لا يزال حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت حديثاً في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة مهمّة شاركَ هو في صنعِ بعضها. وتضمّنت اليوميّات في الجزء الثالث بعض ما جاء في أحاديث صائب مع الصحافي شكري نصر الله في سنوات إقامته في جنيف. يظهرُ في الكتاب حجم الصراعات بين قادة «فتح» والمقاومة الفلسطينيّة بصورة عامّة. كان أبو إياد يمثّل جناحاً، فيما كان خالد الحسن يمثّل النظام السعودي وكان صاحب الحظوة الأكبر عند ياسر عرفات. ويقول صائب إنه أصبح خبيراً في شأن الخلافات بين قادة المنظمة، فيفهم من زيارة من أبو أياد وخالد الحسن له أنهما كانا على خلاف مع عرفات (ص. ٨٢٦، ج٢). (ويذكر هاني سلام كيف أن أبو أياد استعان به ذات مرّة في الثمانينيّات للتوسّط بينه وبين عرفات بعد قطيعة طويلة بينهما). ويقول صائب إن أبو اياد كان على علم بحالة التبرّم التي سادت الوسط الإسلامي في بيروت الغربيّة من جراء ممارسات وفساد منظمة التحرير والحركة الوطنيّة.

وبالرغم من الحوار الدائم بين قادة المقاومة وصائب، لم تكن العلاقة سويّة بين الطرفيْن بسبب اعتراض صائب الشديد على الحركة الوطنيّة التي كانت مدعومة من منظمة التحرير (وكانت الحركة مدعومة أيضاً من تشكيلة كبيرة من الأنظمة العربيّة والاشتراكيّة حول العالم—والطريف أن بعض القادة المتقاعدين من الحركة الوطنيّة يعيبون اليوم على حزب الله اعتماده على نظام واحد في تسليحه وتمويله). كما أن عرفات لم يكن مرتاحاً في فترات من مواقف صائب، وخصوصاً رفضه إقامة جبهة عريضة تضمّ القوى الإسلامية والوطنيّة. ويشكو سليم الحصّ لصائب من وضعه في إدارة إلياس سركيس (والحصّ—مثل كل رؤساء الحكومات قبل الطائف—لم يملك من السلطة إلا قشورها. كان الثلاثي جوني عبده وإلياس سركيس وفؤاد بطرس يشكلون نخبة السلطة—وكان جوني عبده يحرم سليم الحصّ من التقارير الاستخباراتيّة لأنه لم يكن يثق به). ويثني سلام على الحصّ في ما بعد، ويقول إن أبو أياد عبّر عن إعجابه به «وكيف أنه كان رجلاً في مجابهة أبو عمّار، الذي حاول أن يغمز من قناته، فردَّ له الصاع صاعيْن. وأنا في الحقيقة أصبحتُ معجباً برجولة هذا الشاب منذ وقوفه في وجه إلياس سركيس وفؤاد بطرس... إنه في نظري أصلب وأعقل من معظم رؤساء الحكومة المعهودين» (ص. ٨٢٤، ج٢).
ويتوقّف صائب عن السرد المرّة تلو الأخرى كي يعود بنا إلى موضوع التمويل السعودي الذي أرّقَ صائب في سنواته في العمل السياسي. يتحدّث مع السفير علي الشاعر عن زيارة مقبلة للسعودية، بعدما تلقّى المال أخيراً منهم. لكن الشاعر يُعلمه أن السعوديّين قرّروا إرجاء كل «الزيارات اللبنانيّة... كيلا يثيروا حساسيّة السوريّين» (ص. ٨١١، ج٢). لكن صائب أراد أن يبحث مع الأمير فهد في «قضيّة إمداد «جمعيّة المقاصد» بالمساعدات، حيث إن همّي الأوّل... هو تركيز وضع المقاصد... إنها... حصن المسلمين الأوّل والأخير في هذا البلد، الحصن الذي يحميه من كل التيّارات الهدّامة، وخصوصاً الشيوعيّة واليسار الزائف المخرِّب». اللافت أن نقمة صائب (وكل طاقم الإسلام السياسي السني والشيعي) ضد اليسار تفوق نقمته ضد القوى الانعزاليّة التي غالباً ما تفهّمَ مواقفها (كان صائب سلام خطيب حفل تأسيس حزب الكتائب في عام ١٩٧١ في بيروت. هل يمكن تصوّره خطيباً في حفل تأسيس حزب يساري مثلاً؟) وعبارة «التيّارات الهدّامة» مستقاة من أدب بروباغندا معاداة الشيوعيّة التي كانت الحكومة الأميركيّة تضخّه في عالمنا العربي عبر «دار النهار» ودور نشر أخرى متخصّصة. ويفاتح صائب علي الشاعر في موضوع «مشروعي السابق، لبناء عقارات استثمار تكلّف ما يقرب من ١٧٠ مليون ليرة لبنانيّة». مشاريع تمويل يطلع بها صائب ويفاتح السعوديّين في أمرها، ولا نعرف من سياق الحديث نتائج تلك المباحثات، وإن كانت نبرة التأسّف والخيبة تسود في حديث صائب عن علاقته مع السعوديّين. ويقرّر صائب زيارة بيار الجميّل في بكفيّا ويزعم أن الزيارة لقيت «ترحيباً لدى أكثريّة المواطنين»، لكنه كان يجب أن يضيف أن المواطنين في الشرقية رحّبوا بها، فيما استهجنها المواطنون في الغربيّة. ويحكم على بيار الجميّل بأنه «أكثر اعتدالاً من كافة القياديّين المسيحيّين الآخرين» (ص. ٨١٢، ج٢). هذه كأن تقول إن هتلر كان أكثر اعتدالاً من غوبلز.
ويذكر صائب البطريرك أنطون بطرس خريش الذي قلّما يرد ذكره في الإعلام اللبناني وذاكرة الحرب السياسيّة (هو البطريرك الماروني الخامس والسبعون، بين عامَي ١٩٧٥ و١٩٨٦، حين استقال بسبب تقدّمه في السنّ). التقى صائب خريش في باريس و«أبدى (خريش) تململه من قادة الجبهة اللبنانيّة قائلاً إنهم في الحقيقة يُرهبون المسيحيّين، فلا يسمحون لهم بحريّة التعبير عن آرائهم، وإنهم حملوا عليه ولقّبوه بـ»محمد الفلسطيني» لأنه رفض أن يسلك معهم سبيل التطرّف، وندَّدَ البطريرك خريش خصوصاً بكميل شمعون، قائلاً إنه يدّعي الحرص على المسيحيّة وهو ليس على شيء من هذا» (ص.٨١٧، ج٢). ثم تناول شارل مالك، واصفاً إياه بـ«المنافق بين الأرثوذكسيّة والمارونيّة»، وقد ذكّرني ذلك بما كان قد قاله لي داغ همرشولد، الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة، عن شارل مالك في عام ١٩٦٠... كما لا أزال أتخيّله حتى اليوم، يضرب المائدة بقبضة يده ويقول: «هذا الرجل كذّاب، كذّاب، كذّاب» (ص. ٨١٨، ج٢). وخريش، خلافاً للبطاركة الموارنة الذين سبقوه والذين خلفوه، لم يكن طائفيّاً وهو عاصر من فلسطين النكبة وكنَّ—خلافاً لجبران باسيل—عقيدة عداء ضد الصهيونيّة. وفي عام ١٩٤٨ عُيِّن من قبل الفاتيكان نائباً لرئيس اللجنة البابويّة لإغاثة نازحي فلسطين.
يظهرُ في الكتاب حجم الصراعات بين قادة «فتح» والمقاومة الفلسطينيّة بصورة عامّة


وصائب مُصيب في تدليله على موقف النظام السوري من قادة الميليشيات اليمينيّة. يقول إن التدخّل العسكري السوري في ١٩٧٦ هو الذي كان مسؤولاً عن «فرعنة كميل شمعون وبشير الجميّل» (ص. ٨١٨، ج٢). كان الفريق اليميني على عتبة الانهيار عندما دعّم الجيش السوري صفوفه ووجّه مدافعه نحو أعدائهم. ويقول صائب مُحقّاً إن النظام السوري لم يفهم لبنان. والذي جرى في لبنان، وتنامي حالة العداء ضد الشعب السوري—ليس فقط ضد النظام—بمجرّد انسحاب جيشه من لبنان في عام ٢٠٠٥ يؤكّد ما يرمي إليه صائب. وبالرغم من أن وليد جنبلاط كان يهجو صائب سلام باستمرار ويطلق عليه—مثل والده من قبله—صفة «العميل السعودي» فإنه كان يزوره في السرّ وفي العلن أحياناً (المفارقة أن ارتباط جنبلاط الذيلي بالسعودية فاقَ بأشواط ارتباط صائب سلام بالسعوديّة، ومن المؤكد أنه بدرَ عن النظام السعودي احترام وتقدير لصائب أكثر مما بدر عنه نحو جنبلاط الذي عامله عبر السنوات باستخفاف شديد. كما أن وليد جنبلاط اليساري تملّقَ للنظام السعودي أكثر بكثير من صائب سلام اليميني). ويقول صائب عن جنبلاط: «وجدتُه متعباً ومرتبكاً في مسيرته بين ما يشعر به من ضغط سوري ومن خطر في هذا المجال، وبين حاجته للمال الذي يمدّه به العراق من خلال الحركة الوطنيّة. قال لي إنه توجّه إلى ليبيا فلم يساعدوه، وقال إنه طرق أبواباً أخرى (لم يفصح عن هويّتها) ولكن من دون جدوى، وإنه الآن مضطرّ للحصول على أموال العراق والارتباط بأحزاب الحركة الوطنيّة» (ص. ٨٢٥، ج٢). ها هو زعيم الحركة الوطنيّة يعترف بأن ارتباطه بالحركة الوطنيّة كان محصوراً بالمال والمال فقط. ثم يسألونك عن سبب انهيار الحركة الوطنيّة وعن صعود التيارات الدينيّة الطائفيّة بعدها. وبلغ من نفور جنبلاط من الحركة الوطنيّة أنه تباحث مع سلام في أمر انضمامه إلى قوى الإسلام التقليدي «وأظهر حماسة لذلك». ويلتقي صائب بجنبلاط ومروان حمادة بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام ١٩٧٨، ويقول «تأكدتُ مرة أخرى أن جنبلاط لا يساير اليساريّين والشيوعيّين إلا انطلاقاً من الضرورة القصوى، وضمن حدود ضيّقة، فهم بعد كلّ شيء يمدّونه بالمال، وهو يحتاج إلى الكثير من المال للقيام بأودِ جماعته من المسلّحين وغير المسلّحين. ومعلوماتي تقول إن الحركة الوطنيّة تتلقّى معونات تبلغ ٣ ملايين ليرة شهرياً... يحصل منها جنبلاط على نصف مليون. المهم، وجدتُ لدى وليد جنبلاط استعداداً: أولاً، لأن يتخلّى عنهم إذا تيسّر له من يدعمه بهذا المبلغ، وكنتُ قد بحثتُ هذا مع السفير علي الشاعر في السابق ووجدتُ عنده قبولاً، فلعلّنا نتوصّل إلى ذلك، فننتزع جنبلاط من أيدي اليساريّين والشيوعيّين» (ص. ٨٤٥، ج٢). هذا هو زعيم الحركة الوطنيّة الاشتراكي يفاوض على موقفه السياسي بناءً على عطايا ماليّة. هذا هو زعيم يساري لبناني يساوم على اشتراكيّته ومواقفه لمَن يدفع أكثر. طبعاً، عاد جنبلاط وفعل الأمر نفسه عندما انفصل عن المقاومة الإسلاميّة مقابل المال، والكثير منه، وإن جفّت موارده أخيراً. (كان جنبلاط يتلقّى عبر السنوات تمويلاً من النظام السوري—المعروف بتقتيره—ومن النظام الإيراني، بالإضافة إلى أنظمة أخرى، وروى إلياس الهراوي عن علاقة جنبلاط بالقذافي قبل أن يُلهم جورج بوش جنبلاط في غزوه للعراق).
وفي موضوع زيارة السادات لإسرائيل لا يصارح صائب القارئ (أو نفسَه في اليوميّات) بحقيقة موقفه. هو يعترف «كنتُ أشعر بتعاطف ما مع أنور السادات ليس بسبب ما فعله، بل لأنه في الحقيقة رجل شجاع ما في ذلك من شك، فهو يصادم اليوم قوى عربيّة ضارية تألّبت من حوله وضدّه» (ص. ٨٢٦، ج٢). ما أخفاه صائب (عن القارئ وعن نفسه) أنه بعد إعلان السادات عن نيّته زيارة القدس عقد مؤتمراً صحافيّاً من قلب منزله في المصيطبة أعلن فيه جهراً أنه يؤيّد مبادرة السادات، وكان الوحيد الذي أعلن موقفاً مؤيّداً للسادات في بيروت الغربيّة، وتسبّب ذلك في رمي أصابع ديناميت قرب سور منزله. وكان موقف صائب في دعم الزيارة أقوى من مواقف قادة بيروت الشرقيّة. وأذكر كم لاقى موقف صائب من الاستهجان والاستفظاع بين الناس إلى درجة أنه صمتَ بعد ذلك عن حديث المبادرة وانتقد المسار الذي تلاها. أمّا تمّام الذي كان حديث الشأن في العمل السياسي آنذاك، فقد اختار أن يردّ على زيارة السادات بإرسال «برقيّة تأييد إلى الرئيس السوري حافظ الأسد». ويضيف صائب: «كنتُ قد حاولتُ أن أثنيه عنها فتشبتَّ وصمَّمَ... فسكتُّ على مضض» (ص. ٨٢٦، ج٢). قد تكون هذه المرّة الوحيدة التي يعترف فيها صائب بأنه وتمّام كانا على خلاف سياسي في شأنٍ ما.
ويتحدّث صائب بصراحة كلية عن واقع الرأي العام الإسلامي نحو الاجتياح الإسرائيلي في عام ١٩٧٨. يقول عن ذريعة الاجتياح إنها «كانت ذريعة صالحة» (ص. ٨٣٥، ج٢). أمّا عن الرأي العام فيقول: «فإن المشاعر اللبنانيّة وغير اللبنانيّة (من يقصد يا ترى؟ الفلسطينيّون أنفسهم؟ عسى ألا يكون يعتمد في قراءته للرأي العام الفلسطيني على أفسد قائد فلسطيني، «أبو الزعيم»، الذي كان يزوره بانتظام والذي أبلغه بأن ٨٥٪ من الفلسطينيّين «هم اليوم مع أنور السادات»، ص. ٨٢٧، ج٢) إزاء ما يحدث كانت متباينة: من شعور بالحزن والأسى إلى شعور بالغضب إلى شعور باللامبالاة، بل كان هناك مَن سرّه ما يحدث، وليس فقط، ولأقلها بصراحة، في أوساط المسيحيّين الغاضبين على الفلسطينيّين، بل كذلك في أوساط مسلمين أسخطتهم تصرّفات الفلسطينيّين، وأصبحوا كما قال أحدهم يتمنّون أن يأتي الشيطان نفسه فيخلّصهم مما هم فيه» (ص. ٨٣٥، ج٢). لا ينكر ما يقوله صائب هنا أي شخص عايشَ تلك الفترة المؤلمة والصعبة. لم تنهَر الحركة الوطنيّة لأنه كان هناك مؤامرة ضدها (كان هناك مؤامرة ضدها، طبعاً) بل لأن حالة الفساد والفوضى والتسيّب والنفاق الذي سادها نفَّر الرأي العام منها ومن شعاراتها، كما أن سوء تخطيط العمليات الفدائيّة وفشل معظمها خلق—يا للأسف—حالة من التعاطف مع العدوّ في الجنوب اللبناني من جراء التدمير الذي كان العدوّ يلحقه بالقرى والمدن في الجنوب. مَن ينكر ذلك يصدّق مقولة وطنيّة طائفة ما وخيانة طائفة ما. هذه مرحلة لا يمكن إنكارها في كتابة تاريخ لبنان وتاريخ مواقف الطوائف نحو العدوّ الإسرائيلي. لا تتقدّم طائفة على أخرى في هذا المجال.
لكن الخيانة الوطنيّة لإلياس سركيس وفؤاد بطرس تظهر من خلال رواية صائب لما جرى عقب الاجتياح. فقد رفض الثنائي الحاكم «تلميح» صائب بتقديم شكوى لمجلس الأمن ضد عدوان إسرائيل. من الواضح أنه في التاريخ اللبناني المعاصر كانت الحكومة الأميركيّة تمنع الحكومة اللبنانيّة—في معظم الأحيان—من تقديم شكاوى ضد إسرائيل في مجلس الأمن (ويسري ذلك على كل العهود باستثناء عهد إميل لحّود، الذي لم يسبقه عهد ولم يخلفه عهد في رفض إسرائيل ودعم المقاومة بالمبدأ). فؤاد بطرس أخبر سلام أن «المصلحة تقتضي أن يقف (الأمر) عند حدّ تبادل الرأي مع الأميركان والإنكليز». ويذكر صائب في معرض الحديث عن تلك الأيام زيارة له من قبل سيسيل حوراني (ص. ٨٣٦، ج٢) لكنه لا يذكر أن حوراني هذا كان يكتب رسائل بشير الجميّل للإدارة الأميركيّة وأنه كان من مناصري سعد حدّاد في الجنوب. وتمنُّع سركيس وبطرس عن تقديم شكوى يدخل في نطاق رهانهم على الدور الإسرائيلي في لبنان. يروي جورج فريحة وغيره كيف أن سركيس وبطرس وفريق الحكم بكوا فرحاً عندما أبلغهم بشير الجميّل بخبر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف ١٩٨٢—قبل حدوثه. رئيس لبناني ووزير خارجيّة (يُقال عنه إنه كان رجل دولة) يبكيان فرحاً لخبر اجتياح إسرائيل للبنان.
