عندما اندلعت الأحداث «التشرينية» في إيران، كان من الطبيعي أن نتساءل ونحلل ونفهم، لماذا الآن تحديداً كان على التدخّل الغربي أن يلعب أحد أهم أوراقه الأيديولوجية والاستخباراتية، ويكشف شبكات اتصاله الثقافية والأمنية بالوضع الداخلي، محاولاً كل جهده العبث؛ أوّلاً بالتركيبة الاجتماعية من خلال تفعيل صراع الأجيال، وثانياً التركيبة الوطنية من خلال تفعيل الصراع بين القوميات والمذاهب، وثالثاً الصراع على تحديد الهوية الحضارية والثقافية للبلاد عبر استهداف الحجاب النسائي وعمامة رجال الدين. كل ذلك دفعة واحدة، وبشكل يظهر كم هي حاجةُ نظام الهيمنة الغربي ملحّة إلى تحقيق انتصار، ولو كان جزئياً، الأمر الذي يسمح له بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع إيران منهكةً، على أقل تعديل، وهو في خضم هزائمه المتتالية على امتداد رقعة الشطرنج، وعجزه عن تكبيل إيران باتفاق نووي جديد؛ يباعد -أوّلاً- من قدرتها على تطوير برنامج نووي ذي طابع عسكري يقصم ظهر التفوق النووي الإسرائيلي. ويحدّ -ثانياً- من قدرتها على التأثير في المحيط الإقليمي على امتداد جبهة صراع واسعة وساخنة تملك فيها إيران نقاط قوة منيعة. كما يحدّ -ثالثاً- من تطورها في مجال الصواريخ الباليستية القادرة على توجيه ضربات دقيقة لكل نقاط التواجد الأميركي والغربي على امتداد منطقة غرب آسيا التي يدعو الإيرانيون إلى إخراج التواجد العسكري الأميركي منها.
عندما نصنّف هذه الأحداث من ضمن الأحداث «التشرينية»، فإننا نضعها من ضمن مجموعة من الحركات الاعتراضية المماثلة التي اندلعت في تشرين وأخذت اسمه، وسِمتها الأساسية أنها توظّف مجموعة من التناقضات الداخلية الحقيقية، الموجودة داخل كل المجتمعات والدول، في مواجهة سياسات وطنية تنتهجها أنظمة متنوعة المشارب، لجعلها في حالة انعدام وزن في معركتها ضد نظام الهيمنة الدولي والتوازنات الإقليمية، لكي تتم عملية احتوائها، بحسب المفهوم الأميركي، وتدجينها. وقد جرى مثيل لهذه الحركات في لبنان والعراق خلال السنوات الثلاث المنصرمة. كما شهدت ساحة الصراع الدولي على المنطقة منذ بداية العقد الماضي حركات سمّيت بحركات أو ثورات «الربيع العربي» التي استفادت منها الولايات المتحدة من ضمن ترتيباتها إنشاء «الشرق الأوسط الجديد» الذي كانت تنوي تشكيله. كما كانت قد انتشرت حركات مشابهة في مرحلة الصراع مع الاتحاد السوفياتي، سمّيت بـ«الثورات الملونة»، كانت تدعمها الولايات المتحدة من خلال برامج دعم خاصة، كما كان لرأس الكنيسة الكاثوليكية دور مهم فيها، وكان هدفها الحقيقي إضعاف النفوذ السوفياتي في تلك البلدان وصولاً إلى إسقاط الاتحاد السوفياتي من دون قتال ثم تفكيكه.
