في بلدٍ عزَّت فيه، منذ ثلاث سنوات على الأقل، الإنجازات، ولو بسيطة، وعصفت به الأزمات والانهيارات والفشل والخسائر والفضائح... شكَّلت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع العدو الصهيوني، مناسبة، بل فرصة نادرة، لإعلان تحقيق «انتصار تاريخي» من قبل أركان السلطة اللبنانية. أثار هذا الإعلان ردود فعل عدة، منددة، أو موافقة، أو متحفظة. إلا أنه يمكن القول، بشكل عام، إن الموقف الرسمي ومعظم ردود الفعل عليه، قد اتسما بشيء من التسرع والآنية وحتى الكيدية أو المناكفة. لا شك أن الحدث «تاريخي» بوصفه تحولاً وانعطافاً ستترتب عليه نتائج مهمة أو خطيرة، لم تكن لتحصل لولا إقراره. وأن يكون «تاريخياً» فلا يعني ذلك، بالضرورة، أن يكون انتصاراً لأحد طرفي النزاع وخصوصاً للطرف اللبناني.
موضوع النفط في لبنان هو ملف وليس مجرد لحظة اتفاق. في هذا الملف، أيضاً، راكم لبنان نقاط ضعف لا نقاط قوة. وهو في ذلك كرر ما هو سائد بالنسبة لكل الملفات الأساسية الأخرى: الثروة المائية، الكهرباء، البنى التحتية عموماً، النقل، الصحة، التعليم... في ملف النفط ينبغي التوقف عند المحطات الآتية: عدم تكوين ملف متكامل ومبكِّر لحقيقة وجود كميات نفط وغاز في لبنان أو في مياهه الإقليمية. وزارة الطاقة اللبنانية أعلنت عن رقم 95,5 ترليون قدم مكعبة عام 2012، فيما شركات البترول والغاز العالمية تتحدث عن ربع هذه الكمية! الخفة واللامسؤولية في الاتفاق مع قبرص عام 2007 حيث استندت إليه قبرص لتتبرع لإسرائيل بـ 860 كلم من المنطقة اللبنانية (ما عُرف بخط هوف لاحقاً)! إخضاع ملف النفط والغاز للمحاصصة السائدة والمهيمنة في المواقع السياسية والإدارية والتي نظمت عملية نهب البلاد وتبديد ثرواتها وموازنتها ما بين متحاصصي منظومة التسلط والفساد. من نتائج ذلك صدور المرسوم 43/2017 الذي نسف القانون البترولي الصادر عام 2010، خصوصاً المادة 5 منه التي ألغت دور الدولة حتى في مجرد الرقابة وخفضت حصتها إلى37% مقابل حصة تتراوح بين 65% إلى 85% في الدول التي اعتمدت نظام المشاركة في الإنتاج (مقال نقولا سركيس «الأخبار» 29/7/2019). وجود ثغرات كبيرة في خريطة الترسيم اللبنانية وإهمال الوثائق التي تؤكد أن الخط 29 هو الذي ينبغي اعتماده بين لبنان وفلسطين المحتلة. لقد تمّ إسقاط هذا الخط كلياً في اتفاقية «الإطار» التي سلّمها الرئيس نبيه بري للرئيس ميشال عون الذي تسلم وتبنى من دون أي تبديل وتصويب، مضيفاً إليه التأثير السلبي للابتزاز الأميركي بوضع النائب جبران باسيل، الوريث السياسي للرئيس عون، على قائمة العقوبات الأميركية.
تحركت الوساطة الأميركية مجدداً عبر الوسيط الأميركي الإسرائيلي عاموس هوكشتين في مرحلة ما بعد سقوط الرهانات الأميركية على الانتخابات اللبنانية. لكن، لنفس الأهداف السابقة، ولمحاولة ترصيد واستكشاف فرص الاستسلام اللبناني بعد عدّة سنوات من الضغوط السياسية والحصار والعقوبات والأزمة الداخلية المتمادية والطاحنة... وذلك، خصوصاً، لخدمة العدو الإسرائيلي بالدرجة الأولى واستكمالاً لخطط التطبيع معه التي تضمنتها «صفقة القرن» وجسدتها «اتفاقيات أبراهام» بين العدو الصهيوني وعدد من الدول الخليجية والعربية الأخرى.
انطلقت واشنطن من أن لبنان «استوى» تحت تأثير أزمته الشاملة. وهو بات مستعداً للرضوخ بأبخس الأثمان، أيضاً، بسبب ضعف وصراعات حكامه وتواطؤ معظمهم مع السيد الأميركي سابقاً وراهناً. وكذلك، كما أسلفنا، بسبب الفجوات التي يعاني منها مسار التفاوض اللبناني عموماً. كان ذلك هو المنطلق الذي اعتمده المفاوض «النزيه» وهو يسخر من المطالب الرسمية اللبنانية، مردداً أمام محاوريه من الرؤساء والموظفين: «القليل خير من الحرمان»!
بروز دور المقاومة الحازم قد غيَّر في المقاربة العامة لمصلحة المفاوض اللبناني، من دون أن يكون كافياً لإلغاء الفجوات والاختلالات


بدا الوسيط «النزيه» مطمئناً، إذاً، إلى قدرته على التحكم بمسار المفاوضات، وبالسرعة التي يتطلبها المسعى الأميركي الملح لاستخراج النفط من حقل «كاريش» وتعزيز الموقع المحوري الإسرائيلي في مجمل غاز ونفط شرق المتوسط الذي حظي الآن باهتمام كبير بعد الحرب الروسية - الأوكرانية. شجعه على ذلك أن لبنان الرسمي امتنع، بإجماع «الرؤساء» وخصوصاً الرئيس عون، عن توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة لتأكيد حدوده البحرية حتى الخط 29 وليس خط «الإطار» الـ23. كان يمكن لهذه الرسالة أن تنسف المفاوضات كما كان يحصل في السابق. لكن، كان من شأنها أيضاً، جعل حقل «كاريش» هو موضوع التقاسم كما كان ينبغي، لا حقل «قانا» كما حصل في مشروع الاتفاق الذي ينتظر التوقيع خلال أيام، بحسب ما أُعلن.
لا شكّ أن الأزمة الاقتصادية الهائلة قد لعبت دوراً سلبياً في قدرة لبنان على الدفع بتأجيل المفاوضات إذا تعذر عليه الحصول على كامل حقوقه. لكن بروز دور المقاومة الحازم قد غيَّر في المقاربة العامة لمصلحة المفاوض اللبناني، من دون أن يكون كافياً لإلغاء الفجوات والاختلالات. من دون ذلك كنا، ربما، سنرفض الإقرار بالشروط الأميركية والإسرائيلية، لكننا، بالمقابل، سنبقى ممنوعين من التنقيب والاستخراج تحت ضغط واشنطن خصوصاً على الشركات التي تم التعاقد معها في البلوكين 4 و9.
إن إقحام المفاوضات في اللحظة السياسية وتجاذباتها واستقطاباتها قد اقترن، أيضاً، وكالعادة، بالنهج الفئوي والتحاصصي الذي عبَّر عن نفسه في تجديد العقد، مجاناً، ومن دون التزامات أو غرامات للشركتين الفرنسية والإيطالية. وهو عقد مخل بالمصلحة الوطنية وقد يسري أيضاً على كل البلوكات الأخرى حيث سقط القانون الدولي بالضربة القاتلة لنهج المحاصصة، الذي أخرج الدولة اللبنانية من قطاع النفط والغاز، خلافاً لكل بلدان العالم التي اعتمدت نظام الشراكة كما أسلفنا. العيوب الخطيرة عموماً في الملف اللبناني قد فعلت فعلها، فضلاً عن النفوذ الأميركي الذي يوجه مواقف الكثير من الأفرقاء بمن فيهم بعض غلاة المعترضين على الاتفاق من دون أن يضربوا الانحياز الأميركي ولو بوردة!
الأخطاء كبيرة، وهي شائعة في تقاليد حكم وإدارة سلطة البورجوازية اللبنانية الكبيرة لمجمل شؤون البلد: ما أدى إلى الكارثة الهائلة التي يتخبط فيها لبنان وشعبه. إنها أسلوب حكم وليست لحظة تخل أو خيانة. أما بعض المكاسب فينتظر إنجازُها معارك كبيرة:
1- معركة مواجهة الأشكال الجديدة من الخداع الإسرائيلي والضغوط الأميركية، وخصوصاً مواجهة تحول الوساطة الأميركية إلى وصاية وقحة وحصرية وكذلك تعاقدياً، بالنسبة لشركة «توتال».
2- العودة إلى قانون النفط الذي وأده المرسوم 43/2017.
3- معركة منع نهب وسوء استغلال العوائد المتوقعة: بدءاً من العقود إلى تحرير القطاع من المحاصصة، إلى، على الأقل، إعادة مراقبة الدولة للقطاع وتعزيز حصصها وحضورها فيه... ذلك، يتطلب حتماً، معركة تغيير حقيقية ذات طابع إنقاذي لقطاع الطاقة وللبلد عموماً! وقتها يمكن أن نتحدث عن «انتصار» تاريخي!

* كاتب وسياسي لبناني