السؤال الشهير للأنتلجنسيا الروسية زمن القيصرية يصبح، شيئاً فشيئاً، السؤال الرئيسي لليسار اللبناني الذي يحاول أن يجد لنفسه دوراً سياسياً يتميّز به عن الممارسة السياسية لحزب الله. لكن لليسار اليوم في العالم مواقف ملتبسة لدرجة أنه بتنا نجد صعوبة في تمييز مواقفه عن مواقف اليمين. ومع ذلك، نفترض أنّ اليسار في لبنان، الذي نحن بصدد تحليل بعض مواقفه، هو يسار داعم للمقاومة، وتحديداً الإسلامية. واليسار هذا، العروبي والقومي والشيوعي، له ما يميّزه في نشأته عن نشأة المقاومة الإسلامية. فهو خاض المقاومة المسلحة بعد تاريخ طويل من النضالات المطلبية، بينما المقاومة الإسلامية وجدت نفسها مضطرة ومطالبة اليوم بإيجاد الحلول الاقتصادية وهي في ذروة خوضها لحربها التحريرية. ولعله هنا بالتحديد، تكمن لحظة اختلاف المواقف السياسية بينهما، خاصة بعد انحسار دور اليسار اللبناني نتيجة تأثر بنيته الداخلية، العقائدية والتنظيمية، بانهيار المنظومة الاشتراكية العالمية التي أدّت لاحقاً إلى توقف مشاركته في أعمال المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي. في حين أن المقاومة الإسلامية وجدت في العاملين الإيراني والسوري خير حليف استراتيجي مكّنها من متابعة مسيرة المقاومة والوصول بها إلى ما هي عليه الآن.
ومع اشتداد صراع المقاومة مع الإمبريالية الأميركية وصنيعتها إسرائيل، كانت تبرز أكثر فأكثر مسألة ترابط تحرير الأرض مع التحرر من النظام السياسي اللبناني، الذي بات واضحاً أن هذا النظام كله، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ما هو إلا أداة في يد أميركا تستكمل من خلاله حربها على المقاومة وعلى كل البيئات «المختلفة» الحاضنة لها.
هكذا يصبح الموقف من النظام السياسي في لبنان جزءاً من المعركة التحررية ويُطرح من قبل القوى اليسارية تحديداً، لأنها ترى فيه أكثر من غيرها إمكانية عودتها ومساهمتها في الصراع السياسي القائم. ولكنّ الأعمال بالنيات، فإذا كانت صادقة يصبح الموقف من النظام حتى لو كان غير صائب، قيمة زائدة ومساهمة مرحباً بها. أمّا إذا كانت لدى اليسار نيات خبيثة، فيصبح هذا الموقف جزءاً من أدوات الإمبريالية في صراعها مع المقاومة. ونرى هذا بوضوح حين تُحمّل المقاومة الإسلامية مسؤولية الأزمة الاقتصادية والمالية بحجة أنها هي التي تحمي الطبقة السياسية الفاسدة (التي هي أداة أميركا في لبنان) بتحالفها معها، وأيضاً حين يصبح سلاحها حامياً للنظام الطائفي، لا لشيء فقط لأن لهذه المقاومة عقيدة إسلامية.
وعند الحديث عن المقاومة الإسلامية، لا يمكننا إلا الاستغراب والتعجب متسائلين: كيف كان لهذه المقاومة أن تتطور في ظل هكذا نظام سياسي رجعي وبيئة غير مشجّعة على الإطلاق لأي عمل مقاوم؟ المقاومة الوطنية كانت امتداداً لعمل المقاومة الفلسطينية وللحركة الوطنية إبان الحرب الأهلية. أي أنها كانت متحررة من سلطة الدولة عليها التي كانت معدومة في تلك الفترة الزمنية. أمّا المقاومة الإسلامية، فهي نشأت بعد مغادرة المقاومة الفلسطينية لبنان وتطورت في ظل دستور الطائف الذي أرسى دعائم الدولة الطائفية. لكن رغم كل هذا، استطاعت المقاومة الإسلامية، وعلى أكمل وجه، الاستفادة من الامتيازات التي يضمنها لها النظام الطائفي اللبناني وتكيّفت معه، خاصة في فترة ما بعد الانسحاب السوري، لتحمي ولتطور نفسها بثبات وبصمت. وما تحالف «الثنائي الشيعي» إلا الإطار الأمثل المُجَسد لـ«الميثاقية» التي تعزز من خلالها المقاومة الإسلامية حمايتها السياسية. فأي إضعاف لهذا التحالف الثنائي هو إضعاف لوجود المقاومة ضمن النظام السياسي الحالي. والمفارقة اليوم، أن أعداء المقاومة في الخارج والداخل باتوا على قناعة أن هذا النظام الطائفي الذي كان دائماً يلعب الدور الكابح لأي تطور سياسي واقتصادي للبنان أصبح غير قادر، بسبب هذه «الميثاقية»، على أن يضع حداً لتطور أهم مقاومة للاستعمار الغربي عرفها العالم أخيراً.
لذلك يتجنّب حزب الله، الذي يعي تماماً أولويته في المعركة، الدخولَ في أي نزاع من شأنه أن يضعف تحالفه مع شريكه الشيعي، أو حتى مع حلفائه في الطوائف الأخرى، لأنه يعتبر أن مشاكل لبنان هي بسبب وجود الكيان الإسرائيلي، وأن القضاء على هذا الوجود من شأنه أن يسهّل حل مشاكل النظام اللبناني دون التسبب بحروب أهلية داخلية تعمّق الشرخ بين اللبنانيين وتخدم العدو الحقيقي للأمة. لا شيء في التاريخ يشبه هذه المقاومة. وحتى تجربة المقاومة الفلسطينية تبدو بالمقارنة نقيضة لها. فطريق تحرير القدس لا يمر بجونيه، كما كان يردد أبو اياد، بل هو طريق مباشر يتجنب التناحر الداخلي، ولا يرى إلا وحدة الهدف. مقاومة متكيفة مع كل الظروف، حتى لو تخلت عنها كل البيئات الحاضنة، وحوصرت من كل الأنظمة المالية والاقتصادية، فهي لن تنال إلا من العدو الإسرائيلي. أمّا في ما يتعلق بالقوى اليسارية، فالمشهد يبدو مختلفاً قليلاً. فكون هذه القوى تتخذ من الصراع الطبقي إيديولوجية لها (وهذا في حد ذاته شيء إيجابي)، نجدها تصوب دائماً على الطبقة السياسية الحاكمة وتربط بين تحرير الأرض من العدو الخارجي وتحرير المجتمع من العدو الداخلي المتمثل بالطبقة البرجوازية الفاسدة. وبعض اليسار يذهب إلى اتهام حزب الله بحماية عدوه الداخلي هذا دون أن يقدّم أية إجابة منطقية أو دلالة «طبقية» لماذا حزب الله يحمي هذه الطبقة؟ فهل مثلاً تشكل البرجوازية أو الطغمة المالية مكوّناً أساسياً في الحزب؟ وهل حزب الله حزب يميني أم يساري؟ طبعاً، هكذا أسئلة تربك اليسار وتجعله حائراً وتضع السائل أمام استنتاج أن اليسار اللبناني لا يملك أي مبرر في نقده لحزب الله لحمايته الطبقة الفاسدة سوى لسبب أن حزب الله لا يسير حسب رغبات وأجندة هذا اليسار. علماً أن هذه الأجندة المستمرة لعشرات السنين لم نرَ أنها حققت الإنجازات التي يُعتز بها. لا بل لا نجد عند هذا اليسار سوى تكرار الشعارات والمسيرات الموسمية التي أصبحت تثير الملل. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أن هذا اليسار بات عليه أن يعيد قراءة الواقع كما هو عليه، لا كما يحلو له أن يراه. كما عليه أن يعترف أن مشكلته ليست في ضعف إمكاناته، بل في ضعف بصيرته.
‎هناك دائماً التباس في فهم العلاقة بين الاقتصادي والسياسي في التبعية. فاليساريون في لبنان، على ما يبدو، ينظرون إلى التبعية من المنظار الاقتصادي فقط


فإذا أخذنا شعار اليسار المفضل -خاصة عند «الشيوعي الرسمي»- «إسقاط النظام الطائفي»، لوجدنا أن أدبيات هذا الحزب شكّلت المساهمة الكبرى في تحليل ظاهرة الطائفية في لبنان، وخلُصت إلى اعتبارها الوسيلة التي تمارس من خلالها البرجوازية اللبنانية سيطرتها السياسية، وأن الطائفية هذه ملازمة للبرجوازية التابعة، أي أن هناك استحالة في إسقاطها دون إسقاط النظام الرأسمالي نفسه. علماً أن المشاكل التي يعاني منها لبنان تعاني منها دول كثيرة أخرى لا وجود فيها للطائفية. وبالتالي هذه المشاكل مرشحة للاستمرار حتى لو ألغيت الطائفية. فالمشكلة الحقيقية تكمن في نظام المحاصصة المُنتَهك للقوانين العامة ‏والذي يأخذ من الطائفية شكلاً تاريخياً لسيطرته، لأن البرجوازية اللبنانية قادرة على إيجاد أشكال أخرى تؤَمن من خلالها هذه المحاصصة. إذاً، الطائفية ليست في هذه المرحلة سوى أداة وسلاح تستعمله هذه البرجوازية في مواجهة معارضيها، مدعية هي أيضاً أنها تريد إصلاح النظام لكنه عصي على التغيير بسبب الطائفية التي في النفوس وليس بسبب كونها علاقة اقتصادية-سياسية. وبالتالي يصبح مفهوماً لماذا الطبقة الحاكمة في لبنان متمسكة بالنظام الطائفي. غير المفهوم هو موقف اليسار اللبناني المتمسك بشعار إلغائها دون إلغاء النظام الرأسمالي الذي ينتجها.
هذا ما يضع اليسار أمام التحدي الحقيقي: في أن يطرح بديلاً عن هذ النظام. هل البديل في الاشتراكية أم بإصلاح النظام الرأسمالي؟ والبديلان يصعبان عليه. وأمام هذا العجز في طرح الشعار الحقيقي يُطرح شعار إلغاء الطائفية لهدف إحراج المقاومة الإسلامية وللتمايز عنها. وهي اللحظة التي يؤدي فيها اليسار، بوعي أو من دونه، خدمة للإمبريالية في حربها ضد المقاومة.
هناك مسألة أخرى يرجع الفضل لليسار اللبناني في طرحها، ألا وهي التبعية للإمبريالية. لكن طرح المسألة شيء وفهمها شيء آخر، ‎إذ إن هناك دائماً التباس في فهم العلاقة بين الاقتصادي والسياسي في التبعية. فاليساريون في لبنان، على ما يبدو، ينظرون إلى التبعية من المنظار الاقتصادي فقط. فلا يرون أن الطبقة الحاكمة في البلدان التابعة هي نتاج للتبعية أيضاً. أي أن الإمبريالية هي التي تشكل وتحمي وتأمر وتضع المهمات السياسية لبرجوازيات هذه البلدان. كما باستطاعة الإمبريالية أن تعيد إنتاج الطبقات الحاكمة في البلدان التابعة لها إذا ما تعرضت لأي انتكاسة سياسية طالما هي لا تزال مسيطرة اقتصادياً على هذه البلدان. لذلك لن يجدي نفعاً تكرار «الشيوعي الرسمي» لشعاراته حول الطائفية والتغيير الديموقراطي والنظام الانتخابي خارج القيد الطائفي، وكذلك رغبات شربل نحاس بأن يُسَلَّم له النظام ليقوم هو بإصلاحاته، أو دعوة نجاح واكيم لتشكيل جبهة وطنية لإقامة سلطة انتقالية تضع «إعلاناً دستورياً» أو تتولى مكافحة الفساد، إذ إن هناك استحالة في القضاء على الطبقة السياسية دون إلغاء تام للتبعية. وهذا ما لحظته وثيقة «شيوعيون لبنانيون» في ندائها، «نداء من أجل قيام حركة تحرّر وطني عربية جديدة»، حين ذكرت أنه «لا يمكن ولا يجوز، في البلدان التابعة التي هي في طور التحرر، تقديم الصراعات الطبقية على الصراع التحرري»، وفي مكان آخر: «فبمجرد بقاء هذه البلدان سوقاً للإمبريالية ومصدراً لموارد أولية منهوبة، سوف يبقى إنماؤها وتقدّمها عصيّين على التنفيذ لو ظلّا متمحورين حول مسألة التغيير الداخلي فقط» (راجع «الأخبار» 31 أيار 2022).
إذاً، عندما تُطرح مسألة تغيير النظام السياسي في غير أوانها ويُعرّض البلد لإمكانية نشوء حرب أهلية تكون في مصلحة الإمبريالية، كما كانت عليه الحال زمن الحرب الأهلية اللبنانية، وتخدم في الوقت نفسه ضرب المقاومة، يكون هذا الموقف مشبوهاً ويحقق أهدافاً خارجية.
نقول في غير أوانها، لأن التغيير يفترض أن يطرح البديل الذي قد يكون غير متوفر موضوعياً. فقوى اليسار اليوم تعلم علم اليقين أنها لا تملك حلاً اقتصادياً للأزمة اللبنانية، وهي غير قادرة على أن تفرض بديلاً للنظام السياسي القائم، لكنها تطلب من حزب الله أن يقوم بما هي غير قادرة على فعله، عن طريق استخدام قوته في الداخل اللبناني. وهذا هو المستنقع الذي تحاول الإمبريالية جرّ المقاومة إليه.
نعم، يبدو المشهد مأزوماً ولا حل في الأفق، إذ لا ظروف موضوعية لإحداث التغيير المنشود. إلا إذا توافرت ظروف إقليمية ودولية -وهذا ما نتمنى أن نراه قريباً- تسمح لمناهضي الإمبريالية في بلادنا بالقطع مع نظام التبعية للغرب وإيجاد بدائل اقتصادية منسجمة مع المصلحة الوطنية. إن المعركة التي تخوضها المقاومة اليوم ضد رأس الإمبريالية ويديها وجسمها، تضعنا أمام فرصة لتحقيق هذه المهمة التاريخية لإنجاز مهمات التحرر الوطني من أجل رسم مسار مستقل عن هذا الغرب الاستعماري. وهذا لن يتحقق إلا بجهد جماعي يستدعي تضافر جهود كل القوى الوطنية التي لها مصلحة في ذلك. لم يعد مقبولاً أن تُترك المقاومة وحيدة دون مد يد العون لها وهي التي طالما طلبت من القوى أن تتحمّل مسؤوليتها وأن تأخذ القليل من الحِمل عن أكتافها. فالمقاومة قد لا تكون بحاجة إلى الدعم العسكري، لكنها حتماً هي بحاجة إلى دعم أوسع فئات وشرائح المجتمع اللبناني. إن مقولة المجتمع المقاوم لا تعني فقط البيئة الحاضنة الشيعية.
من هنا، وكمحاولة لكسر الجمود في العمل السياسي، قد يكون مفيداً أن تتحمّل كل الأطراف المسؤولية وتتم الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام تتمثل فيه جميع القوى السياسية والشخصيات اللبنانية التي ترى في فكرة التحرر الوطني مشروع خلاص ونهضة للبنان. ولتُحَدد فيه معايير هذا التحرر ولنعلن بصراحة ووضوح أن لبنان واقع فعلياً تحت الاحتلال الأميركي ويجب التصرف على هذا الأساس. لم يعد مسموحاً أن لا نرى الحقائق كما هي. لقد برهنت السنوات الأخيرة أن حجم الهيمنة الأميركية على لبنان هو بمثابة احتلال فعلي يمنع اللبنانيين عن اتخاذ أبسط القرارات الأساسية التي تضمن استمرارهم على قيد الحياة. إن التغاضي عن هذا الأمر عند بعض قوى اليسار -كالحزب الشيوعي «الرسمي»- بهدف تحييد الإمبريالية الأميركية عن مسؤوليتها عمّا آلت إليه الأوضاع في لبنان وتحميلها إلى النظام الطائفي وإلى الطبقة السياسية فقط، لم يعد مقبولاً. لن يكون تغيير حقيقي في النظام السياسي اللبناني دون كسر الهيمنة الإمبريالية. كما أنها لن تُكسر ما دامت بعض الأحزاب الأساسية، كالتيار الوطني الحر، يعيش وَهْماً أن الغرب يهتم بنا ويريدنا همزة وصل مع الشرق. نحن بالنسبة إلى هذا الغرب لا نساوي شيئاً! لقد آن الأوان لكي تُطرح هذه الأمور للنقاش العام العلني لكي تصبح فكرة التحرر الوطني ملهمة للناس ومحرّكة لمشاعرهم. على هذا المؤتمر الوطني الذي نقترحه أن يطلق العنان للأفكار الخلّاقة (وهي موجودة) لتطوير أدوات وأساليب العمل السياسي البالية والموروثة التي كانت تكتفي بالشعارات واللقاءات الموسمية دون أن تترك أي أثر إيجابي على المزاج النفسي للمواطن. أفكار تعطي الأمل بأن التحرر الوطني ليس مستعصياً وتعيد الثقة لهذا الوطن بأن مستقبله مرهون بالاعتماد على قدرات أبنائه الذاتية، ومرتبط في الوقت نفسه بالانفتاح على محيطه المشرقي الذي يتشارك وإياه وحدة المصير.
وكما ذكرنا في المقدمة، لليسار اليوم مواقف ملتبسة. وفي لبنان هو مدعوّ إلى إثبات يساريته المقاومة من خلال التخلي عن تأثيرات الفكر الليبرالي عليه والانتقال إلى المساندة الفعلية للمقاومة الإسلامية في صراعها ضد الإمبريالية. وهكذا يسار يمكن أن يكون أيضاً حاجة لهذه المقاومة، إذ يسود الشعور بأن حرب 2006 قد تكون بالفعل آخر الحروب الكبرى مع هذا العدو الذي سيضع الشعب الفلسطيني النقطة الأخيرة في تاريخها. وبالتالي، نحن أصبحنا على مشارف اليوم التالي بعد الانتصار الكبير، وفي بداية مرحلة أخرى تتطلب متابعة صيرورة التحرر الوطني وهي المعركة التي لن يكون لها نجاح إلا بجهود وتحالف جميع القوى الوطنية. فهل تعي أيضاً المقاومة الإسلامية نفسها كحركة تحرر وطني؟
* كاتب لبناني