تتسم هذه الحركات بوجود كمية من الشباب المضللين الذين يتم زجهم في هذه المعمعة تحت شعارات مختلفة، قد يكون جزء منها محقاً وعادلاً، من دون إدراك حقيقي لطبيعة المعركة الكبرى التي تم زجهم فيها، وأبعادها النهائية التي بعد انكشافها يكون قد فات الوقت أو بعد «خراب البصرة» كما يقال. وإذا كان «الربيع العربي» قد توهّج داخل أنظمة عربية متأزمة تعاني أساساً من مشكلة التقزيم القسري التي أنتجتها السياسات الاستعمارية، وحولتها إلى دول غير مكتملة وغير قادرة على حل مشكلاتها بنفسها، وهي مأزومة اجتماعياً واقتصادياً بفعل ارتباطها بمنظومة النهب الاستعماري واعتمادها عليها لحل مشكلاتها، لذلك فإنها تصبح غير قادرة على الدفاع عن نفسها، وبسهولة يمكن أن يتم تفكيك تحالفاتها وعزلها، فإننا حين يكون البلد المستهدف إيران، أو أطرافاً حليفة لها في محور المقاومة، نكون أمام حالة مختلفة. فمهمة القوى المعادية، أو الحركات «التشرينية» فيها، تكون أكثر تعقيداً، وهي إن استطاعت إسقاط حكومة عادل عبد المهدي في العراق، فقد أسهمت في ازدياد شعبيته، كما ازداد احترام الشعب العراقي له بعد تنحيه عن رئاسة الحكومة وإظهار عدم تمسكه، وزهده بالمنصب الأول في البلاد، كما استعاد العراق حركته السياسية بشكل مكّنه من إعادة تشكيل السلطة وممارسة الحكم، غير أن هذه الحركات لم تستطع السيطرة على بلدان في محور المقاومة ولا على تغيير توازناتها الداخلية بشكل جذري بالرغم من الجهود الكبيرة والإمكانيات الضخمة التي تم رصدها في سبيل ذلك.
عندما وقّعت إيران الاتفاق النووي في الرابع عشر من تموز 2015 في فيينا مع مجموعة الـ5+1 ظنّ كثيرون أن القضية انتهت، وكتب كثيرون مجدداً عن انتصار الواقعية


ولكي نضع ما يجري في إيران ضمن سياقه السليم، يجب تتبع هذا التسلسل التاريخي:
لم يكن لأحد أن يعي حقيقة ما يعنيه شعار «اليوم إيران وغداً فلسطين» الذي أطلقه الإمام الخميني مذ وطأت قدماه أرض إيران بعد رحلة النفي والإبعاد منتصراً على أعتى أنظمة العصر شدة وبطشاً وأخلصهم لنظام الهيمنة والاستتباع، ولا موقعية هذا الشعار في منظومة الفكر السياسي والجيوستراتيجي للإمام الخميني وللمجموعة القيادية التي تربت مع الإمام وعلى وقع أفكاره وخطواته مذ بدأ يتكون مشروعهم السياسي–الديني، ومن خلال هذا الشعار كيف يختزل الإمام طبيعة العلاقة مع الغرب تاريخاً وسياسة وحضارة. ولا كان يخطر في بال أحد ماذا يعني هذا الشعار عند تحوله إلى واقع حقيقي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والاستراتيجيا، ماذا يعني في العلاقات الإقليمية والدولية، وما هي الأثمان التي يجب دفعها من لحم ودم ونفط وخبز وعقوبات، وما يترك ذلك من تأثير على المواطنين في إيران لجهة الدخل وطريقة الحياة. كان يظن كثيرون أن هذا الشعار لا يعدو كونه محاولة استخدام شبيه بما قامت به أنظمة أخرى اعتلت به المنابر حتى وصلت إلى مواقع الحكم فتركته قابعاً على المنابر وذهبت إلى الحكم من دونه، أو تركته فوق الطاولة ومارست سياساتها من تحت الطاولة، أو في أحسن الحالات اعتبر بعض آخر أن التمسك بفلسطين ليس سوى إعلان نوايا ثورية ستحد الواقعية من غلوها وتطرفها لمصلحة بناء الدولة أو «التمكين» (كما اصطلح بعض الإسلاميين على تسميته في ما بعد).
كثيرٌ من الثوريين العرب، وبخاصة من اللبنانيين والفلسطينيين، استمروا ردحاً طويلاً على توجسهم من المدى الذي يمكن أن تبلغه الثورة الإسلامية في اندفاعتها الفلسطينية، والأثمان التي ترغب في دفعها مقابل ذلك. واعتبر بعضهم أن عمر النظام في الجمهورية الإسلامية مرتبط بتمسك إيران الحقيقي والفعلي بقضية النضال الفلسطيني، وأن الإسرائيلي والأميركي لن يسمحا بأي شكل من الأشكال بوضع محور الثقل الجيوسياسي والجيوستراتيجي الإيراني في المعركة (وهو ثقل وازن تعبّر عنه تقارير الدوائر الإسرائيلية المختلفة بالخطر الوجودي) عبر الدعم المباشر ومن دون أية تحفظات للشعب الفلسطيني وفصائله المقاتلة والمجاهرة بأن جنرالات محور المقاومة دخلوا إلى مدينة غزة المحاصرة وأسهموا بوضع خطتها الدفاعية، على سبيل المثال لا الحصر. ولعل كثيراً من الشباب الإيرانيين الذين شاركوا أو أيدوا الثورة لم يأت في بالهم ماذا يعني أن «إسرائيل خلية سرطانية ومن الواجب إزالتها»، وحين شاركوا بالثورة لم تكن تبرح مخيلتهم الثورية أحلام الثورات الديموقراطية التي تعد بدولة الرفاهية والترقي الاجتماعي والقدرة على زيادة الاستهلاك.
