إذا أرادت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) أن تعرف ما هو تأثير خفة الجاذبية على خفة العقل، أرجوها إرسال النائب مارك ضو رأساً إلى القمر. النتائج لا بد ستكون دامغة. أنا لا أقلل من درجة ذكاء هذا الرجل أبداً، لكنني أشكك بركائز عقله في المضمون والتموضع السياسي. نعم، أنا طوباوي ومثالي الأفكار في السياسة على الدقة القديمة. العقل فعلاً زينة، والمشيخة العقلية ترمز إلى قمة الحكمة والمنطق. برأيي هكذا توصيف ينطبق على العمل السياسي، وإلا أفسدنا العقد الاجتماعي. تركيز العقل السياسي على قاعدتين مبدئيتين كالعدل والحقيقة هو أساس الشأن العام. خارج هذا الإطار تتحول السياسة إلى إدارة أعمال بيزنس على أسس المنفعة الفردية والنفاق التسويقي، وهو للأسف تمام السيناريو المألوف في الفسحة اللبنانية سواء بين التغييريين أو التقليديين.
أوّلاً لا داعي للتبريك والبقلاوة. النجاح في المنافسة على كرسي المير طلال إرسلان النيابي ليس حدثاً ذا شأن، لأنه بإمكان حتى صينية القهوة الطرشاء في منزلي التغلب على الأخير صاحب النبض التقليدي الضعيف جداً جداً. ربما هي لعنة معظم الكراسي النيابية، إذ لا يتعاقب عليها إلا من هو ناجح في المنفعة الفردية وفاشل في مشيخة العقل السياسي. مارك ضو، خبير الإحصاءات المتتالية، يجيد قراءة الرأي العام في دائرته الانتخابية، فيُعيّر تموضعه السياسي ويدَوزن سرديته على أساس ما يطلبه المستمعون. قطار وماشي، فلنركبه! في ذلك نقيض العقل وضرب مصلحة المجتمع، بدل إعادة تصويب الرأي العام المعبأ أصلاً من الزعماء التقليديين والإعلام الممول ضد قواعد العدل والحقيقة المطلقة.
ليست عبرة أن ينبهر السفير السابق ديفيد هيل بنائبنا العتيد، لكنها تأكيد على قدرة الأخير العالية في الإذعان والامتثال لدوره السينمائي. بل إن التجربة في كل أنحاء ليبيا مثلاً، أو العراق (علاوي)، أفغانستان (غني)، الضفة الغربية (السلطة)، وفنزويلا (غوايدو)، تفرض حبتي أسبيرين للتو لكل من يُقال له «لديك الكثير من الأصدقاء هنا في أميركا الجاهزون للمساعدة» (مقابلة بين السفير ومارك ضو بتاريخ 12/8/2022، «منتدى أفكار لبنان» في وِلسِن سنتر، واشنطن). ثم يردف الأول «أخبرنا كيف نجحتَ في الانتخابات؟»، فيؤكد مارك ما يريد السفير سماعه أن «الجيل الناخب الجديد في منطقتي، بأكثريته الدرزية والمسيحية وبعض السنة والشيعة، وبمساعدة الإعلام المتلفز (...) تهمه سرديتنا السياسية المضادة لحزب الله والتأثير الإيراني في لبنان والنظام السوري (...) أكثر مما تهمه الكهرباء والخدمات العامة». أمّا استراتيجية مارك السرية في النجاح فهي «قص شعري عند كوافير مختلف انتقالاً من بلدة إلى أخرى في الستة أشهر الماضية، لأن مصففي الشعر رواة قصص جيدين»! فيقهقه السفير «عظيم جداً أن تجمع بين وسائل الاتصالات التقليدية والعصرية. ما هي أهم التحديات التي تواجهها أنت وزملاؤك المستقلون؟» يجيب مارك «نجهل آلية العمل داخل المجلس، بالإضافة إلى أن النواب القدماء يعطون البخشيش لخدام القهوة والماء فيحصلون عليها بوفرة حصرية في الاجتماعات، كما أن عددنا وخبرتنا غير كافيين للتوزع على اللجان المؤلفة من أخصائيي القوانين والدستور والقضاء، بالإضافة إلى الوقت الخانق في الاستجابة لضغوط الاستمالة من قِبل النقابات والسفارات». سيادة مارك السيادي صريح بما فيه الكفاية.
