بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة في أوائل التسعينيات، بشّر السياسيون والأكاديميون بقدوم نظام عالمي جديد تصبح فيه الولايات المتحدة القوّة العظمى الوحيدة. لكن، الآن تتجه الولايات المتحدة والصين نحو المزيد من المواجهة حول التجارة والتكنولوجيا وبحر الصين الجنوبي وتايوان والعديد من القضايا الأخرى، وتتعرض الدول في جميع أنحاء العالم لضغوط متزايدة لاختيار جانب بين القوتين، ليتشكل مفهوم «الحرب الباردة الجديدة» لوصف التوتر المتزايد بين أكبر اقتصادين في العالم مدفوعاً بصدع في الأنظمة الإيديولوجية والسياسية. يعزو بعض المراقبين التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين إلى تهور إدارة دونالد ترامب. لكن أي تحليل جاد يشير إلى حقيقة أن التنافس أعمق من إدارة معينة، فقد بدأ قبل إدارة ترامب واستمر في إدارة جو بايدن، حيث أصبح التنافس بين البلدين واضحاً لأول مرة عندما أطلقت إدارة الرئيس باراك أوباما سياسة «محور الارتكاز الآسيوي» (Pivot to Asia)، وتقوم هذه السياسة على دعم الروابط الديبلوماسية، والعلاقات التجارية، وكذلك الأمنية لواشنطن مع منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بالتزامن مع هذا زاد الوجود البحري الأميركي في بحر الصين الجنوبي للحفاظ على ما تعتبره الإدارة الأميركية وحلفاؤها بحراً مفتوحاً. كما سرّعت إدارة أوباما المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ (TPP). واستَبعدَ اتفاق التجارة الحرة هذا الصين، بقصد الضغط عليها لتغيير نظامها الاقتصادي الذي تهيمن عليه حالياً الشركات المملوكة للدولة، وفتح أسواقها كما وعدت، ومنع معاملتها غير العادلة المزعومة للشركات الأميركية والأجنبية الأخرى.
ردّت الصين بتعزيز حضورها العسكري في بحر الصين الجنوبي للحفاظ على سيادتها في المنطقة، كما أطلقت بكين عام 2014 بنك آسيا للاستثمار (AIIB) كمؤسسة مالية دولية تقدّم قروضاً للدول النامية، وقد رأت الولايات المتحدة أن هذا البنك يمثّل تحدياً مباشراً لهيمنتها على تمويل التنمية عبر صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي. وعملت واشنطن على مقاطعة البنك الآسيوي للاستثمار ودعت حلفاءها إلى فعل الشيء نفسه، ولكن دون جدوى تُذكر.
قد يبدو التنافس بين الولايات المتحدة والصين ناتجاً عن الاختلافات الإيديولوجية بين النموذجين السياسي والاقتصادي للبلدين، لكن المشكلة الرئيسية في هذه القراءة هي أن هذه الاختلافات لم تظهر أخيراً. فمنذ أحداث ميدان تيانانمن عام 1989 وتوطيد حُكم الحزب الشيوعي الصيني في التسعينيات، كان من الواضح أن الصين لن تصبح ديموقراطية ليبرالية في أي وقت قريب. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخرطت بكين في السياسة الدولية، وأعادت إحياء هيمنة مؤسسات الدولة، وحدّت مِن تدخلات منظمات المجتمع المدني الممولة مِن الغرب، ومع ذلك، فإن هذه الاختلافات الإيديولوجية والسياسية لم تمنع الولايات المتحدة والصين من السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي والتعاون الجيوسياسي. وكان التناغم بين البلدين قوياً للغاية، ما دفع المؤرخ نيال فيرغسون وعالم الاقتصاد موريتز شولاريك إلى صياغة مفهوم «صي-ميركا» (Chimerica) لوصف الاقتصاد الفريد والمتكامل الذي قد يُشكله الاتحاد بين الصين وأميركا. ولكن بعض المطّلعين على سياسة الصين منذ فترة طويلة في واشنطن، مثل مسؤول المخابرات ومستشار ترامب للشؤون الصينية مايكل بيلسبري، يُجادلون بأن الصراع بين الولايات المتحدة والصين كان حتمياً، حيث كانت بكين دائماً ترى الولايات المتحدة عدواً لها وهدفاً طويل المدى منذ عام 1949 لتتم الإطاحة به، وترسيخ سيادة بكين على العالم. وإن كان ما سبق صحيحاً، يبقى سؤال: لماذا أخفت الصين نيتها جيداً لدرجة أن واشنطن لم تكن على علم بها حتى عام 2010؟ وخصوصاً أن الأنظمة السياسية والاقتصادية في أي مِن البلدين لم تخضع لأي تغيير نوعي جوهري.
لذا، وفي مُحاولة للإجابة على هذا السؤال، لجأ أستاذ السياسة غراهام تي أليسون في كتابه «Destined for War: Can America and China Escape Thucydides’s Trap?– 2017» للعودة إلى كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية (431 ق.م - 404 ق.م) للمؤرخ الإغريقي ثوقيديدس والتي اندلعت بين سبارتا وأثينا في اليونان القديمة. يلاحظ أليسون صراعاً بين قوة صاعدة وقوة راسخة، تحرس الأخيرة دائماً بغيرة هيمنتها على الوضع الراهن وتسعى إلى السيطرة على أي منافس جديد كمسار حتمي. وبالنظر إلى الصراع بين المملكة المتحدة وألمانيا والنزاع بين روسيا واليابان في أوائل القرن العشرين، يؤكد أليسون أن العلاقة اليوم بين الولايات المتحدة والصين تتجه نحو المصير نفسه.
ومن هذا المنظور، ظلت الولايات المتحدة والصين متناغمتين طالما كانت بكين ضعيفة ومكتفية بكونها الشريك الأصغر لواشنطن. ومع ذلك، بمجرد أن وصلت الصين إلى مستوى معين من القدرة والثقة، بدأت في إظهار طموح أكبر، وبدأت الولايات المتحدة في رؤيتها كمنافس. ليتحول الانسجام إلى صراع. تفسير أليسون يبدو مقنعاً، لكن فهم العلاقات بين الولايات المتحدة والصين من العدسة الحصرية للمنافسة بين الدول الوطنية يطرح السؤال عن الدور الذي تلعبه المؤسسات الدولية التي لا تُعد ولا تُحصى، ويشترك فيها كلا البلدين. وقد تم سدّ هذه الفجوة النظرية أخيراً من خلال الأدبيات الجديدة التي تدرس المنافسة بين القوى العظمى في ضوء دور مؤسسات الحكم العالمية، مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، والتحالفات الدولية مثل حلف شمال الأطلسي وتحالف «بريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا).
بحصر المنافسة بين دولتين أو كيفية تشكيل القواعد والأنظمة في المؤسسات الحاكمة العالمية، يتم التركيز على الجغرافيا السياسية فقط وتتوقف مساهمة الروابط الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين في علاقاتهما المتغيّرة. حيث يتم افتراض أن الدول هي جهات فاعلة مستقلة في السعي وراء السلطة أو الهيمنة على العالم. وكان هذا الافتراض شائعاً في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي منذ أن وضع ماكس فيبر تعريف نخبة السياسة الخارجية المستقلة للمصالح الوطنية، والتوجه السياسي الذي يتم تطويره داخلياً في شبكة النُّخب، باعتبارهم الأسس لتحليل السياسة الدولية. تتكون النخبة في السياسة الخارجية من مسؤولين عسكريين، واستخباراتيين، وديبلوماسيين، وباحثين من مراكز الفكر، ومسؤولين منتخبين لهم مصالح في السياسة الخارجية. ويأتي هذا التفسير لافتراض فيبر بأن تصرفات الدولة على الساحة العالمية مدفوعة بـ«مشاعر الهيبة» والسعي وراء «مركز القوة». وهذا المنظور هو رد فعل على المنظور الماركسي، الذي يرى السياسة الخارجية للدولة على أنها انعكاس بسيط للضرورات الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات.
لكن بعيداً عن وجهات النظر النخبوية والاقتصادوية، كانت هناك نظريات أكثر دقة للسياسة العالمية التي ترى التنافس بين الدول والروابط فوق الوطنية أو التنافس بين المؤسسات والشركات على أنهما مجالان مستقلان يتفاعلان لتشكيل النظام العالمي والصراع. وقد اعتمد أستاذ الاقتصاد السياسي هو فونغ هونغ في دراسته «صدام الإمبراطوريات» (Clash of Empires: From «Chimerica» to the ‹New Cold War›–2022) على هذه النظريات لفحص أسباب التناغم بين الولايات المتحدة والصين في التسعينيات وتحوله إلى صراع عبر ربط العلاقات الجيوسياسية بين الدول والعلاقات بين رأسمالية الشركات وذلك في ضوء التحولات الهيكلية الكلية للاقتصاد السياسي العالمي.
يلاحظ أليسون صراعاً بين قوة صاعدة وقوة راسخة، تحرس الأخيرة دائماً بغيرة هيمنتَها على الوضع الراهن وتسعى إلى السيطرة على أي منافس جديد كمسار حتمي


في السبعينيات، تعاملت الولايات المتحدة مع أزمتها الاقتصادية مِن خلال بناء إمبراطورية عالمية نيوليبرالية. ونجحت المحاولة وأصبحت واشنطن على موعد مع الإمبراطورية، وشهدت انتعاشاً في اقتصادها وقوتها العالمية. لكن، يتم تجاهل أن هذا النجاح، في جزء كبير منه، كان بسبب اندماج الصين في النظام العالمي النيوليبرالي. ولم يكن هذا التكامل محدداً مسبقاً، ولكنه أصبح ممكناً من خلال سلسلة من التفاعلات بين الدولة الصينية والنخب السياسية والاقتصادية الأميركية. وبدأت نخبة السياسة الخارجية الأميركية في تعريف الصين على أنها منافس جيوسياسي بعد نهاية الحرب الباردة، في أوائل التسعينيات. ومع ذلك، فإن التحالف الناشئ بين الحزب الشيوعي الصيني والشركات الأميركية حوّل الأخيرة إلى جماعات ضغط بالوكالة لبكين. كما كان مشروع العولمة بقيادة الولايات المتحدة، والذي بدأ في الثمانينيات، علاجاً لأزمة الربحية في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وبحلول عام 1993، عندما أصبح بيل كلينتون أول رئيس أميركي بعد الحرب الباردة، تمتعت الولايات المتحدة بفرص لتوسيع التجارة الحرة إلى حدود جديدة شاسعة في الكتلة الاشتراكية سابقاً وفي أميركا اللاتينية، حيث كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (NAFTA) من المفترض أن تكون الخطوة الأولى نحو سوق حُرة عالمية بقيادة واشنطن. في ذلك الوقت، كانت الصين تسير في طريق مسدود اقتصادياً وتواجه حالة من عدم اليقين السياسي في أعقاب تظاهرات ميدان تيانانمن عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. ومع اختفاء الأخير، الذي مثّل العدو المشترك الذي ربط واشنطن وبكين منذ السبعينيات، أعادت واشنطن تقييم شبه تحالفها مع حكومة الحزب الشيوعي الصيني ولم تكن في عجلة من أمرها لجرّ الصين إلى فلك العولمة. ورأت النخبة في السياسة الخارجية لإدارة كلينتون في البداية أن الصين الاستبدادية منافس محتمل وأعطت الأولوية لتعزيز حقوق الإنسان في سياستها تجاه بكين. ونظراً إلى أن الصين لم تتضرر من أزمة ديون العالم الثالث، لم تكن لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حوافز أو نفوذ كبير للضغط على بكين لاعتماد إصلاحات التكيف الهيكلي. ولم يكن اندماج الصين في نظام التجارة الحرة العالمي في التسعينيات نتيجة لدعوة غربية ولا ضغط. بل أخذ قادة الحزب الشيوعي الصيني بأنفسهم زمام المبادرة لاعتماد تحرير السوق في الثمانينيات والسعي إلى دمج الصين في نظام التجارة الحرة العالمي في التسعينيات. حتى إن بكين حشدت الشركات الأميركية لنقل السياسة الأميركية من التركيز على حقوق الإنسان إلى المشاركة الاقتصادية. واجهت سياسة كلينتون ضغوطاً قوية من جانب الشركات الأميركية لفك الارتباط بين حقوق الإنسان والتجارة مع الصين. وبدأت الشركات بحلول عام 1993 في الحشد للضغط على الديموقراطيين. ويظهر مستوى الضغط لفك الارتباط مِن سجلات الكونغرس لعامي 1993 – 1994، وقد برزت شركة «بوينغ» لصناعة الطائرات باعتبارها أكثر جماعات الضغط نشاطاً، تليها شركة الاتصالات «AT&T» عن كثب، وشركة الطاقة «إكسون موبيل»، وشركات الأقمار الصناعية مثل «Hughes Electronics»، بالإضافة إلى شركات السيارات في ديترويت، التي كانت نشطة للغاية حيث يمكن أن تصبح الصين سوقاً كبيراً لصادراتها. وشركات الأحذية والملابس.