وحين صدحت حناجر الإيرانيين الثائرين بشعارات «استقلال، حرية، جمهورية إسلامية»، أخذ كثير من المثقفين عليهم عدم وجود برنامج اجتماعي محدد للثورة، معتبرين أن الثورات لا تبرح برامج معينة معدة في كتب الثورات والثوريين، ومجرد الخروج عنها يعني خروجاً عن القوالب المحددة كما تعلموها في كتبهم الثورية، على طريقة الرجل الذي خطف السراق سمكته وولوا هاربين فالتفت إليهم قائلاً وهو يضحك من غبائهم: لا يهم إن سرقتم السمكة فهذه طريقة إعداد الوجبة في جيبي. وظن كثيرون أن الصفة الإسلامية التي اتسمت بها الثورة، ثم الجمهورية، ليست سوى يافطة هوياتية ثقافية سيجري وضعها على الرفوف ريثما ينبري المتعلمون في الجامعات الغربية ويتمكنون من الجلوس في مواقع القيادة وإدارة شؤون البلاد بالطريقة التي تعلموها في كتبهم.
وحين احتلت مجموعة الطلبة الثوريين مبنى السفارة الأميركية وأطلقت عليه اسم «وكر التجسس»، ظن كثيرون من الساسة الإيرانيين والعرب أن ما يجري هو عملية رفع للسقف قبل البدء بالتفاوض مع الشيطان الأكبر وبالتالي ترتيب الأجواء معه. وتسابق بعضهم لمحاولة الدخول في وساطات لإطلاق سراح الأسرى الأميركيين لنيل حظوة عند الإدارة الأميركية.
وعندما أطلق صدام حسين حربه المجرمة ضد إيران، مدعوماً بكل النظام العالمي الذي كان يعاني من خلل بدء الانهيار السوفياتي وتراجع دوره في حفظ التوازن الدولي وبدعم إقليمي سخي، ظن معظم المراقبين والمحللين أن غبار هذه الحرب لن ينجلي قبل أن يتم استيعاب هذا التفلت الإيراني ووضعه في السياق المطلوب، لكن إيران صمدت وخرجت من الحرب منتصرة.
وعندما توفي الإمام الخميني في الثالث من حزيران 1989، انبرى كثيرون ليعلنوا وفاة المبادئ الدينية المتصلبة والقبضة الشرعية الدينية المترافقة مع الكاريزما الاستثنائية لشخصية الإمام المتوفى التي ميزت صورته وصورة إيران في ظل وجوده، فلم يكن بالإمكان فصله عن إيران وفصل إيران عنه. وعبّر الكثيرون عن راحتهم لإزالة هذا الكابوس المؤرق، لكن إيران أثبتت أنها ولادة للقيادات التاريخية وجاهزة للعب دورها التاريخي الذي تتهيأ له نخبها وحوزاتها منذ أمد طويل والذي تم ترسيخه واختزانه في وعي الأمة لنفسها ولنضجها وفهمها لدورها وقدرتها على الفعل، ولاختيار اللحظة التاريخية المناسبة لتفعيل مولداتها الثورية النهضوية المسلحة بكل الأدوات المعرفية الصالحة لخوض المواجهة مع الذات ومع الآخر. وخرج الإمام الخامنئي من خضم كل ذلك معلناً استمراره على النهج القويم لمعلمه الراحل معتبراً أن لا حياة للأمة في ظل الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وعندما وقّعت إيران الاتفاق النووي في الرابع عشر من تموز 2015 في فيينا مع مجموعة الـ5+1 ظنّ كثيرون أن القضية انتهت، وكتب كثيرون مجدداً عن انتصار الواقعية على الثورية، معتبرين أن الجمهورية الإسلامية أصبحت جزءاً من النظام الدولي وبالتالي عليها أن تفي بالتزاماتها تجاه المجتمع الدولي وتقدّم المزيد من حسن النية وتصبح أكثر تواؤماً مع مصالح الغرب في المنطقة ليتم تطبيق مندرجات هذا الاتفاق وتحصل إيران على ما وعدت به من مكتسبات مثل إزالة العقوبات وإرجاع الحقوق المصادرة وتسهيل الاستثمارات، لكن حساب الحقل لم يكن يتفق مع حساب البيدر وأثبتت إيران قدرتها على الصمود على صخرة التحرر الوطني كما قدرتها على منع استغلال الغرب للتناقضات الداخلية بين جناحي السلطة في مرحلة المفاوضات، فاضطرت أميركا إلى الخروج من هذه الاتفاقية في الثامن من أيار 2018.
