لا يزال حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت حديثاً في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شاركَ هو في صنعِ بعضها. وتضمّنت اليوميّات في الجزء الثالث بعض ما جاء في أحاديث صائب مع الصحافي شكري نصرالله في سنوات إقامته في جنيف. ويستمرّ ياسر عرفات في الخروج عن طوره في الاجتماعات في تلك الفترة في صيف الاجتياح الإسرائيلي للبنان. لم يكن لعرفات من خطة عسكريّة لمواجهة اجتياح كان هو يكرّر توقّع حدوثه في خطبه الرنّانة، فكان ينصرف إلى التهديدات الجوفاء والكلام العنجهي. يقول صائب عنه: «أفرغ (عرفات) كلّ ما في جعبته من كلام جنوني لا معنى له، بأنه سيخرّب وسيضرب شرقاً وجنوباً وشمالاً...أبو عمّار تعوّدنا عليه وعلى تمثيله وعلى شطحاته» (ص. ١٠٤٩، ج٢). كانت قدرات عرفات المسرحيّة والتهريجيّة لا تقلّ مهارةً عن قدرات أنور السادات (والاثنان كانا قريبيْن، قبل زيارة السادات للقدس). ومرّةً اتصل صائب ببشير الجميّل بحضور ياسر عرفات فتحدّث الاثنان واقترح رجل إسرائيل في لبنان—أي بشير—أن يلتقي الطرفان. لم يتسرّب ذلك للإعلام في حينه ولم أعلم عن هذا الاتصال من قبل. وأخبره أبو الزعيم—أفسد زعيم فلسطيني في كل التجربة اللبنانيّة على الإطلاق—أن الوزير سعود الفيصل تكلّم معه ونصحه بالتعاون مع صائب سلام (ص. ١٠٥١، ج٢، لا شكّ أن دور أبو الزعيم في خطف وقتل المعارض السعودي، ناصر السعيد، في عام ١٩٧٩، قرّبه من النظام السعودي). كان عرفات ضعيفاً وحاول إيجاد صيغ مختلفة لحفظ المقاومة الفلسطينيّة في لبنان (اقترح مثلاً وضع المقاومة تحت تصرّف الجيش الذي كان متواطئاً مع إسرائيل)، لكن محاولاته باءت بالفشل لأنه لم يبق للمقاومة من حلفاء في ذلك الصيف خصوصاً مع تناقص المال السياسي. وكعادته، وفي تدليل على عجزه وتقصيره وفشله، كان عرفات «يراهن على ما يصدر عن إسرائيل» من معارضة للحرب (ص. ١٠٥٤، ج٢).

العلاقة بين صائب وبشير كانت حميمة في كل تلك الفترة، ولا ندري الدرجة التي كان فيها صائب يداري الجميّل بإيعاز من النظام السعودي الذي رعى (مع إسرائيل) ترشيح بشير للرئاسة. يقول صائب عن ذلك: «كنتُ على علاقة مع بشير منذ مدّة كما هو معلوم. وكان يكلّمني بصيغة «أنت والدي وأنتَ مُرشدي. إن كلّ ما تقوله لي أنفّذه». وكان هذا حقيقة، ولكن بعد دخول الإسرائيليّين شعرتُ بأنه تغيّر فتغيّرتُ معه أيضاً». ويفصح صائب أكثر في كتاب شكري نصرالله عن رأيه ببشير وأمين (وأمين تجاهله أيضاً بعد تنصيبه رئيساً من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، في الظروف التي أتت بأخيه رئيساً، وكان لا يعطيه موعداً بالرغم من إلحاح صائب). يقول صائب عن بشير لنصرالله: «وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على مقتله أرى أن الرئيس بشير كان يمكن أيضاً وبنفس المقدار أن يؤجِّج الأزمة اللبنانيّة ويعود بها إلى درجة الصفر» (ص. ٩١، من كتاب شكري نصرالله، «مذكرات قبل أوانها»). يؤكد صائب في مذكراته أن «جوني عبده وسركيس لا يقومان بعمل إلا بالاتفاق مع بشير الجميّل والمقاومة اللبنانيّة» (ص. ١٠٥٤، ج٢—لا يجد صائب أي حرج من استعمال مصطلح «المقاومة اللبنانيّة» في إشارة إلى الميليشيات التي ارتكبت المجازر الطائفية والعنصريّة). ويضيف عن بشير: «أما بشير فقد أصبح كما قلتُ، تحت تأثير الإسرائيليّين، وبالطبع قلتُ له هذا على الهاتف: إنك ربّما لا تكون مع الإسرائيليّين، يا بشير، ولكنّ هؤلاء الأعوان الذين حولك والذين ناموا معهم وأكلوا وشربوا في تل أبيب، والذين تمرّنوا عندهم في تل