تتلخص فكرة مشروع «تحرير الشرق»، كما ورد في كتابنا «تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية»، في أن «المصالح الاستراتيجية العليا لشعوب الشرق واحدة، يقررها أساساً ثبات الجيواستراتيجيا التي لا فكاك منها، وتقترح مشروعاً ثقافياً يشمل شعوب الشرق، ويهدف إلى خلق حالة من الوعي الاستراتيجي بهذه المصالح وطرق تحقيقها، حالة تعيد توطين فكرة الوحدة، وتصنع الهوية «الواعية» الجامعة لكل مكونات شعوب المنطقة».ينطلق المشروع من أن الحالة الاستعمارية الغربية التي خضعت لها شعوب الشرق بقيت على شكل نظام للهيمنة له أدواته السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. نظام الهيمنة هذا بدا أكثر وضوحاً بعد الحرب في أوكرانيا، حيث تستخدم أميركا والغرب كل تلك الأدوات وصولاً إلى التهديد بالحرب النووية من أجل الإبقاء على نظام «القطب الواحد» المتحكم بشكل أو بآخر بالبشرية وفي مقدمتها شعوب منطقتنا.
كما تؤمن الفكرة، أن تحرّر شعوب الشرق الحقيقي من نظام الهيمنة هذا لا يتم إلا بشكل جماعي، فالحديث عن تطور «مستقل» لأية دولة بمفردها في المنطقة ليس إلا شكلاً من تغييب الواقع، الذي لا يؤدي إلا إلى الإمعان في التبعية للغرب الإمبريالي. هذا يؤكد ضرورة وعي هذه الشعوب بأهمية تقاربها وتكاملها ووحدة مصيرها.
ومن أجل أن تكتمل صورة الموقف من «الربيع العربي» في علاقته بـ«مشروع الشرق»، لا بد من تبيان موقف هذا المشروع من مسألتين في غاية الأهمية؛ الدولة والقضية الفلسطينية. فالدولة الحديثة في منطقتنا نشأت، أو أنشئت، في ظروف ملتبسة وضعتها في مواجهة «الأمة» ودفعتها لكي تكون جزءاً من أدوات الهيمنة الغربية على المنطقة. فالدولة في منطقتنا إجمالاً لم تكن عقداً اجتماعياً بين الحكام والشعوب بقدر ما كانت عقداً «أمنياً» بين الحكام والمستعمرين «السابقين».
وهي، بحكم عوامل معقدة، أبرزها الصراع بين الهوية التاريخية الجامعة والهوية الفرعية الطارئة في وضع غير ثابت، تذهب بها تلك العوامل أحياناً إلى الانقسام والتشظّي، وأحياناً أخرى إلى التقارب والتكامل مع محيطها. فالدولة، بشكلها الحالي، هي حالة متقدمة على دويلات محتملة لكنها ليست كذلك في حالة انفتاح الأفق نحو الهوية الأكبر.
أمّا فلسطين، فهي للشرق عماد مشروعه وجوهر هويته وعنوان تحرره. إنها، ولأسباب جيواستراتيجية، قضيته المركزية دون انتقاص من أهمية كل القضايا الأخرى في المنطقة. إن هذا يعني أن الموقف من قضية فلسطين يقرر الموقف من تحرر الشرق، ومن يقبل ببقاء فلسطين محتلة إنما يلغي أية إمكانية لاستقلال حقيقي للشرق ويقبل به مفتتاً وتابعاً ومهيمناً عليه.
أمّا في ما يتعلّق بالغرب، فـ«مشروع الشرق» ينطلق من أن المشروع الإمبريالي الغربي للهيمنة على الشرق، وربما على بقية العالم وإن بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، لم ينته بعد. لذلك، فإن مرور أحداث عاصفة بالشرق، كتلك التي أحدثها «الربيع العربي»، بغض النظر إن كان للغرب مساهمة ما في انطلاقتها أم لم يكن، من المستحيل أن لا يحاول الغرب التدخل في هذه الأحداث، ومحاولة استثمارها وتوجيهها لصالحه. هذا ليس فقط ما يقوله منطق الأشياء، ولكن تصريحات قادة وسياسيين غربيين، وأقوال غونداليزا رايس حول موضوع الفوضى الخلاقة، وطبيعة ما جرى من أحداث، وما وصلت إليه الأمور في بلدان «الربيع»، هي دليل شديد الوضوح على ذلك.

منطلقات «الربيع العربي»
تتحدّث الكثير من الأدبيات عن الانطلاقة «العفوية» لـ«الربيع العربي»، لكن واقع الحال يشير إلى أن الشعوب العربية قد صبرت كثيراً قبل أن تقوم برد فعلها على الأوضاع التي كانت تعيشها، سياسية كانت أو اقتصادية وحتى ثقافية ونفسية.
اقتصادياً، عانت فئات كثيرة في البلدان العربية من أوضاع مزرية. فهناك الفقر الذي يطال شرائح كبيرة من المجتمعات العربية، وهناك أعداد هائلة من العاطلين عن العمل، خاصة من الشباب وخريجي الجامعات، إضافة إلى سوء توزيع الثروة الذي عمّق الفوارق الطبقية بين الناس.
سياسياً، استمر فقدان الثقة بين الأنظمة وشعوبها. بل إن الأنظمة تكاد لا تشعر بأية قيمة أو وجود لتلك الشعوب. بقي بقاء الأنظمة في معظم دول المنطقة «عقداً» بين الحاكم والقوى الغربية وليس عقداً مع شعوبها، فاستمر الاستبداد، باستثناء ما ندر من خطوات شكلانية نحو الديموقراطية تمثّلت عادة في إجراء انتخابات أكثر شكلانية، وبدت تلك الانتخابات وكأنها استجابة لإرادة غربية أكثر منها استجابة للشعب، ما عمّق الأزمة وزاد من المهانة الفردية والجماعية.
لقد شعرت فئات كبيرة من الطبقة الوسطى في البلدان العربية بإهانة مزدوجة، ليس فقط من الطريقة التي تعاملت بها الأنظمة مع شعوبها، بل أيضاً من الطريقة التي تعامل بها الغرب مع حكامها، إضافة إلى موقف الغرب العنصري من قضايا الأمة ومن احتقار لقيمها. بالعادة كانت الشعوب تصبر على «إهانتها» عندما يكون ذلك وكأنه «بحجة» الدفاع عن القضايا الوطنية، لكن ذلك لن يدوم طويلاً في ظل التخلي الواضح عن تلك القضايا.
وما عمّق الأزمة السياسية في المنطقة أن المعارضة عانت من الضعف الشديد، فتم تدجينها فبدت جزءاً من النظام أو مدافعاً عنه. عملياً، لم يبق من المعارضة فاعلاً إلا أحزاب الإسلام السياسي التي تصارعت على الحكم مع العسكر، أو اتفقت معهم في بعض الأحيان.
اجتمعت حاجة الفقراء إلى «الخبز»، وحاجة بعض المثقفين للحرية، وبعضهم الآخر للحرية والكرامة الوطنية، ورغبة المعارضة المنظمة شبه الوحيدة (الإخوان المسلمون) في الحكم، فكان «الربيع العربي».

ملابسات «الربيع العربي»
ابتدأ «الربيع» في تونس كما هو معروف. كان تضامن الشعوب العربية مع المنتفضين التونسيين عارماً. لفتت الانتباه سرعة تأثّر المحيط العربي بما يجري، وسرعة استجابة ذلك المحيط. هذا يثير تساؤلاً كبيراً حول قدرة عشرات السنين من الفرقة بين الأنظمة العربية في إحداث انفصال فعلي بين الشعوب. من هنا تبدو الدعوة لتقارب شعوب المنطقة وتكاتفها أقل «طوباوية» مما يعتقد.
كان الحدث أشبه بانفجار اجتماعي وقع دون ترتيب، بلا قيادة، وبلا موجّه، على الأقل في البدايات. كان الشعار الأول والأساس «إسقاط النظام». لم تفكّر الجماهير المنتفضة كثيراً في ما سيلي إسقاط النظام. إسقاط الأنظمة كان كافياً لها لتكون راضية.
غياب النخب القائدة عن الحراك الشعبي أتاح الفرصة للقوى الخارجية، الإقليمية والدولية، للتدخل، سواء بشكل مادي عسكري أو أمني، أو من خلال القوى الناعمة خاصة الإعلام. هنا اختلط الأمر، فالشعارات الأولى للحراك طالبت بالخبز والحرية والكرامة، ورفعت أعلام فلسطين، ثم ذهبت باتجاه الطائفية وتحميل فلسطين وتأييدها المسؤولية عن الأوضاع.
منطلقات جماهيرية ثورية توحّد الجميع، ثم حركة استدارة باتجاه الانقسام والطائفية والفوضى (الخلاقة أو غيرها)... اثنان في واحد، ثورة وفوضى، ثم فوضى وثورة. خفت صوت الثوار السلميين وبرز صوت السلاح والقتل الطائفي. اختفى صوت المثقفين العقلانيين الديموقراطيين الحقيقيين الحريصين على مصير شعوبهم وبرز صوت المثقفين «المعولمين» المستدعين للطائفية والانقسام والتدخل الخارجي. وتبلور الصراع الذي بدأ بين الجماهير ومضطهديها ليكون بين القوتين الأكثر بروزاً في معظم دول المنطقة، «الإخوان المسلمون» والعسكر، وكل منهما بالطبع له حلفاؤه وداعموه والمستفيدون من دعمه إقليمياً ودولياً، وإضافة إلى هؤلاء وجد المستفيد من استمرار الصراع، وهو الذي يهمه في النهاية تدمير الدول وتدمير المجتمعات من الأساس.

«الربيع» بـ«ميزان الشرق»
إيجاباً، استعادت الجماهير في المنطقة جزءاً من إرادتها، وأعادت ثقتها بنفسها، وأثبتت قدرتها على التحرك. واستعادت تلك الجماهير، ولو مؤقتاً، جزءاً كبيراً من حريتها في بعض البلدان (تونس مثلاً)، وخطَت، ولو بتحفظ وبكثير من القلق، خطوات باتجاه بعض مظاهر الديموقراطية (تونس ومصر). تحقق ذلك في الفترات الأولى من الحراك، لكن الأمر سرعان ما أخذ في التغيّر. تطوّر الأحداث قاد إلى وضع اقتصادي أكثر سوءاً، وإلى ضحايا بأعداد فاقت التصور، ولاجئين بالملايين، وإحداث شروخ في بنية المجتمعات، وبقاء للأنظمة رغم تغيير رؤوسها في بعض البلدان.
على مستوى الدولة، وبعكس ما يطمح «مشروع الشرق» لدفعها نحو مزيد من الاستقلال وللاقتراب من مشروع الدولة الأمة بتقارب شعوبها وتعميق وعيها الوحدوي، تراجعت إلى الانقسام، وساد الفكر التقسيمي الطائفي والجهوي، وذهبت إلى مزيد من التبعية للغرب، وذهب بعضها للالتحاق بالمشروع الصهيوني من خلال التطبيع.
بدل أن يذهب «الربيع» بدول وشعوب المنطقة إلى التحرر من الاستعمار، وصلت إلى التحلل من الالتزام بمواجهته. وبدل أن يستمر تنامي دور الجماهير، انتكس ذلك الدور من خلال العسكرة وتحول الحراك إلى حروب بالوكالة، لتصبح الشعوب أكثر قابلية للعبث بها وبمصيرها.
في سياق تطور الأحداث ضاع منطق الثورة. اختفى المثقفون الثوريون الوطنيون، وذهبت الأمور باتجاه أصولية ظلامية تمثّلت بـ«داعش» ومثيلاتها، وعولمة ليست قضايا الأمة الكبرى جزءاً من أجندتها، إن لم يكن التخلي عن تلك القضايا جوهر تلك الأجندة.
ورغم بروز القضية الفلسطينية كشعار أساسي في بدايات «الربيع»، وقلق إسرائيل الكبير في تلك البدايات، فإن التطبيع الذي جرى بعد ذلك بين بعض الدول العربية وبين إسرائيل مثّل تتويجاً لرضوخ تلك الأنظمة للإرادة الغربية (السودان مثلاً).
انطلق التطبيع من أن المشكلة مع إسرائيل وهمية بالأساس، وإذا كان هناك من مشكلة فهي من «اختراع» الفلسطينيين، حيث الضحية مسؤولة عن وجود قاتلها. وأصبح الحل في أن ترى كل دولة مصلحتها وتذهب باتجاهها، ويبدو أن الذهاب باتجاه إسرائيل هو «الأجدى» وهو «الأسهل» وهو في النهاية «قرار سيادي».
الشرق بحاجة إلى «ربيع» حقيقي، ربيع يخرج الشعوب من حالة الاستعباد ويضعها على سكة التحرر والوحدة والتطور المستقل، وليس ربيعاً يفكك دولها، ويلحقها بمشاريع أعدائها.
*أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله