نقرأ منذ مدة مجموعة من الكتابات السياسية ذات التوجه الوطني اليساري، الهادفة إلى معالجة قضايا العمل الوطني في لبنان بحثاً عن إيجاد نظرية سياسية مناسبة وبرنامج عمل صالح. ذلك بعد أن تعرّض هذا العمل الوطني اليساري لنكسات كبيرة لأسباب ذاتية وموضوعية، كان أهمها انهيار الاتحاد السوفياتي وانكشاف قوى اليسار على المستوى العالمي بعد انهيار المنظومة الأمنية التي حكمت العلاقات بين القطبين العالميين اللذيْن تسيّدا النفوذ في العالم خلال مرحلة الحرب الباردة. إضافة إلى انهيار البنى النظرية التي كان قائماً عليها المشروع الفكري لهذا اليسار. وقد ترافق هذا الوضع المستجد على المستوى العالمي مع صعود الإسلام السياسي الذي نافس اليسار على أرض المعارضة في كثير من البلدان العربية والإسلامية، وحمل راية المقاومة المسلحة ضد التغول الغربي الإسرائيلي على شعوب منطقتنا الجيوسياسية من أفغانستان حتى شواطئ البحر المتوسط وشمال أفريقيا، في مرحلة شديدة الخطورة سمحت لجزء وازن من هذا الإسلام السياسي إثبات جدارته والبروز في مشروعه كندّ حقيقي للمشروع الغربي الذي ظن أن الساحة قد خلت له. وقد استعارت هذه الموجة من الإسلام السياسي، خاصة في بداياتها، الكثير من الأدبيات وأدوات التحليل اليساري، واستقطبت الكثير من كوادر هذا اليسار. ثم تعرّض اليسار لضربة قاصمة مع سيادة القطب الأميركي الأوحد بنظرياته العولمية الليبرالية التي مثّلها في لبنان صعود نجم الرئيس الشهيد رفيق الحريري بما يمثله من مشروع سياسي واقتصادي متشابك مع تيار قوي في العالم العربي يمتلك الكثير من النفوذ والإمكانات المالية، لتشكّل هذه الموجة الليبرالية نقطة استقطاب لكثير من المفكرين والمنظّرين والكوادر الذين صُدموا بانهيار أبنيتهم النظرية وأحبوا تصديق حكاية نهاية التاريخ فالتحقوا بالركب المنتصر.من خلال قراءة ما تم نشره أخيراً، تكتشف نوايا طيبة ومخلصة لدى مجموعة من المناضلين الذين يبحثون، بشكل أو بآخر، عن سراب عمل يساري تقهقر بأحزابه العريقة التي لعبت خلال مراحل سابقة أدواراً مهمة، إن على المستوى النقابي والمطلبي أو على مستوى الموقف الوطني والمشاركة في الصراع ضد الغزو الأجنبي، رغم ما اكتنف سياساتها من قضايا تستوجب دائماً إعادة البحث والنقاش. وسأحاول في هذه المقالة طرح مجموعة من التساؤلات التي لا يمكن القفز عنها فيما لو أراد أيّ من هؤلاء المخلصين طرح فكرة ترميم دور يساري في المرحلة المقبلة.

