هذا النص الشعري المهلهل رواية، والمختلط على البعض، لن يكون شريكاً صانعاً لتراثنا كما تصوّر البعض، وإذا علمنا أن العودة إلى هذا النص الشعري كانت عودة لغاية تتجاوز الشعر، وغايتها الكشف مرة عن معنى القرآن ومرة عن سحر بيان القرآن ومرة عن سر إعجاز القرآن.
ولعلي أتحمّس إلى البحث عن أسّ هذا التراث من خلال القرآن الكريم لا من خلال الشعر الجاهلي، لقد تنبّه طه حسين إلى هذه الحقيقة إذ حاول التماس الحقيقة من القرآن لا من الشعر الجاهلي، لكنه كان مشغولاً بقضية أخرى، وهي تحطيم الشعر الجاهلي، أو هكذا بدا له أن هذا الشعر لا يمثّل حقيقة ثقافية أصيلة إلا في متخيل الرواة والقصّاص أو وضع الوضاعين والنحّال.
ولكن طه حسين وتنويره كان متعصباً إلى الثقافة العربية والإسلامية، ولم يشذّ عن هذا إلا قليل متناسين أن لمعانَ الإنتاج الفكري واللغوي والنحوي كان نتيجة تأمّل المسلمين في كتاب الله العزيز. وبما أننا تحدّثنا عن تحدّيات القارئ والفهم، فإن أوّل تحدّ يواجه القارئ هو الفهم الذي يحول بينه وبين القصد.

* عالم لغوي بحريني