في النهاية، سادت قوة الشركات وول ستريت. وفي 26 أيار 1994، أعلن كلينتون عن السماح بالنشاط التجاري مع الصين دون الأخذ في الحسبان التقدم في مجال حقوق الانسان. ومن ناحية أخرى، لم تكن وسائل الإعلام الحكومية الصينية الشيوعية خجولة بشأن الإعلان عن جهود الحكومة للحصول على مساعدة الشركات الأميركية. وتزايدت وفود الأعمال الأميركية المدعوّة لزيارة الصين، ووقّع مديرو الشركات الأميركية مذكّرة تفاهم (MOU) مع الحكومة الصينية تتضمّن طلبيات وعقوداً كبيرة. وتزامن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 مع بلوغ ذروة الازدهار المالي للولايات المتحدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. حيث تميّزت بكين بنظام أجور منخفضة وتباين في توزيع الدخل، كما أصبحت تُصنّع أكثر مما تستهلك واعتمدت بشكل كبير على السوق العالمية لاستيعاب قدرتها الإنتاجية. وشكّلت الولايات المتحدة أهم سوق للصادرات الصينية. غذت صادرات الصين المنخفضة التكلفة طفرة الاستهلاك في الولايات المتحدة، بينما ساعدت إعادة تدوير أرباح الصين بالدولار من سندات الحكومة الأميركية في تمويل العجز المالي الأميركي المتزايد. كما أن إعادة التدوير أبقت معدل الفائدة في الولايات المتحدة منخفضاً، ما أدى إلى تمويل الاقتصاد الأميركي والازدهار الذي يقوده التمويل. كما لو أن البلدين قد اندمجا في اقتصاد واحد.
عانى النظام العالمي في هذه الأثناء مِن أزمات جيوسياسية إقليمية متكررة جراء الفراغ الناجم عن الانهيار السوفياتي (على سبيل المثال، حرب كوسوفو)، والأزمات المالية المتكررة (من أزمة البيزو المكسيكي عام 1994 إلى الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997). وتطلب هذا تدخلاً عسكرياً أميركياً متزايداً في البؤر الجيوسياسية الخطرة، وتدخلاً مالياً أميركياً لإنقاذ الاقتصادات والبنوك المنكوبة. وقد ولَّد كلا الأمرين عبئاً مالياً متزايداً على عاتق الدولة الأميركية. ونمت التدخلات العسكرية الأجنبية للولايات المتحدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الحروب في العراق وأفغانستان. كما نمت عمليات الإنقاذ وسط أزمات مالية متزايدة الخطورة وواسعة النطاق، وبلغت ذروتها في الأزمة المالية العالمية لعام 2008. ودفعت هذه التدخلات الولايات المتحدة إلى مزيد من السير على طريق إمبراطورية عالمية مُكلفة.
وأصبحت صادرات الصين المصنعة المنخفضة التكلفة والاستثمار في ديون الحكومة الأميركية أساساً اقتصادياً ومالياً أكثر أهمية من أي وقت مضى لبناء الإمبراطورية الأميركية. وساعدت الصين الولايات المتحدة أيضاً في احتواء المخاطر الجيوسياسية في آسيا، مثل الأزمة النووية في كوريا الشمالية، وذلك عندما كانت أميركا منشغلة بآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
لقد حوّلت إصلاحات السوق الحرة في الصين في التسعينيات البلاد إلى اقتصاد رأسمالي - بمعنى أن حتمية تراكم رأس المال هي الدافع الآن لمعظم الأنشطة الاقتصادية؛ ومع ذلك، فإن النظام الاقتصادي الصيني لم يتقارب مع رأسمالية السوق الحرة التي تصوّرتها الولايات المتحدة. وبعد ثلاثة عقود من اندماج الصين في السوق العالمية، تحتفظ الدولة بالسيطرة على الاقتصاد في شكل شركات مملوكة للدولة. وسهّلت طفرة الصادرات الصينية صعود القطاع الخاص في الصين، حيث سيطرت الشركات الخاصة الصغيرة والمتوسطة، المحلية والأجنبية على قطاع الصادرات الصيني. ومع ذلك، لم تتخلّ بكين عن هيمنة الشركات المملوكة للدولة في القطاعات الرئيسية، بما في ذلك المالية والاتصالات السلكية واللاسلكية والطاقة والصلب والسيارات وغيرها. وقد نمت الشركات الصينية المدرجة في قائمة «Global Fortune 500» من 10 عام 2000 إلى 124 عام 2020. ومن بين تلك الشركات البالغ عددها 124، هناك 91 شركة مملوكة للدولة. وجدير بالذكر أن العديد من الشركات الكبيرة، الخاصة اسمياً، مثل «هواوي» و«علي بابا»، ظلت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحزب الشيوعي الصيني. تختلف رأسمالية الدولة في الصين عن رأسمالية الدولة في البلدان الأخرى من حيث إن قوة الحزب الشيوعي الصيني في الاقتصاد تتجاوز بكثير الشركات المملوكة للدولة. لذلك، يصور البعض الاقتصاد السياسي الصيني باعتباره «رأسمالية دولة حزبية» فريدة من نوعها. خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 عندما تعثر الازدهار الذي تقوده الصادرات استجابت الحكومة الصينية بإطلاق برنامج تحفيز قوي نجح في تعزيز الانتعاش الاقتصادي المدفوع باستثمارات الأصول الثابتة المموّلة بالديون. وأدى ضعف محرك التصدير والتوسع الاستثماري المتهور لقطاع الدولة المموّل من البنوك الحكومية خلال فترة الانعاش 2009-2010 إلى خلق فقاعة ديون ضخمة لم يعد يقابلها نمو احتياطي النقد الأجنبي. وبين عامَي 2008 وأواخر 2017، ارتفعت الديون المستحقة في الصين من 148% من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 250%. ودفعت زيادة القروض خلال جائحة «كورونا» لعام 2020 الحصة إلى أكثر من 330%. عملت رأسمالية الدولة الحزبية على حماية الشركات الصينية المحلية بشكل متزايد على حساب الشركات الأميركية وغيرها من الشركات الأجنبية في السوق المحلي. وأدى تصدير رأس المال الصيني في إطار «مبادرة الحزام والطريق» إلى خلق مجال نفوذ صيني تمتّعت فيه السلع والشركات الصينية بوصول متميز مقابل الشركات المحلية والشركات الأجنبية الأخرى. وبدأت الشركات الأميركية، مثل صانعي آلات البناء، تفقد حصتها في السوق لمنافسيها الصينيين المدعومين من الدولة. ونفوذ الصين المتزايد في العالم النامي أفقد الشركات الأميركية السوق هناك أيضاً. وعلى مدار العقد الماضي، ارتفعت حصة الشركات المصنّعة لآلات البناء الصينية في السوق العالمية بسرعة على حساب الشركات الموجودة في الولايات المتحدة. وخلال عام 2020، حلّت شركة «Sany» الصينية محل «Caterpillar» الأميركية لأول مرة كأفضل بائع حفارات في العالم. ومن بين أكبر عشر شركات مصنّعة لآلات البناء في العالم (ابتداءً من عام 2020)، حصلت الشركات الأميركية (Caterpillar و John Deere) على حصة سوقية مجمعة تبلغ 17.7%، في حين أن حصة الشركات الصينية (Sany و Zoomlion و XCMG) مجتمعة في السوق بلغت 20.3%. لذلك ليس من المستغرب أن لجأت الشركات الأميركية إلى الضغط على واشنطن من أجل سياسة يمكن أن تعزز قدرتها التنافسية مع نظيراتها الصينية في العالم النامي. وبدأ يتراجع حماس الشركات الأميركية للضغط من أجل مصالح الصين، واختفت القوة المضادة الرئيسية لموقف واشنطن الأكثر تشدداً تجاه الصين، ما أطلق العنان للقوى السياسية التي دعت إلى سياسة صارمة تجاه الصين في مجال الأمن القومي، والتي تم وقفها سابقاً من قبل لوبي الشركات الموالية للصين.

تقسيم العالم على أساس توازن القوى في أي نقطة معينة سيصبح بالتأكيد «عفا عليه الزمن» عندما تُقرّر بعض القوى السعي لإعادة توزيع الموارد


ولطالما حذّر الصقور الجيوسياسيون في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية والديبلوماسية الأميركية من تهديد الصين للأمن الإلكتروني للولايات المتحدة وهيمنة الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لكن كل إدارة جاءت في عصر الازدهار الصيني كانت حذرة من اتخاذ إجراءات جادة لردع تقدم الصين العسكري والجيوسياسي خوفاً من الإضرار بالتعاون الاقتصادي بين البلدين. خلص فريق عمل مجلس العلاقات الخارجية الأميركية عام 2021، إلى أن «مبادرة الحزام والطريق تخلق مزايا غير عادلة للشركات الصينية، ما يترك الشركات الأميركية والأجنبية الأخرى غير قادرة على المنافسة في عدد من بلدان مبادرة الحزام والطريق». وجاء ضعف دعم الشركات الأميركية، وتراجع الجهود لكبح جماح النخب السياسة التي تفضل وضع الصين كمنافس للولايات المتحدة في وقت كان رد الفعل الشعبي عنيفاً ضد العولمة بشكل عام، والتجارة مع الصين على وجه الخصوص.
ومنذ ظهور العولمة النيوليبرالية وفتح التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والصين، قاوم العمال النقابيون وممثلوهم السياسيون بشدة هذه التطورات. وبعد أن عانوا من عمليات التصنيع الضخمة في الخارج والبطالة، كما تنبّأ نقاد العولمة في أوائل التسعينيات، أصبح هؤلاء العمال هم الكتلة التصويتية القوية التي دفعت سياسيين مناهضين للتجارة الحرة - مثل بيرني ساندرز على اليسار ودونالد ترامب على اليمين - إلى الصدارة في الانتخابات الرئاسية عام 2016. ورأى كل من ترامب وساندرز التجارة الحرة غير المقيدة مع الصين على أنها خطأ. وبعد أن أصبح ترامب رئيساً، شنّ حرباً تجارية مع الصين من خلال فرض رسوم جمركية عالية على مجموعة واسعة من المنتجات الصينية. وأصبحت التحفظات حول التجارة الصينية وحتى العداء تجاهها سائديْن في واشنطن لدرجة أن إدارة بايدن الآن تعهدت بعدم تخفيف التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على الصين ومواصلة اتباع سياسة المواجهة تجاه بكين.
في المقابل، مع تزايد قوة الصين الاقتصادية في آسيا وخارجها، تحاول بكين بشكل طبيعي الاستفادة من نفوذها الاقتصادي لزيادة نفوذها الجيوسياسي. وقد تكون الطريقة التي تتصرف بها تجاه جيرانها الآسيويين نذيراً لكيفية تفاعلها مع المناطق الأخرى. أي أن التحول الإمبريالي للصين - باعتباره إسقاطاً للسلطة السياسية الرسمية أو غير الرسمية للدولة خارج حدودها السيادية - ليس مفاجئاً. يتوقف صعود الصين كقوة تصنيع موجّهة للتصدير لاعتمادها على الدولار الأميركي. وطالما ظل معيار الدولار العالمي، ومنظمات «بريتون وودز» متعددة الأطراف، والمظلة العسكرية العالمية للولايات المتحدة مهيمنة، فإن إظهار بكين لتأثيرها الجيوسياسي سيكون مقيّداً. ويمكن للدول التي حاولت الصين استيعابها في مدارها أن تعتمد في كثير من الأحيان على الولايات المتحدة لكبح نفوذ الصين المتزايد. تُدرك بكين جيداً هذه العقبة، وبدأت في استكشاف طرق لإنشاء نظام عملة عالمي مواز ومؤسسات متعددة الأطراف، وحتى قوة أمنية عسكرية صلبة لمنافسة الولايات المتحدة.
وبدءاً من عام 2008، شجّعت الصين الاستخدام الدولي لعملة الرنمينبي، على أمل أن التجارة الخارجية للصين وتدفق استثماراتها إلى الداخل والخارج يمكن تسويتهما بشكل متزايد بالرنمينبي بدلاً من الدولار. لكن التحدي الأكبر الذي يواجه تدويل الرنمينبي هو أنه ليس عملة قابلة للتحويل بحرية. وبالرغم مِن أن الاستخدام الدولي للرنمينبي قد زاد بشكل كبير في السنوات التي أعقبت أزمة 2008، لكن لا يزال متخلفاً عن الاستخدام الدولي مقارنة باليورو، ناهيك عن الدولار الأميركي. وأدى الانهيار المالي والانخفاض الحاد في قيمة الرنمينبي عام 2015، الناتج عن التباطؤ الاقتصادي وفقاعة الديون، إلى إجبار بكين على تشديد الرقابة على النقد الأجنبي مرة أخرى لوقف هروب رأس المال. إن محاولة بكين إنشاء كتلة لعملة الرنمينبي، لتقليل اعتمادها على الدولار، تبدو، حتى الآن، غير مجدية. لكن دفعها القوي نحو تدويل عملتها جعل الولايات المتحدة في حالة تأهب. وادعى تقرير للكونغرس الأميركي عام 2019، أن تدويل الرنمينبي بدأ يحظى بزخم، إلى جانب إنشاء نظام مدفوعات بين البنوك الدولية (CIPS)، وهو نظام مقاصّة دولي تقوده الصين ومستقل عن نظام «سويفت»، ما يمكّن الصين مِن خلق نظام مالي عالمي يتحدّى النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. ويمكن أن يصبح هذا النظام المالي شريان حياة للبلدان الخاضعة للعقوبات الأميركية، بما في ذلك كوريا الشمالية وسوريا وروسيا وإيران.
أخيراً، جادل القائد السوفياتي لينين، بناءً على تحليل الاقتصادي البريطاني جون أتكينسون هوبسون، بأن القوى العظمى عندما تسعى للسيطرة على العالم من خلال التوسّع الإمبريالي مقدّر لها أن يصطدم بعضُها ببعض، وأن أي تعاون بين القوى العظمى سيكون، على الأكثر، هدنة مؤقتة بين الصراعات. وبالنظر إلى الوتيرة غير المتكافئة للتطور الرأسمالي بين القوى العظمى، فإن تقسيم العالم على أساس توازن القوى في أي نقطة معينة سيصبح بالتأكيد «عفا عليه الزمن» عندما تُقرّر بعض القوى السعي لإعادة توزيع الموارد، الأمر الذي سيؤدي إلى الصراع. في النهاية، أثبتت الحربان العالميتان صحة نظرية لينين حول حتمية صراع القوى العظمى.
علاوة على ذلك، كما يشير هوبسون، إذا قامت القوى الرأسمالية بزيادة القوة الشرائية للطبقة العاملة في الداخل، وهذا ضروري لاستيعاب الطاقة الإنتاجية الزائدة في اقتصاداتها المحلية، وإذا تمت عملية إعادة توزيع محلية، فإن القوى الرأسمالية ستكون أقل احتياجاً لتصدير رأس المال، ويقل الحافز لتوسيع مجال نفوذها وبالتالي لن تصطدم بالقوى الأخرى.
في سياق الصين، إذا نجحت محاولات بكين لإعادة التوازن إلى الاقتصاد من خلال تعزيز دخل واستهلاك الأسرة، فسيتم تخفيف قدرة الاقتصاد السياسي الصيني الزائدة وأزمة الربحية والمديونية. فالشركات الصينية، والدولة الصينية من ورائها، سيكون لديها حافز أقل للضغط على الشركات الأجنبية في الداخل. وستكون أقل عرضة للاستثمار الخارجي أيضاً. ما يعني أن إحياء الأرباح من خلال إعادة التوزيع بدلاً من تكثيف المنافسة بين الرأسماليات يمكن أن يحتوي التدهور في الصراع بين الدول. والأمر نفسه ينطبق على إصلاح إعادة التوزيع مقابل تصدير رأس المال من خلال السعي وراء العولمة النيوليبرالية في الولايات المتحدة، وهذه رؤية هوبسون لتجنب الحرب التجارية، والتوسع الإمبراطوري، وبالتالي عدم اندلاع حرب إمبريالية جديدة.
لكن مِن المؤكد أن مثل هذا العمل لإعادة التوازن، والذي يتوقف على كسر مقاومة أوليغارشية الشركات لإعادة التوزيع، أسهل قولاً من فعله. واستناداً إلى فهمنا النظري للتطور الرأسمالي الصيني والاقتصاد السياسي الأميركي، جنباً إلى جنب مع المقارنة بالسوابق التاريخية، نُصبح أكثر قلقاً مِن أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين سوف يشتد في السنوات القادمة. وقد تلعب الوساطة من قبل مؤسسات الحكم العالمية الشرعية وإعادة التوازن للاقتصادين الصيني والأميركي دوراً في تخفيف حدة الصراع. والوقت وحده هو الذي سيحدد ما إن كانت مثل هذه الأساليب ستنجح أم سنشهد صراعاً أكثر فتكاً.
* كاتب مصري