1- مركزية القضية الوطنية
أهم ما تجب إعادة تقييمه هو الفهم اليساري التقليدي لقضية النضال الوطني، ولإظهار ما أقصد في ذلك سأروي حكاية حصلت معي شخصياً عام 1972 إبّان اجتياح إسرائيلي محدود ومؤقّت شهدته بعض مناطق الجنوب في 16 أيلول من ذلك العام. وكنا مع مجموعة من الأصدقاء في إحدى المنظمات اليسارية اللبنانية، حاولنا، بدافع الشعور الوطني، أن نبحث عن دور في مواجهة العدوان، فقيل لنا من قبل قيادة هذا التنظيم إن هذا الموضوع من اختصاص الفلسطينيين ونحن لا يجب أن نضيع تركيزنا عن مشروع تغيير النظام في لبنان. هذا التنظيم قاتل في ما بعد في الجنوب وقدّم العديد من الشهداء، لكن عينه، كما أعين كل اليسار، كانت دائماً على السلطة. أعتقد أن من غير الممكن إطلاق أي حركة سياسية لبنانية لتلعب دوراً في الحياة السياسية دون قراءة دقيقة للوجود الإسرائيلي ودون تقديم فهم واضح لهذا الكيان ودوره من خلال منظومة الهيمنة الأميركية، ومن دون طرح السؤال بشكل مباشر: هل يمكن إحداث تغيير حقيقي في بنى النظام اللبناني وإجراء إصلاحات جذرية تطاول الدور السياسي والاقتصادي لهذا الكيان بمؤسساته ودولته العميقة وعلاقاته الإقليمية والدولية دون الصدام مع هذا الكيان الصهيوني ونظام الهيمنة الأميركية والغربية العامل في خدمته، وذلك من خلال دراسة تجربة العلاقة الصدامية معه منذ التخطيط لإقامته على يد المستعمر حتى اليوم.

2- مسألة الكيان اللبناني ودوره وعلاقته بالأمّة
لاحظت، من خلال ما تيسّر لي قراءته من مقالات، أن العلاقة بين لبنان والأمة ما زالت محكومة بالموقف اليساري التقليدي المتحفظ على قضايا القومية العربية والإسلام، باعتبارها تنتمي إلى نسق الأفكار الرجعية، بالرغم ممّا قدّمته فكرة الانتماء القومي العربي من مميزات للحركة الوطنية العربية، بما في ذلك اللبنانية، في مرحلة الناصرية، والإنجازات المشرقة التي تحقّقت على الأرض على امتداد الأمة، متمثلة بإحياء الشخصية الوطنية، وتمسكها بالاستقلال الوطني، وإبقاء جذوة الصراع متّقدة خلال أكثر من عشرين عاماً تحقق خلالها استقلال الجزائر وإطلاق الثورة الفلسطينية المسلّحة وبناء الجمهورية العربية المتحدة، بوزنها القومي وفي داخل عالم الجنوب وبلدان عدم الانحياز، وإجبار دول الاستعمار والهيمنة على خوض عدة حروب لمحاولة تطويع هذه الإرادة الشعبية الوطنية دون جدوى.
إضافة إلى ذلك، ما أبرزه الإسلام من إمكانات على مستوى القضية الهوياتية، حيث استطاع جزء وازن منه تقديم هوية مستقلة للمنطقة غير خاضعة لنظام الهيمنة الثقافي الغربي، فأشعل الأرض تحت أقدام الغزاة والمحتلين وشكّل لحمة واسعة بين أبناء المنطقة تكاد تنهي مفاعيل سايكس بيكو وحدوده الظالمة والتعسفية، وكذلك مفاعيل وعد بلفور، وتبني على أنقاضها نظاماً تشابكياً يجمع أبناء المنطقة كشركاء في صناعة مستقبلهم دون التعرّض للكيانات.
إن التداخل الكبير بين تاريخ وجغرافيا واجتماع الوطن اللبناني مع الأمة العربية الإسلامية ليس من النوع الذي يمكن غضّ الطرف عنه وعدم أخذه في الحسبان عند تقديم أي مشروع نضالي وطني في لبنان، خاصة ونحن نواجه عالماً جديداً بتشكيلاته السياسية وموازين القوى فيه. وحين نريد بحث قضايا مستقبل شعوبنا وبلادنا وأجيالنا المقبلة هل يجوز أن نحرمها هذا الأفق المترامي وهذا السوق الواسع وهذه القدرات البشرية والمادية والتاريخ الحضاري المشترك؟

3- موضوعة الداخل والخارج
أظن أنه تجب إعادة نقاش قضايا من نوع هل فلسطين والشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية هم داخل أم خارج بالنسبة إلى لبنان وإلى أي عمل سياسي فيه، إن كان سلطة أو معارضة؟ هل بالإمكان تخطي موضوع المواجهة مع العدو الصهيوني في حال تطور النضال الفلسطيني لمراحل أكثر حسماً على سبيل المثال؟ وهل سوريا، الباحثة عن أمنها الإقليمي والمتداخلة اقتصادياً واجتماعياً مع لبنان وتشكّل رئته الوحيدة للتنفس، هل هي داخل أم خارج؟ وهل مصر في زمن عبد الناصر كانت داخلاً أم خارجاً. وهل المملكة السعودية في عهد الحريري داخل أم خارج؟. وهل الجمهورية الإسلامية في إيران، ضمن استراتيجيتها لدعم شعوب المنطقة للتخلص من الاحتلال والهيمنة ومن خلال مشروعها النهضوي والوحدوي المتمثل بمحور المقاومة، هل هي داخل أم خارج؟ وبالتالي، هل يمكن بناء مشاريع سياسية دون حسم خيارات العلاقة مع هذه البلدان، وغيرها أيضاً، وفهم تأثيرها في مجرى الحياة السياسية على هذا الساحل الصغير من شرقي البحر المتوسط.

4- الموضوع الطائفي
لا نلحظ في الكتابات اليسارية الحديثة أي التفات إلى ضرورة إعادة دراسة المسألة الطائفية بشكل أكثر عقلانية وعمقاً، وبعيداً عن القوالب الجامدة التي بدا فيها اليسار كأنه منافس للطوائف ولمعتقدات أهلها. فهو متوجّس منها، ومتوجّس من البحث فيها، رغم اتكائه عليها في كثير من المراحل، إن كان خلال قيادة المرحوم كمال جنبلاط، الزعيم الاشتراكي الدرزي، أو قبلها من خلال نظرية الشين-شين، أي الشيعي-الشيوعي، قبل بروز قوى سياسية تمثل الشيعية السياسية في النظام اللبناني، أو بشكل سلبي من خلال تمركز الأقليات الطائفية داخل الأحزاب اليسارية وابتعاد السنة عنها لأسباب تاريخية ترتبط بعلاقة السنة بدولة الخلافة العثمانية.
إن المسألة الطائفية، كما المسألة العشائرية والقومية والجهوية، هي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يلجأ إليها الناس لتنظيم أمور معاشهم في غياب أشكال أخرى من التنظيم غير المتاح تاريخياً، وبغياب دول قوية قادرة عبر مؤسساتها على تحقيق ما يصبو إليه المواطن. إن المسألة الطائفية في بلادنا عميقة الجذور في البنيان الاجتماعي للناس الذين تجمّعوا داخل حدود هذا الكيان على غير موعد، ويتطلّب التعامل معهم بهدوء لا يجعل منهم عصبية معادية كما اعتاد اليسار تقليدياً على الاقتراب من موضوعاتها بسلبية منفرة، وعملياً يتحول بدوره إلى طائفة جديدة تنافس الطوائف الأخرى على مستوى التمثيل السياسي كما على مستوى الحقوق المدنية.
ولو توسّعنا في دراسة موضوع الطائفية على ضوء النقاط السابقة المتعلقة بترابط الطوائف في المنطقة وتداخل قضاياها واتجاهاتها السياسية وأمزجتها على امتداد الأمة وتبادل التأثير بين الداخل والخارج، لأمكننا أن نطرح سؤالاً أكثر عمقاً هو: هل أداة سياسية وتنظيمية لبنانية تستطيع التعامل مع الموضوع الطائفي الممتد عبر الحدود لأكثر من إقليم وتعتبر هذه الطوائف نفسها أكبر من الدول الوطنية والأقاليم؟ إنه سؤال يستحسن الالتفات إليه ومحاولة الإجابة عنه دون شك.

خاتمة
إن تشكيل إطار للعمل الوطني اللبناني خارج القيد الطائفي هو قضية مهمة وملحّة وذات قيمة إضافية للعمل السياسي في هذه اللحظات المصيرية من تاريخ بلادنا ومنطقتنا، ولكن من الواجب قبل ذلك الإجابة على مجموعة من الأسئلة، كهذه الأسئلة وغيرها، التي ترتكز على الخبرة التاريخية لتجربة العمل الوطني خلال المرحلة الماضية، وهي مسألة في غاية الأهمية للخروج بمولود سليم وقادر على مواجهة الحياة السياسية بجدارة.

* كاتب لبناني