عندما طُرح السؤال عن أنواع المساعدات التي ممكن أن تقدّمها الولايات المتحدة للنواب المستقلين الثلاثة عشر (وهو برأيي لب الهدف من هذا الحوار في وِلسن سنتر) تحوّل الكلام إلى الآليات المعهودة للهبات الأميركية للمجتمع المدني على أصعدة الصحافة «المستقلة»، الأبحاث والدراسات، جمع المعلومات، وتعزيز النواب المستقلين باستحداث وتدريب فريق عمل لكل منهم. نسي صاحبنا دوره الجديد كممثل الشعب وتذكّر دوره السابق كناشط في سوق بزنس المجتمع المدني، أو خلَطَ بين الإثنين لا فرق، وأنهاها بالتكلم عن حزبه «التقدمي» (مع حذف الياء فقط للتمويه الظريف والتضليل بالاستقلالية عن «الاشتراكي» والتجديد والابتعاد عن التقليد).
يمتاز مارك بِحَربوئيته عندما مرّر حاجته كنائب للرشوات الأميركية ضمن اتهامات رددها كالببغاء


إجابةً على سؤال «رأيك باستراتيجية الضغط على هِزبولا لنزع سلاحه، وما ممكن فعله إضافةً إلى سياسة الدعم المالي والعسكري للجيش اللبناني»، استفاض مارك بوجوب «محاربة حزب الله في الانتخابات، تكثيف نشاطنا بين الطلاب الجامعيين، والتنسيق في العمل البلدي بهدف الكسب الانتخابي في مايو المقبل». وأردف من دون أخذ نفس، «كل هذا التحرك يساعد على إحياء اهتمام المجتمع الدولي والدول العربية في تمكين وتقوية الأجيال الشابة في لبنان، مساعدتهم في التمويل والبروز في وسائل الإعلام. نحن لم نتمكن من المناصرة في السعودية أو الإمارات علماً أنه بإمكاننا رصد التمويل من المغتربين لو سُمح لنا». أكّد مارك اصطفاف النجوم في السماء لمصلحته «بمجرد استبعاد الحريري وذلك ساعدنا على الوصول». نسي أن يوجه جزيل الشكر إلى السفير على آلاف صناديق الوُكي-توكي والخرطوش ومفرقعات الأعياد الموهوبة إلى الجيش اللبناني لمجابهة الأخطار على الجبهات الجنوبية والشرقية.
يمتاز مارك بِحَربوئيته عندما مرر حاجته كنائب للرشوات الأميركية ضمن اتهامات رددها كالببغاء، أن «حزب الله يدعم أصحاب المصارف، وحزب الله حجر عثرة أمام التحقيق في انفجار المرفأ. جميعنا يعلم أن حزب الله يقوم بتبييض الأموال وتمويل 24 مؤسسة في بلد أوروبي أنا زرته حيث يتم تعليم القرآن واللغة العربية والقيام بأنشطة مدرسية وتوجيه ديني، علماً أنها واجهات لتبييض الأموال وشراء مواد النيترات التي نعلم أين انتهت. كل ذلك يساعد ضد حزب الله، خصوصاً إذا رسمنا الخط الأزرق حتى نقطة راس الناقورة كي نبدأ ترسيم الحدود البرية بعد البحرية، وأنتم خبراء في هذا الموضوع، مما يسحب ورقة السلاح الذي لم يُستعمل منذ 16 سنة والأرجح أن يصبح من دون أي إفادة مع الوقت. (...) بالنسبة لاستراتيجية الاحتواء في إطار التحويلات المصرفية، يجب إضافة قائمة بيضاء إلى جانب القائمة السوداء لكي نتمكن من التواصل مع جمهورنا من أصحاب الرساميل، ولن نتاجر بالسجائر أو تبييض الأموال كما يفعل حزب الله». مهضوم.
يا نوسو مارك ضو، أسنانه لم تظهر بعد في البرلمان، لكن بوادر انفصام شخصيته قد توضحت أسوة بالنواب القدماء في المجلس. هو مثال السيادي التغييري الشامخ في فرماناته التلفزيونية ولكن مطأطئ الرأس على أرض السفارة الأميركية أو أرض البرلمان. هو يعرف لكن لا يعترف أن «ورقة السلاح» تلك تُستعمل يومياً منذ 16 سنة كقوة ردعية فعّالة، مروراً بالخطر الداعشي في سنوات الحرب السورية حتى ترسيم خطوط الغاز. تتوضح الحيرة الانفصامية أكثر عندما اعترف مارك علناً أمام الصحافي المبدع والرائع غسان سعود أن مصلحته تفرض عليه الاتحاد مع غادة عيد مثلاً بالرغم من اتهامه لها بالفساد. أجدني أبحث عبثاً عن شبر «تغيير» في التوجهات السياسية تحت الطاولة. التقليد نفسه يعود بحلة بنطلون جديد. آخ.