أبيب، والإسرائيليّون هؤلاء الذين ناموا معهم وأكلوا وشربوا في تل أبيب، هم عندكم اليوم يأكلون ويشربون معكم، ويتعاطفون ويتعاملون، وما صدر عنهم من قساوة يجب أن ندرك أنه يضرّ بنا وبكم في النهاية» (ص. ١٠٦٥، ج٢). وهذه نقطة جديرة بالتأمل حتى في لبنان اليوم. إن كل هؤلاء (مثل جعجع وجورج عدوان وأسعد الشفتري وغيرهم كثيرون من ربيبي جيش الاحتلال الإسرائيلي و«الموساد») يشكّلون لوبياً إسرائيليّاً في قلب الحياة السياسيّة اللبنانيّة. ولم يبدر عن أي منهم مراجعة أو إفصاح عن تورّطهم مع إسرائيل. وحتى إيلي حبيقة، لم يطلب منه لا النظام السوري ولا رفيق الحريري ولا حلفاؤه الجدد إفصاحاً عن عمق علاقته السابقة بإسرائيل أو معلومات للملأ عن دور الاستخبارات الإسرائيليّة في لبنان أثناء الحرب. كان حبيقة والشفتري على دراية تامّة بدور إسرائيل في التفجيرات التي كانت تتم باسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» لكنهما لم يفصحا للناس عنها بعد ابتعادهم المفترض عن إسرائيل، أو ابتعاد إسرائيل عنهم—لا فرق.
طُرح موضوع نقل قوّات منظمة التحرير إلى الشمال والبقاع لكن الطلب جوبه بالرفض (من الأهالي والزعماء). كانت المنظمة تريد الانتقال إلى سوريا لكن من دون إعلان ذلك


يخبرنا صائب عن وليد جنبلاط، كيف أنه أنهى الحركة الوطنية بكلمة منه. كان انهيار وليد جنبلاط أسرع من انهيار ثكنة مرجعيون في حرب تمّوز. زار جنبلاط المراسلين الأجانب وأعلن أمامهم انسحابه رسميّاً من الحركة الوطنيّة. كعادته، يحضّرُ نفسه لمرحلة جديدة ولمُهيمِن جديد. نقل هاني الحسن (الذي كان يسعى كثيراً لمراضاة صائب) لصائب وصف فيليب حبيب لصائب بأنه الوحيد «الثابت» في مواقفه. سُرَّ صائب وقال إن هاني الحسن ردّدَ الكلمة الأجنبيّة من دون أن يفهم معناها (لا ندري إذا كان حذّر وتوجّس صائب من الحسن سببه زواجه من ناهلة، ابنة خصمه، عبدالله اليافي). يعترف صائب أن المقاومة أصبحت «منبوذة من الناس ومنبوذة من المسلمين» (ص. ١٠٥٧، ج٢) لكنه يستدرك أن المسلمين سيدفعون ثمن سحق المقاومة «تحت أقدام الإسرائيليّين». لكنه يسخر من رشيد كرامي الذي يحذّر من إهدار القضيّة الفلسطينيّة. يصف صائب كلامه بـ«كلام مغرض يشكِّل طعنة» (ص. ١٠٥٧، ج٢). والحركة الوطنيّة تستمرّ في الانهيار المُتكرّر في ذلك الصيف: خارت قواها وهجرها قادتها قبل أن يهجرها عناصرها وحداناً وزرافاتٍ (الطريف أن السرديّة السائدة في لبنان مفادها أن الحركة الوطنيّة كانت في عزّ قوتها في الثمانينيّات بعد الاجتياح لكن حزب الله قرّر سحقها لأنها كانت تقوم بأعمال عسكريّة هائلة لتحرير الجنوب فيما كان هو يريد احتكار التحرير). جاء وفد من الحركة الوطنيّة يعرض على صائب «إلقاء السلاح» بين يديه. ردّهم صائب وقال إنه لن يحمل سلاحهم لكن يده ممدودة و«سنتابع العراك المرير معهم». كيف تكون يدك ممدودة وأنت تنادي بالعراك المستمرّ معهم، يا صائب، ولماذا لا تنادي بالعراك غير المستمر مع ميليشيات إسرائيل في لبنان؟ سلاح صائب—بحسب قوله—هو ثقة الناس، مع أنه سلّح ميليشيات «روّاد الإصلاح» بغير ثقة الناس في بداية الحرب. لم يتصل به نبيه برّي منذ سنوات، لكنه زاره في ذلك الصيف. رحّبَ به على ألا يصطحب جنبلاط معه (كان جنبلاط يخوّن صائب في بعض أيام الحصار). عرض عليه برّي عقد اجتماع إسلامي جامع لكن صائب ارتاب في محاولة للالتفاف حوله لخداعه. خاف الوزان من الاغتيال لو تحمّل هو مسؤوليّة إخراج منظمة التحرير من لبنان فحثّ صائب عرفات على جمع كل قادة المقاومة وتوقيع تعهّد بترك لبنان وتسليم الوثيقة للوزّان.
لم يعلم صائب أن بشير الجميّل سيزور السعوديّة إلا من زائره الدائم، هاني الحسن. لم يعلّق صائب ولم يخفِ انزعاجه. حملت دعوة بشير الجميّل توقيع سعود الفيصل. لكن السعوديّة وأتباعها في لبنان (بمن فيهم رفيق الحريري والصحافي نبيل خوري) انزعجوا من تصريح لصائب شكّك فيه بتمثيل بشير لكل المسيحيّين رداً على زيارته المرتقبة للسعوديّة. لا يمكن التشكيك بحكمة النظام السعودي عند رفيق الحريري ونبيل خوري. اضطرّت السعوديّة للتوضيح أن الدعوة كانت من قبل اللجنة التي انبثقت من مؤتمر وزراء الخارجيّة العرب. هذا كان زعماً كاذباً من السعوديّة وذلك لعلمها أن الرأي العام الإسلامي لم يحبّذ الزيارة إلى السعوديّة. هاتفه بشير قبل الزيارة لكن صائب رفض أن يسدي نصحاً له. يبدو أن صائب انزعج من أن الدعوة لبشير لم تمرّ عبره وأنها لم تتصاحب مع دعوة لصائب. نبيل خوري حذّره أنه أخطأ (ص. ١٠٥٩، ج٢، كان خوري قريباً من النظام الإماراتي والسعودي معاً، ومن رفيق حريري في ما بعد). لم يكن بشير الجميّل مرتاحاً للزيارة (رافقه فيها رجل إسرائيل الأوّل، إيلي حبيقة). يقول صائب إن برقيّته للسعوديّة (لم يفصح عن مضمونها) كان لها تأثير في عدم تدليلهم لبشير «من قبل السعوديّين إلى الحدّ الذي كان يتصوّره». أدلى الجميّل بحديث طويل ووصف فيه الفلسطينيّين بالكاذبين «واستعمل كلمات نابية عن بعضهم، بقوله عن هذا قواد وذلك دجّال، فلا أحد يتقبّل منه ذلك». امتعض صائب من الخطاب السوقي لبشير.
المرّة الوحيدة التي يعبّر فيها صائب عن استهجان أو استفظاع للأعمال الحربيّة الإسرائيلية كان عندما عقد شارون مؤتمراً صحافيّاً في قلب (شرق) بيروت. «فحزَّ في نفسي في الحقيقة إلى أبعد الحدود، وهذا المعتدي الغاشم المجتاح أرض بلدي يقف وسط عاصمتي ويعقد مؤتمراً صحافيّاً» (ص. ١٠٦٠، ج٢). أمّا عن التجمّع الإسلامي (نادي الإسلام التقليدي السنّي) فيقول عنه: «ولن أتبجّح إذا قلتُ إن الناس كلّهم، من مسلمين ومسيحيّين، لبنانيّين وأجانب، يعرفون أن صائب سلام هو التجمّع». تواضع صائب الجمّ يظهر، المرّة تلو المرّة في الكتاب. وعُقد اجتماع مع عرفات ضم التجمع المذكور مع «جبهة المحافظة على الجنوب» (كانت تضمّ ديناصورات الإسلام الشيعي) وفيه صاحَ عرفات بهم: «انتم تطردوننا الآن من بيروت» (ص. ١٠٦١، ج٢). انفجر فيه صائب: «انتَ لست رجلاً على مستوى القضيّة. أنت رجل أمام قضيّة كبرى وما زلتَ تعالجها بعقليّة قديمة ليست على مستوى العقليّة الحاليّة». رضخ عرفات ووافق على طلب صائب بتقديم تعهّد خطي بالانسحاب إلى شفيق الوزان، الذي كان مجرّد أداة لجوني عبده. لم يكن عرفات على حق في اتهامه. الذي طرد المنظمة من بيروت ليس الإسلام التقليدي فقط بل حلفاء عرفات الذين تلقّوا الملايين منه، في الحركة الوطنيّة. هؤلاء الذين نبذوا المقاومة الفلسطينيّة قبل وصول جيش الاحتلال إلى بيروت. كما أن أخطاء المقاومة الجسام نفّرت الرأي العام في بيروت الغربيّة من المقاومة. كان الأوان قد فات في ذلك الصيف. صلّى عرفات المغرب وطلب من الله المغفرة عن إغضاب صائب.

رداً على سؤال من فؤاد بطرس، قال صائب لسركيس وصحبه إن «الموقف الإسلامي موقف واحد ولا رجوع عنه إطلاقاً، وذلك بعدم القبول ببشير»


وكعادة جنبلاط في تاريخه السياسي الطويل، فإنه عاد وتراجع عن موقفه من سلام. خوّنه وأطلق نحوه شتّى النعوت، ثم حاول «التقرّب منّي بعد جفاء. فقد اتصل بي أثناء ذلك مرتيْن، رددتُ عليه في المرّة الثانية، بعد إلحاح من تميمة... فسألني: وما رأيك بالقوّات الدوليّة؟ فأجبته بأنني معها من أوّل الطريق. قال: إذن نحن معها» (ص. ١٠٦٢، ج٢). وصف ميشال أبو جودة صائب آنذاك بأنه «رئيس جمهوريّة بيروت» (وهو عنى بيروت الغربيّة). الوصف لم يكن بعيداً عن الصواب. السبب لصعود صائب السياسي (الأخير) في ذلك الصيف أن منظمة التحرير كانت في طريقها للمغادرة، وقادة الحركة الوطنيّة غادروا العاصمة (بالمعنى السياسي للمسؤوليّة) قبل رحيل قوّات منظمة التحرير. صار قادة الحركة الوطنيّة يتقرّبون من صائب لعلّه يدبّر أمرهم ويوصي بهم بشير الجميّل. كان حلفاء منظمّة التحرير من اللبنانيّين اليساريّين والقوميّين والمتلوّنين أقلَّ وفاءً من معظم حلفاء منظمة التحرير في تاريخها، خصوصاً وأن هؤلاء لا يزالون يتنعّمون بمغانم عطايا عرفات أو من أملاك وضعتها منظمّة التحرير باسمهم قبل المغادرة، واستولوا عليها بعد رحيل عرفات (الكثير من زيارات مندوبين عن سلطة محمود عبّاس إلى لبنان عبر السنوات كانت من أجل النظر في تلك الأملاك المسروقة). يقول صائب محقاً: «جميع الذين تركوا الحركة الوطنيّة راحوا يلجأون إليّ» (ص. ١٠٦٨، ج٢). هؤلاء لجأوا إليه طوعاً، وليس بضغط من حزب الله الذي لم يكن قد وُلدَ بعد.
اشتدّت ضغوطات أميركا وإسرائيل واشتدّ الرضوخ الفلسطيني. يقول صائب: «دخل عليّ يوماً هاني الحسن وكان مضطرباً جداً قائلاً: نعم، نحن لم نعد نرغب في إبقاء أي مسلّح هنا، لا ٢٥٠ هنا ولا ٢٥٠ هناك، ولا نريد أن نُبقي أي مركز سياسي هنا» (ص. ١٠٦٦، ج٢). بهذا تكون منظمة التحرير الفلسطينيّة قد وافقت بالكامل على الشروط الإسرائيليّة وشروط حليفها، بشير الجميّل في لبنان. إن ضحايا صبرا وشاتيلا هم برقبة ياسر عرفات وصحبه. صدّقوا الضمانات الأميركيّة وتركوا المدنيّين الفلسطينيّين لخناجر وبنادق ميليشيات امتهنت قتل الفلسطينيّين والمسلمين في لبنان. يجد صائب متسعاً من الوقت للارتياب في دور سليم الحصّ، فقط لأنه يتحرّك وفقط لأنه كان ينسّق مع خصومه، مالك سلام ورشيد الصلح وعبد الرحمن اللبّان (لا ندري سبب انزعاج سلام من اللبّان، ص. ١٠٦٧، ج٢). يشكّك صائب في النوايا ويصل إلى هذه النتيجة: «المفتي يبتغي زعامة، والحصّ يبتغي دوراً وزعامة، والاثنان ضعيفان في الأمور العامّة». كان صائب في السابعة والسبعين من العمر، وهاله أن يبرز غيره في دور الزعامة. لكن ليس من زعامة تخلّد. شعر صائب أن بروز سليم الحصّ والتفاف البعض حوله هو «طعنة» له. «افهمَ» صائب الحصّ أن «ما أمضاه في الحكم وهو أربع سنوات لا يعطيه الكفاية من المعلومات السياسيّة ليتصرّف، وكنتُ في هذا الحديث قاسياً معه». قال له جميل كبّي: «لقد قسوتَ على الحصّ». ردّ صائب: «أنا قصدتُ ذلك، وهذا نتيجة تراكمات عندي» (ص. ١٠٦٩، ج٢). توافق صائب مع محمد مهدي شمس الدين على معارضة عقد مؤتمر إسلامي موسّع خشية تمرير أجندة منظمة التحرير. هاجمَ أبو أياد صائب بعنف بسبب معارضته لعقد اجتماع إسلامي شامل للتضامن مع منظمة التحرير في مصابها. قال له أبو أياد في تصريحه: «ستكون تحت جزمة الإسرائيليّين». المصيبة أن الكثير من اللبنانيين آنذاك فضّلوا جزمة الإسرائيلي على منظمة التحرير. طُرح موضوع نقل قوّات منظمة التحرير إلى الشمال والبقاع لكن الطلب جوبه بالرفض (من الأهالي والزعماء). كانت المنظمة تريد الانتقال إلى سوريا لكن من دون إعلان ذلك، بحسب صائب.
وجد صائب ميلاً من فيليب حبيب لترشيح بشير الجميّل للرئاسة. شرح له صائب «المساوئ والمخاطر» بالإضافة إلى «المواقف الشارونيّة التي نراها من بشير» (ص. ١٠٧٢، ج٢). وبعد ترشّح بشير للرئاسة، زار سليم دياب (كان مقرّباً من صائب قبل أن يصبح مقرّباً من رفيق الحريري) أمين الجميّل ونقل عنه أن «الشيخ بشير ومَن حوله من المسلّحين يستولون باستبداد على المقاومة اللبنانيّة، وهم عملاء لإسرائيل وضالعون معها» (ص. ١٠٧٤، ج٢). شعر صائب بتململ مسيحي كثير من تسلّط الإسرائيليّين مع بعض الكتائبيّين الملتفّين حول بشير، بل ومن بشير نفسه، وهذا يتفق أيضاً مع ما لمسه نواف سلام عند مقابلته لبشير. لم يجد نوّاف اهتماماً في هذه الزيارة بل «عدم مبالاة لأن بشير يبدو أنه يميل إلى التعامل مع الإسرائيليّين، وهو يعتمد عليهم ويسهّل عملهم، وهذا ما قاله أمين في حديثه لسليم دياب». وقال صائب إن أسهم بشير هبطت «كثيراً عند المسلمين وكذلك عند المسيحيّين». اتصل بشير بصائب فحذّره صائب من التعامل مع الإسرائيليّين وأفهمه أن جنبلاط لا يمثّل المسلمين. وحذّره من عنف وقسوة كلامه في خطبه وتصريحاته وأن ذلك يولّد أحقاداً. وفي الوقت الذي كان صائب سلام ومَن حوله من المسلمين يمتعضون من فظاظة خطاب بشير الجميل، زاره هاني الحسن وأبدى إعجابه بخطاب بشير. أخبر صائب سليم الحصّ معارضته لترشيح بشير الجميّل لكنه ارتأى ألا يعلن ذلك «لأنني لا أحبّ أن استفزّ أحداً ولنأخذ المسألة بهدوء أعصاب». أنتَ يا صائب لا تمانع أن تستفزّ شقيقك مالك، والآن بتَّ متعفّفاً عن التصريح بالمواقف، خصوصاً الضروريّة؟ أخبر صائب سليم الحص وجنبلاط وتقي الدين الصلح بأسباب عدم التصريح بمعارضته لترشيح بشير الجميّل، و«تفهّموا جميعاً ذلك ووافقوا عليه». قوّة الإقناع عند صائب لا مثيل لها. لكن رداً على سؤال من فؤاد بطرس، قال صائب لسركيس وصحبه إن «الموقف الإسلامي موقف واحد ولا رجوع عنه إطلاقاً، وذلك بعدم القبول ببشير» (ص. ١٠٧٦، ج٢). المفارقة أن صائب يفصّل مواقف المعارضة الإسلاميّة العارمة لبشير الجميّل فيما كان ابن بشير، نديم، يصرّ قبل أيام أن المسلمين كانوا مؤيّدين لترشيح بشير لأن حميد دكروب وعثمان الدنا صوّتا له (كلّ من صوّت لبشير قبض ثمن صوته، عبر صندوق مشترك من ميشال المرّ و«الموساد»).
(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@