ويتحدّث سلام عن اجتماع مشترك بين «التجمّع الإسلامي» (الإسلام التقليدي السنّي) و«جبهة المحافظة على الجنوب» (الإسلام التقليدي الشيعي) ويقول في هذا الصدد إن الشيعة بدوا «متطرّفين ضد الفلسطينيّين» (ص. ٨٣٧، ج٢). وحالة دعم المقاومة وفلسطين عند أكثريّة الشيعة اليوم تختلف عن واقع أهواء الشيعة في ذلك الحين. أهواء الطوائف، وحتى وطنيّة الطوائف، تتغيّر على مرّ الأزمان ولا يمكن الاعتماد على العامل الطائفي في أي موقف سياسي. وعملَ زعماء الشيعة في الإسلام التقليدي وحركة «أمل» على تأليب الشيعة ضد الشعب الفلسطيني (من خلال نغمة «التوطين» الممجوجة) وبنبرة عنصريّة لا تختلف البتّة عن عنصريّة القوى الانعزالية ضد الشعب الفلسطيني. ويقول صائب إنه شعر «باشتداد الضغط الشيعي (عليه؟) من أجل الوقوف مع الموارنة صفاً واحداً، في قضيّة فتح الملفّ الفلسطيني في المجلس النيابي».
ويرد في اليوميّات إشارة إلى المثقّف المعروف رضوان السيّد، إذ يقول صائب: «أبلغني تمّام عن لسان رضوان السيّد الذي يبدو أنه أصبح صديقاً لمحمد غانم، وبصورة أقرب إلى السكرتير» (ص. ٨٧٥، ج٢). ثم يعيد ويصفه بـ«السكرتير» لمحمد غانم، الذي قاد المخابرات السوريّة في لبنان قبل زمن غازي كنعان. ثم يعود صائب ليذكر رضوان السيّد في معرض الحديث عن «معهد الإنماء العربي» (ص، ١٠٠٠، ج٢)، الذي أسّسه القذّافي في لبنان. ثم يعود السيّد ويصبح قريباً من صائب بعد اندثار الحركة الوطنيّة (ص. ١٢٨٨، ج٣). ثم انتقل رضوان إلى العمل مع رفيق الحريري وانتقل من التحالف مع النظام السوري والإيراني (والسفر إلى طهران) للتحالف مع النظام السعودي والإماراتي حيث نال منهما التكريم والتقدير (حتى إن رؤساء الحكومات السابقين عندما حاولوا طلب موعد دقائق معدودة مع الملك سلمان قبل بضع سنوات لم يوفّقوا في مسعاهم إلى أن رتّب لهم رضوان السيّد الموعد في صيف ٢٠١٩، وجاؤوا إلى لبنان كي يؤكدوا أن الملك سلمان حريص على لبنان، ثم زاد انهيار لبنان انهياراً). لكن هذه التقلّبات في المواقف بين المثقّفين اللبنانيّين والخضوع للقوى والأنظمة المتنفّذة تطرح علامات استفهام كثيرة عن دور المثقّف الذي لا يمتنع عن تقديم خدماته ومواقفه مقابل عطاءات ماديّة. وهذا التنقّل بين المعسكرات والأنظمة يقضي على مصداقيّة المثقّف. أذكر في ساعة متأخرة من الليل، عندما قرّرت السعودية والإمارات إعلان الحصار والحرب على قطر في ٢٠١٧ أنهم استعانوا بكاتبيْن لبنانيّيْن، رضوان السيّد وغسان شربل، ونطقا من على شاشة «العربيّة» بالموقف السعودي - الإماراتي المُستجدّ عن مؤامرة خطيرة تنسجها قطر. وعندما تصالحت السعوديّة مع قطر، تصالح الرجلان ولم يعد يصدر عنهما كلمة نقد ضد قطر. ليس من المستغرب ألا يعقد الشباب العربي أي آمال على المثقّفين، وخصوصاً أن المثقّفين والإعلاميّين والفنانين اللبنانيّين (مع استثناءات جدّ قليلة) هم أمّة واحدة، في حاشية أمراء وشيوخ الخليج. المثقّف العضوي الذي تحدّث عنه غرامشي وإدوار سعيد غير موجود في حاشية الأمراء والشيوخ في بلادنا.
(يتبع)
ملاحظة: ورد في العدد الماضي إشارة إلى اعتقال السلطات اللبنانيّة لغسان كنفاني في عام ١٩٧٢. الصحيح أن ذلك حدث في نوفمبر ١٩٧١.
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@