وعلى الأرجح لم يستوعب كثيرون في منطقتنا وفي الخارج شعار الإمام الخامنئي الداعي إلى إخراج أميركا من منطقة غرب آسيا، الذي أطلقه في نهاية أيار 2018، لكن الأميركي كان يعي حقيقة وبكل دقة معنى ذلك، بخاصة وأن الأقوال قد اقترنت بالأفعال وبلغ التوتر أوجه في مرحلة رئاسة دونالد ترامب، والتي شهدت التراجع الأميركي عن الاتفاق النووي والاحتكاكات المتكررة في الخليج ثم اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس والرد الإيراني الآني بقصف قاعدة «عين الأسد»، واعتبار أن الرد مفتوح على كل الاحتمالات وعلى كل من تثبت مسؤوليته عن هذا الاغتيال، ثم اعتبار السيد نصرالله أن الرد على اغتيال هؤلاء الشهداء لا يمكن أن يكون أقل من إخراج الوجود العسكري الأميركي من المنطقة.
ولو عدنا قليلاً إلى ما قبل ذلك، فلقد كان من الصعب كثيراً على المراقبين فهم مغزى رسالة الإمام الخميني إلى الرئيس غورباتشيف (الذي تحوّل من رئيس الاتحاد السوفياتي إلى رئيس الاتحاد الروسي). وفي أحسن الأحوال اعتبره حسنو النية يقوم بواجبه الديني التبليغي، وقد يكون بعض جهابذة المثقفين وصمه بالسذاجة، وكانوا بجلهم غير قادرين على تقصي البعد الجيوبوليتيكي و الجيوستراتيجي لعملية انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي وتأثير ذلك على العالم وعلى غرب آسيا، وإيران خاصة. وبالتالي، من خلال هذه الخطوة، استشراف موقع روسيا في التفكير الاستراتيجي للإمام، وقد كان، بشكل مباشر أو غير مباشر، يحاول أن يؤشر إلى أهمية الدين والإيمان بالله في تلاحم الأمم ومنع اختراقها من قبل الغرب، وإلى أهمية روسيا وضرورة الحرص على منع اختراقها وتفتيتها وإسقاطها من الداخل. وهو الأمر الذي تنبّهت أخيراً له النخب الروسية الحديثة الداعية إلى إعادة استنهاض الأمة الروسية بشخصيتها وهويتها الجيوسياسية الخاصة، التي يتموضع الإيمان المسيحي الأرثوذكسي في قمة عناصر هذه الشخصية. حيث يقول ألكسندر دوغين في كتابه الأشهر «أسس الجيوبوليتيكا»: «إن الشعب الروسي (=روسيا) ينطلق في وجوده من أفق لاهوتي خلاصي يكتسب معنى أكثر مسكونية»، ثم يقول في مكان آخر: «إن إيمان الروس لا نهائي بانتصار الحقيقة والروح والعدالة ليس في روسيا فقط بل في كل مكان، وإن حرمان الروس من هذه العقيدة الغيبية الخلاصية هو مرادف لخصائه الروحي».
إن فهم هذه الوصلة بين إيران الإسلامية، الواقفة بكل صمود في خندق التحرر الوطني، وفي الخندق الفلسطيني بشكل خاص، ومشتبكة مع الاحتلال الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، مع روسيا، التي انتفضت للدخول في اشتباك واسع وضار مع حلف «الناتو» عسكرياً ومع المنظومة الثقافية الغربية أيضاً لتعيد الاعتبار للموقع التاريخي والحضاري والسياسي الروسي المستقل عن الغرب وثقافته والمهدد لبنيته الاقتصادية الاستعمارية، إن هذه الوصلة ضرورية لفهم لماذا على الأميركيين، وعلى الغرب بشكل عام، أن يلعب كل أوراقه في هذه المنازلة مع إيران (رغم قناعة هذا الغرب أنه لا يمكن إعادة الزمن إلى الوراء)، قبل أن يأفل ظلهم عن المنطقة بشكل كامل وإلى الأبد.

* كاتب لبناني