يتجلى ارتباكه الفكري في تحليل ورفض عبارة «كلن يعني كلن» لأنها تشمل عصابة القوات اللبنانية، إذ إن جهازه العصبي لا يتحمل تطلب «الجهد الإضافي عند القول إن القوات مثل حزب الله يلي هو مش منطق» كما «إيران والسعودية يلي هو كمان مش منطق (...) الدور الإيراني بلبنان بتسليح ميليشيات وصواريخ وخطف قرار الحرب والسلم لا يشبه الدور السعودي يلي اليوم عم يحتفل باتفاق الطائف والدستور». صحيح يا مارك، الأدوار مختلفة أكثر مما تتصور. طيب جرّب هالمنطق: لولا الطائف المشؤوم واللافظ الأنفاس لما تمكّن أمثالك من الوصول إلى البرلمان، ولما تربعوا وليد ونبيه وسمير على رأسك وما زالوا، ولما نهب رياض سلامة والمنظومة أموالنا؛ ولولا التمويل والرضى السعودي لما نفشوا بريشهم الميليشيوي اليوم عكس الكفوف التي أهدوها لسعد الحريري؛ ولولا صواريخ الحزب لكانت إسرائيل تنقب عن النفط في مرحاض بيتك في عاليه يا مارك، ولكنتَ رددتَ كلماتك تلك ربما بلكنة داعشية أو بالعبراني.
أليس عبراني كل من عبر إلى الضفة الصهيونية اليوم، تماماً كما يروي العهد القديم قصة عبور موسى الخيالية عندما فلق البحر نصفين بعصاه؟ ألم يصبح العبور قاسمك المشترك مع الرجعيين و«المستقلين» سواء في لبنان أو الدول العربية؟ العبور إلى الصهيونية هو قمة العهر الذي أنت تصوره قمة في البراءة، وكأن كل مجموعتك المستقلة هي على طهارة عالية حتى موسى لا يمكنه فلق ساقيها. مجموعتك مفلوقة يا خيي مارك، ولم يبقَ دولة في الشرق والغرب لم ترسِ مركبها في حوضكم. أنتم تشبهون شفّاط كهربائي للدولارات يرتدي حلَمَتان يا مارك، فيما نساء وطننا الحقيقيات من سينتيا يمّين إلى كل امرأة تعرف معنى المصلحة الوطنية تخرسك بكلمة واحدة.
واضح أنه لا يتطلب الكثير لاستنباط أريحية مارك ضو الفكرية السياسية. الحيط الواطي تجاه الأوروبي والأميركي من فنونه الوطنية، وعدمية الاكتراث لتاريخ الاجتياحات والاحتلالات والدمار والعقاب الجماعي الحالي وانتهاك القوانين والأعراف الإنسانية والغدر بشعبنا في لبنان والمنطقة ونهب أراضينا ومواردنا الطبيعية وزعزعة استقرارنا وضرب ثقافاتنا، عدم الاكتراث بكل ذلك هي حالة مارك المشتركة مع معظم المستقلين من حوله والتقليديين الرجعيين في خندقه. شعاره وشعارهم في الحياة «الآن الآن وليس غداً دعوني أتمتع بالتفاهات حتى الإغماء والفوز بأكبر فرص للتمويل». ربما السبب إفرازات جوفية من تحت الأرض في لبنان لمن لديه القابلية، وكأنها طوشة حشيشة جماعية من دون تدخينها.
مارك كنموذج النائب العبراني الجديد، هو مثال ضغط الدم الواطي. أعتقد أنه يوجد فقرة في دستور الطائف تنص على، قانوناً يمنع الاكتراث كفِعل بحد ذاته، نقطة على السطر. ممنوع الاهتمام. ممنوع العنفوان. ممنوع الشرف. ممنوع وقفة العز. مسموح التغريدات المتوترة على التويتر والانتفاض المُلوّن والتمويل من السفارات. مسموح تقبل ما هو غير مقبول.
أين الضوء في أمثال مارك ضو؟ إنه عصر الظلمة الحالكة. أمثالك يبثون حرارة عالية كلما صفوا كلماتهم، لكنهم لا ينتجون نوراً لزيادة المعرفة والإضاءة على الحقائق. العدل مفقود في قاموسهم. كفانا احتباساً حرارياً؛ نريد نوراً من نوابنا. أصبحت السياسة في بلادنا مهنة سمجة وريادة في البزنس بإدارة أدمغة رؤساء تنفيذيين. إذا وضعنا السياسة جانباً، أنا أتساءل هل لهذا الرجل ما يفتخر به على المستوى الشخصي بعيداً من الأضواء والحياة العامة؟ أنا لا أعرفه على ذلك المستوى لا من قريب ولا من بعيد، سوى خبرية كوافير شعره. للأمانة، كي لا أكون قليل الكرم، أعترف له أنه مبدع في قلة المبادئ كما القزم بارع في قصر القامة، وهي مهارة يملكها من دون أي جهد يُذكر. ربما شخصية مارك ضو على جاذبية مؤثرة جداً تماماً كتأثير المطب في الطريق. انتبهوا. وانتبه يا تيمور، منافسك المستقبلي أذكى بكثير من شهَيّب وغيره.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية