لم ترَ الطبقات الفقيرة مادّيًا عصرًا ذهبيًّا للبنان يومًا، كان جلّ همّها ألّا ينتهي المرتّب اليومي، أو الشهري، فيعرف أطفالها الجوع أو البرد، وكانت تنوء تحت عبء تسديد أقساط المدارس، إن استطاعت إليها سبيلًا. وإن لم يخلق الله الفقر كجزء من طبيعة هذا الكوكب، فقد أبدع رأسماليّو عصرنا في خلقه بسياسات مرسومة من خرّيجي الجامعات الأجنبيّة والوطنيّة وتجّار الكلمات في الصحف، أولئك الذين خدموا ويخدمون الذين تربّعوا على عرش الحكم في بلد معلّقٍ بين الوجود واللاوجود. لم يهتمّ خدّام بلاط المال والسلطة من المتعلّمين يومًا إلّا بما يناسب مصالح أهل البلاط من سياسيّين، وطفيليّين اقتصاديّين، ورجال دين، فحوّلوا البلاد إلى مرتع لجني المكاسب على حساب المهمّشين. مَن يأكل من كعكة الثروة الوطنيّة حتّى التخمة هو يأخذ من فم المسحوقين، لا مناص. لم ترَ الحارات الفقيرة عصرًا ذهبيًّا، ولولا الجامعة الوطنيّة لمّا خرج أبناؤها وبناتُها من الفقر يومًا. «ذَهَبُ» تاريخ هذه البلاد كان ولمّا يزل بيد حفنةٍ من المستغِلّين وخُدّامهم من الطبقة الوسطى الذين يحتاج إليهم المستغلِّون أدوات لجنيِ الأرباح، ولإعداد خُدّامِ وأدواتِ المستقبل الضروريّين لخدمة ورثة المستغلِّين. وطبقة الخُدّامِ تتضاءل مع تحوّل البلاد نفسها إلى حارات مُفَقَّرَة بسياسات معروفة النهايات: قتل بطيء لمعظم السكّان بالأمراض المزمنة وباليأس.
كانت الحياةُ مؤجّلةً للذين نشأوا على تجنّب الموت بالمرور الضيّق بين أنياب الرأسماليّين، ولم تزل اليوم مؤجّلةً مع استتباب سياسات النهب التي يتبرّأ منها الجميع ويشترك بحمايتها جميع الذين يقدّمون للناس أوهام مستقبل سعيدٍ مولودٍ على أيدي الجلّادين. لن يستطيع الفقراء أكل صاروخ دقيقٍ، ولا الشرب من نفطٍ سيذهب إلى العديمي الشبع، ولا التنفّس من غاز التحاصص فوق جثث المواطنين. لا يمكن أن يتصالح رأسمال لا حدّ لشراهته مع جسم الإنسان وروحه، فشراهته موتٌ يمتصّ الحياة من الآخرين ويُبقي منهم ما يكفي ليخدموه في عمليّة جمع المزيد من الأرباح.
لا، لا يتصالح الرأسمال القاتل مع الرغبة الإنسانيّة بالحياة بكرامة، هو دائمًا ضدّها. لكن المتربّعين على عروش السلطة والقدرة على القتل، يبرّرون بكلّ أشكال «الأخلاقيّات» و«الضرورات» اشتراكَهم بطريقة أو بأخرى بذبح شعبهم بسياسات الإفقار، والاعتداءات، والتهديد بالقتل، والقتل. يغسل الحكّام أيديهم من دماء مواطنيهم المسفوكة في العلن وفي الخفاء ويطلبون ممّن يرون الموت القادم في عيون أطفالهم أن يؤجّلوا حياة اليوم إلى الغد. لكنّ الإنسان لا يحيا على هذه الأرض إلى الأبد، وهو لا يملك إلّا اللحظة الحاضرة ليحيا، وما من عدالة تقول بأن يَفرِضَ القَتَلةُ وحُماتهم تأجيل عيش الحياة إلى ما لانهاية، فهي هبة أعطاها الخالق ولم يصنعها إنسان.
لا يمكن اليوم تبرير تأجيل إشباع شعوبنا لجوعها الإنسانيّ إلى الاكتفاء المادّي والحرّية سوى بجهبذات فكريّة تعنّف الحسّ السليم لمطلق أيّ إنسان مجروحٍ بتراكم المظالم. قال يسوع الناصريّ يومًا إنّ وجه الله هو وجه الضعيف؛ من يمّم وجهُه وجهَ الضعيفِ وعمل كي لا تبقى حياةُ هذا الأخير مؤجّلةً، رأى ما يُمكن أن يُرى اليوم مِن وجه الله وكان مع جماعةِ الله فهي جماعةُ المحبّين؛ ومَن أشاح بوجهه عن الضعيف يعرف كلّ يومٍ في المرآة وجهَ قايين.

*كاتب، وأستاذ جامعي