من المعروف أن البدايات المسيحية (الكنيسة الأولى) ظهرت في فلسطين وجوارها، أي في ما يُعرف الآن بالشرق. في فترة لاحقة تبنّت الإمبراطورية الرومانية المسيحية، وفي عام 1054 حدث الانقسام في الكنيسة وتشكّلت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الشرقية الأورثوذكسية. هناك بالطبع اختلافات لاهوتية بين الكنيستين لكنّ العلاقات بين الغرب والشرق، خاصة منذ ظهور الإمبريالية، انعكست على العلاقات بين الكنيستين. بالنسبة إلى الكنيسة الأورثوذكسية في فلسطين ما زال البطريرك اليوناني هو رأس الكنيسة، وذلك منذ أن قام السلطان العثماني بتنحية البطريرك العربي وتعيين بطريرك يوناني مكانه لاعتبارات تتعلق بمحاولة كسب السلطان الأورثوذكسي إلى جانبه في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا.
يشكّل المسيحيون الأورثوذكس النسبة الكبرى من مسيحيي الشرق وشهدوا بالمجمل، إضافة إلى بقية مسيحيي المنطقة من أتباع الكنائس المختلفة، حالة من التعايش والانسجام مع كل المكوّنات الأخرى من شعوب المنطقة، بمن فيهم «الأكثرية» المسلمة. ورغم ما شهدته حالة التعايش تلك من تراجعات وانتكاسات في بعض الأحيان لأسباب لم تكن الحالة الإيمانية منها في أي يوم من الأيام، فإنها بقيت محدودة قياساً بالصراعات التي قامت على أسس دينية في أوروبا بين المسيحيين أنفسهم.
كان المسيحيون، مثلهم مثل بقية المكوّنات الأخرى في الشرق، ضحايا الغرب في المنطقة منذ ما سمي بالحروب الصليبية، ثم في فترات الاستعمار الأوروبي والمشروع الاستعماري الصهيوني، في الوقت نفسه كانت مساهمتهم في حركات التحرر الوطني وفي النهضة القومية لكثير من بلدان الشرق استثنائية، وكانوا رواد التنوير والتحديث، وبرزوا في الدفاع عن اللغة العربية وعن الثقافة العربية بالمجمل. وفوق كل ذلك كانوا، وما زالوا، مدافعين عنيدين عن القضية الفلسطينية.
شهدت العقود الأخيرة تصدّعات في العلاقات البينية للمكوّنات المختلفة لمجتمعات المنطقة، ضمن ذلك ازدادت معاناة المسيحيين، وغيرهم، من جراء تنامي الأصولية الدينية والقومية، وبروز الهويات الطائفية، وظهور الحركات التكفيرية العنيفة («داعش» ومثيلاتها).
كما تصاعد العدوان الصهيوني الإمبريالي على المنطقة، حيث كان المسيحيون أيضاً ضمن ضحايا ذلك العدوان. حدث ذلك منذ نكبة 1948 وحرب حزيران 1967 على فلسطين والبلدان العربية المجاورة ثم العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان، ثم حرب الولايات المتحدة وحلفائها على العراق وأفغانستان، واستمر ذلك العدوان في خضمّ «الربيع العربي» حيث استمر العدوان على العراق وضربت ليبيا وسوريا.
جسّدت هذه الاعتداءات سياسة التفكيك والفوضى الخلّاقة التي تمثل استراتيجية الولايات المتحدة والغرب الإمبريالي والمشروع الصهيوني للهيمنة على المنطقة، وكانت ضحاياها شعوب المنطقة بمكوناتها كافة بمن فيهم المسيحيون. هذه الاعتداءات بكل أشكالها وفاعليها قتلت الملايين من شعوب المنطقة بمكوناتها كافة، وشرّدت الملايين، وخلقت من المآسي أشكالاً لا توصف.
عند التحوّل من مكوّن إلى طائفة يصعب حل المشاكل التي تترتّب على ذلك


مع تنامي الأصولية، والجرائم التي ارتكبها التكفيريون ضد كل المكوّنات، أخذت تلك المكوّنات بالذهاب أكثر باتجاه الأكثريات والأقليات. ينطبق ذلك على المسيحيين أيضاً. رغم أن مفهوم الأكثرية والأقلية لا يسري في الظروف الطبيعية إلا على الاتجاهات السياسية، أمّا كمجموعات مجتمعية فهي مكوّنات بغض النظر عن نسبتها عددياً في المجتمع.
أخطر ما في التحوّل من مكوّن إلى طائفة، خاصة إذا كانت «أقلية» هو «الإصابة» بسيكولوجيا الأقلية، حيث الحساسية المفرطة لأي حدث مهما بدا طبيعياً، وهو التوتر الدائم والذعر والوقوف على مسافة إشكال واحد من الهروب (الهجرة)، أو الحرب الأهلية، وحيث النفاق سواء لـ«الأكثرية» أو للحكومة طمعاً في الحماية أو في بعض الامتيازات. هذا لم يكن ليحدث للمسيحيين في المنطقة عندما كانوا مكوّناً وقبل أن يتحولوا بشكل أو بآخر إلى «أقلية».
قبل التحوّل إلى «أقلية»، كانت النخبة «المسيحية» نخبة الأمة، وكان مكانها الطبيعي طليعة الأحزاب القومية واليسارية وحركات التحرر. أمّا بعد ذلك فقد تراجعت لتصبح «نخبة» للطائفة وشكّلت أحزاباً طائفية انحصرت أهدافها في أمور الطائفة وتراجعت عن المشاركة في الأحزاب القومية والوطنية لتكون في حزب الحكومة أو قريبة منه.
من ناحيتها، ارتاحت الحكومات لهذا الوضع، وأتاحت لكثير من أبناء المسيحيين العمل في أجهزة الدولة، وهي ترى أنها بذلك تبعدهم عن أحزاب المعارضة من ناحية، وتقدّم أوراق اعتمادها للغرب (المسيحي) من الناحية الأخرى، وهذا أمر حيوي بالنسبة إليها. ويجري الترويج لذلك بحجة أن استخدام المسيحيين في الوزارات التي لها احتكاكات بالخارج (السياحة مثلاً) هو أكثر جدوى في الوصول إلى العقل الغربي.
المشكلة أنه في حالة الطائفة، إذا كانت معاملة حكومة «الأكثرية» للأقلية سيئة، فإن ذلك يسيء إلى «الأقلية» بالطبع، وإذا بالغت الحكومة في تعاملها الإيجابي لها فهي مسيئة في بعض جوانبها أيضاً، فهي بذلك تثير ضغينة الطائفة الكبرى (الأغلبية)، وفي مواقف معينة تصبح «الأقلية» ضحية للمعارضة لأنها تحسبها على النظام الذي تعاديه.
عند التحوّل من مكوّن إلى طائفة، يصعب حل المشاكل التي تترتب على ذلك، سواء في العلاقة مع الدولة أو مع «الأكثرية» بالذهاب الطبيعي نحو المواطنة المتساوية أمام الدولة والقضاء، لأن ذلك يُعتبر في عرف الطوائف تخلياً عن «امتيازاتها» وعن كونها طائفة من الأساس، وربما «تخلياً» عن الدين نفسه ودعوة للدولة «العلمانية».
وفي هذه الحالة، حالة الطائفة وليس المكوّن، يصح الحديث عن «التسامح» كقيمة لا بد من وجودها لكي تتعايش الطوائف المختلفة بالحد المطلوب من الأمن والاحترام لأنه لا يمكن القبول بالبقاء في حالة صراع دائم بين الطوائف.
في دول الطوائف، ومن أجل الحفاظ على الحد الأدنى من معقولية العيش ينبغي اعتماد القاعدة - وردت في كتاب «الأسلمة والسياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة» (للكاتب) قبل ثلاثة عقود - التي تقول إن «من حق الأقلية دائماً أن تبدي تخوفها ومن واجب الأكثرية تبديد تلك المخاوف».
لكنّ مجتمع الطوائف لا يشكّل حماية حقيقية للناس، بل هو التهديد الجدي والدائم لهم. فكل طائفة ترى المشكلة في الطائفة الأخرى، ويصبح طبيعياً أن تلجأ هذه الطائفة إلى أيّ كان في الداخل أو الخارج لكي تستعين به للوقوف في وجه الطوائف الأخرى، والطامة الكبرى عندما ترى «الأقلية» طريقها للنجاة في الوقوف ضد قضايا الوطن والأمة على اعتبار أن تلك القضايا تخص «الأكثرية» الظالمة، كأن يرى البعض أن القضية الفلسطينية هي قضية المسلمين وحدهم. كما تخطئ «الأكثرية» إذا اعتمدت القمع وأرادت التفرّد بـ«امتيازاتها».
بإمكان المكوّن المجتمعي إدراك أن مشروع التفكيك الإمبريالي-الصهيوني هو الذي يسعى لتحويله إلى طائفة. فذلك من متطلبات الهيمنة التي يسعى لها الغرب الإمبريالي والذي يتطلب مشروعاً شرقياً مضاداً من أجل الوحدة والتحرّر. في هذه الحالة فقط يتحرّر المسيحيون ويتحرّر المسلمون وكل المكوّنات في هذا الشرق ويدركون مصيرهم المشترك، ووقوفهم إلى جانب قضايا أمّتهم، وفي مقدمتها فلسطين، هي ضمان لعدم ذهابهم إلى الطوائف... وما أدراك ما الطوائف!

* أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله