دور القائد أمرٌ ملتبس، وهويتعلّق أساساً بممارسة سلطة على آخرين. كلمة السلطة في جذرها اللاتيني مرتبطة بالزراعة، وتتعلّق بعملٍ ينمّي شيئاً. هدفُ السلطة الحقّة هو أن تنمّي الآخر. ولكن أن تنمّيه نحو ماذا؟ السلطة الحقّة تنمّي الآخر ليصبح ما هو عليه بالطاقة، كما أنّ سلطة الزارع تعتني بالبذور والأغراس كي تنمو تلك إلى مآلاتها، منها ما يُصبح الأثمار ومنها الخُضَر وغير ذلك. الإنسان أيضاً ينمو ليصبح ما هو عليه بالإمكانيّة. كلّ إنسان لديه إمكانات مشتركة تعود للجنس البشريّ برمّته، وإمكانات خاصّة تعود لفرادته، ولهذا كلّ إنسان يحتاج إلى نموّ قدراته المشتركة مع كلّ الجنس البشريّ، من جسم - عقل - نفس، تحتاج إلى طعام وشراب وعاطفة وتعليم وعمل وغير ذلك؛ كما يحتاج إلى نموّ فرادته، فإمكاناته الفريدة ليست مجرّد مواهب خاصّة (قدرة على الغناء، التعليم، صناعة الخبز، مثلاً)، فهذه قد تكون مشتركة مع عدد كبير من الناس؛ وإنّما إمكاناته الفريدة هي طريقته الخاصّة الفريدة في عيش تلك المواهب والتعبير عنها من خلال شخصيّته الفريدة، وهذه الشخصيّة الفريدة تُعاش وتُصقَلُ بحرّيته الشخصيّة. إنّ مطلق أيّ سلطة لا يمكنها أن تكون حقّة، وعقلانيّة بالمعنى الواسع للعبارة، إلّا إن سعت إلى تنمية طاقات الإنسان المشتركة مع غيره، كما تلك الفريدة لشخصه، بحيث ينمو الفرد إلى إمكاناته التي هو عليها، وهذا لا يمكن أن يكون إلّا في بيئة من الحرّية، إذ وحدها الحرّية تسمح للفرادة بأن تنمو معبّرةً عن نفسها بشكل أصيل غير مزوّر.السلطة اللاعقلانيّة أو السامّة هي تلك التي لا تخدم أن يكون الإنسان ذاته، بل تحوّله إلى مُلحق لأهدافها، فتجعله وسيلة لا غاية، وتعرقل نموّه نحو تحقيق فرادته، قد تعطيه الطعام والشراب ولا تسمح له بأن يكون ذاته. لبّ فساد السلطة القاهرة هو أنّها تعرقل نموّ الإنسان، وفي عرقلتها تسعى إلى تشييئه. وفي مسعاها السامّ هذا تولّد الدمار في الآخرين وفي المجتمع.
يمكن لكلّ سلطة، دينيّة كانت أو سياسية أو اقتصاديّة، أن تكون لاعقلانيّة سامّة. ويمكن لكلّ شخص منّا أن يذكر أمثلة من واقعه التربوي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعيّ أو الدينيّ لشخصيّات سامّة. وللشخصيّات السامّة عدّة شغلٍ تقوم على أدوات تهدف إلى تكبيل الحرّية وخلق الأتباع.
تشرح جان ليبمان بلومان "جاذبيّة القادة السامّين"، أنّ القادة السامّين يفخّخون قدرة المحيطين بهم عن الاستقلال عنهم، ويهمّشون كلّ معارضة لهم، أو يحيّدونها أو يقتلونها. وهم عندما يدوسون عمليّاً على حقوق الخاضعين لسلطتهم، يقنعون هؤلاء بأنّهم لا يستطيعون شيئاً من دونهم (من دون القادة)، مصوّرين أنفسهم على أنّهم يمتلكون قدرات خارقة وعظيمة. وللوصول إلى هذا التحكّم، يلعبون على مخاوف أتباعهم لخنق أيّ عمليّة نقد، ويروّجون لمُثُلٍ عُليا مفرّغة من مضمونها، فيصبح الامتثال الكامل للقائد عوض مساءلته فضيلة تُدعى الطاعة، وفي حالة السلطة الدينيّة يُعطى مفهوم الطاعة بُعداً دينيّاً إيجابيّاً خلاصيّاً بحيث يصبح الخضوع المطلق الـمُسَمّى زوراً "طاعة" (واللفظة لا في جذورها اللاتينيّة لا تعني سوى الإصغاء) ويغيبون عمق الطاعة ألا وهو الإصغاء لكلمةالحقّ ونبذ الباطل.
يضلّل القادة السامّون الأتباع من خلال الكذب المقصود، والتشخيصات الخاطئة للتحدّيات الحقيقيّة، ثمّ الإيحاء بأنّ السلطة تعرف ما لا يعرفونه


ويضلّل القادة السامّون الأتباع من خلال الكذب المقصود، والتشخيصات الخاطئة للتحدّيات الحقيقيّة، ثمّ الإيحاء بأنّ السلطة تعرف ما لا يعرفونه. وهنا تكمن عند الخاضعين لسلطة القادة عمليّة تبرير لخضوعهم لا تتوقّف مبنيّة على معرفة للقادة لا يملكونها. وتضرب السلطة السامّة أيّ بنية ملموسة لإحقاق عدالة، أولتبيان حقيقة، يمكن أن يلجأ إليها الخاضعون لسلطتهم، طالما المعرفة الكاملة للحقائق والظروف غير متاحة سوى للقائد. هكذا، يتمّ رويداً رويداَ بناء نظام قمعيّ، وضرب أيّ آليات لمساءلة القيادة، أو للتفكير بتغييرها. فالاتّكاليّة تسود بعد اقتناع الخاضعين للسلطة السّامة بضعفهم وبتفوّق القيادة الصحيح أو الوهميّ. ويمتنع القادة السامّون عن وضع أيّ آليّات لخلافتهم، وعن إنماء روح القيادة في المجموعة، فإذا بالفوضى تعمّ بعد تنحّيهم عن القيادة لسبب أو لآخر.
وتسعى القيادة السامّة إلى تحريض الأتباع بعضهم على بعض لكي يستتبّ لها أن تكون الملجأ للجميع فتكون "الحَكَم" في الخلافات التي تشجّعها، والملجأ "الحكيم" للجميع. ولضبط العصبيّة، تسعى القيادة السامّة إلى معاملة الخاضعين لها بشكل جيّد، وتحرّضهم كي يخافوا أو يكرهوا الآخرين المختلفين. وعند فشل سياسات القادة السّامين وتضرّر الأتباع من جرّاء ذلك، يسعون إلى خلق كبش محرقة (من الآخرين عادة) والتحريض عليه، لتحويل غضب الأتباع. ويتّبع هكذا قادة سامّون سياسة معروفة لا تفاجئ أحداً، ألا وهي ترقية أناس عديمي الكفاءة يعلمون تماماً عدم كفاءتهم وأنّهم لا يمكنهم بكفاءتهم الذاتيّة أن يحوزوا ما يوازي فتات السلطة والمال الذي يحصلون عليه جرّاء خضوعهم المطلق للقيادة السامّة، ولذلك يسعون دائماً إلى استرضاء تلك القيادة بالمزيد من الخضوع والاستزلام حتّى ذاك غير المطلوب؛ ويتناسخ الخضوع من المحيطين بالقائد إلى المحيطين بهم، وهكذا دواليك في سلسلة معروفة من الخضوع للأقوى والتسلّط على الأضعف.
نهاية الأمر، بيئة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة دينيّة تُعمل هدماً في الشخصيّة الإنسانيّة، بيئةٌ لا تناسب الإنسان كي ينمو نحو ما يمكنه أن يكون عليه لأنّها بيئة تنفي الحرّية، وهي شرط نموّ الفرادة. ومن وجهة نظر إيمانيّة، لبّ هكذا سلطة سامّة هو عبادة الإنسان لذاته، وعبادة الخاضعين لصنم القائد، وتكبيل لهِبَةِ الحياة التي منحها الله للبشر، ولهِبَة الحرّية، تاج الكرامة الإنسانيّة، تلك الحرّية التي تشكّل لبّ ما يجعل من كلّ منّا إنساناً فريداً.
وبالنسبة إلى الإيمان فهذا أمر جدّ حسّاس، فالمؤمنون والمؤمنات يرون الحقّ في وجه الله، ولذلك فَهُم يرون السلطة حقّةً إن خدمت نموّ الإنسان الآخر لأنّ كلّ إنسان هو على «صورة» الله المحبوب، كما تقول المسيحيّة، وكما أقرأ رمزيّاً في العبارة الكريمة "الخلق كلّهم عيال الله". تكون السلطة حقّة عندما تكون قريبة من الله، وتكون قريبة منه إن كانت خادمة لنموّ الإنسان، ذلك أنّ "أحبّهم إليه أنفعهم لعياله" وما من نفع أفضل من أن ينمو الإنسان إلى ملء ما هو عليه بالإمكانيّة.

* كاتب، وأستاذ جامعي