نعيش الآن عصر «الجنون الأخلاقي»، حيث يُعاني اليسار الجديد مرحلة جديدة مِن انكساره السياسي وفشل أجندته الاقتصادية. ومع تراكم الخيبات الديموقراطية لهذا التيار، يتزايد تركيزه على الأجندة الاجتماعية في محاولة لاستمالة أبناء الطبقات الوسطى والعُليا الذين يتمتعون بامتيازات تعليمية وترفيهية نسبية (بما فيهم كاتب هذه الكلمات الذي يملك رفاهية التنظير) لكنهم يعيشون عقد الذنب عن ثرائهم ويحاولون تهدئة مشاعرهم عبر الانخراط في نشاط لا يضر طبقاتهم. لذا، تُمثّل البيئة، والجنس، حقولاً احتجاجية مثالية لتفريغ شُحنات الغضب.شباب بلا مشروع سياسي، غير منظمين، وبلا إطار فكري، لذا يفتقدون تقريباً كُل شعور بالأخلاق والصواب والخطأ. بالنسبة لهم لا يوجد قانون ولا آداب ولا تواضع. يندفعون مِن أجل إرضاء أي زخم مؤقت أو ميل أو نزوة، ويرتكبون جرائم وتجاوزات بأقصى قدر من الهدوء والرضى عن النفس، ولا يفهمون أن أشخاصاً آخرين يتضررون. وأحياناً الخوف مِن العقاب يجعلهم لا يرتكبون عملاً يتعارض مع القانون الجنائي، لكن يؤكدون شرعية الجريمة عبر إثبات أن «الخير» و«الشر»، «الفضيلة» و«الرذيلة» هي اختلافات تعسفية.
تيار يساري يعد الناس بـ«المساواة» يُهدِر كميات من الحليب الصالح للاستهلاك الآدمي، ويُدمّر اللوحات الفنية في متاحف أسعار تذاكرها لا يمكن أن تدفعها الطبقة الفقيرة «المستهدفة في الخطابات الأكاديمية الاستعراضية»، ويستمد مِن هذه الأفعال نشوة تسمح لهذا اليسار الجديد أن يدعو لاكتشاف الجمال في أدنى الأشياء وأكثرها إثارة للاشمئزاز؛ ويحاول إيقاظ الاهتمام بما يسمى بـ«فهم» البهيمية. لذا يُمكن تحديد الجذور النفسية للجنون الأخلاقي اليساري في جميع ممارسته، وهي: أولاً، أنانية لا حدود لها. وثانياً: الاندفاع، أي عدم القدرة على التفكير في أي فعل.
ظل «الجناح اليميني» من الطيف السياسي، بما في ذلك حتى القيم الاجتماعية والأخلاقية التي كانت تعتبر حتى وقت قريب على أنها محافظة مقبول بها، موضوعاً للتحليل المهين والتحيز، لا سياسياً واجتماعياً فحسب، بل نفسياً أيضاً، مع تجاهل تام لـ«الجناح اليساري».
قادت مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية -التي تم نقلها مع صعود هتلر إلى الولايات المتحدة تحت رعاية جامعة كولومبيا- لتتم إعادة تأسيسها في نيويورك كمعهد للبحوث الاجتماعية دراسة الدوافع النفسية لـ«اليمين»، وربطت بين ممارساته والفاشية. واهتمت المدرسة برئاسة ثيودور أدورنو بالشخصية الاستبدادية، والذي قدّم دراسات نفسية عديدة عن أن القيم التقليدية والأخلاق تتطلب إعادة توجيه نفسي لأنها تمثّل أعراضاً فاشية كامنة. وعلى وجه الخصوص، تعرّضت الأسرة النووية للهجوم باعتبارها المؤسسة الجذرية لزراعة عقلية فاشية.
تمكّن علماء الاجتماع اليساريون مِن إظهار أن القيم المحافظة غير طبيعية نفسياً، وكانت هناك خطوة متزامنة لإظهار أن اليسار الجديد لديهم قيم طبيعية تُحرّر الفرد من القمع الذي يسبب العُصَاب. وكان المطلوب هو «حالة علاجية» تقوم على المذاهب الفرويدية الماركسية من أجل «علاج» الجماهير من عُصابهم من خلال سياسات الدولة. وإذا لم يتم ذلك، فإن النتيجة ستكون عودة الفاشية.
ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانتصار الاتحاد السوفياتي الشيوعي على النازية، كانت الدراسات التي قام بها علماء الاجتماع تتفق على إظهار أن اليساريين يمتلكون قيماً إيجابية، وبحتمية، يجب أن تُعتبر طبيعية. واتفقت معظم التعليقات والدراسات «العلمية» للحركة الطلابية منذ عام 1968 على أن الشباب الراديكاليين يمثلون الأفضل في مجتمعاتهم، فهم راديكاليون لكن ديموقراطيين وإنسانيين وتقدميين أخلاقياً. وتم تجاهل أن هذه الدراسات كانت إمّا انطباعية أو تستند إلى عينات صغيرة، فالسمات الشخصية «الإيجابية» أو وجهات النظر السياسية التقدمية لليسار الجديد ظهرت إلى حد كبير لأن الاستبيانات إمّا تم إنشاؤها بطريقة تنسب مثل هذه الصفات، أو لأن الطلاب الراديكاليين يعرفون كيفية الرد «بشكل مناسب» على الأسئلة المطروحة. ومن هنا استغرق معلمو اليسار الجدد، مثل إريك فروم، في دراساتهم للسمات البشرية، والتي تُثبت أن الراديكاليين كانوا أكثر احتمالاً من المعتدلين لإظهار الميول نحو الهوية السلبية والاستسلام الماسوشي لدور الضحية ومعاملة الناس كمفاهيم مُجردة.
رفضت الشيوعية الستالينية هذا الخليط مِن الفرويدية والماركسية، كما رفض الحزب الشيوعي الألماني النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، لكن وجد الاتحاد السوفياتي الطب النفسي وسيلة مفيدة لإسكات «المنشقين» من خلال إخضاعهم للفحص النفسي وتشخيصهم بشكل روتيني على أنهم مصابون بالفصام، وبعد ذلك يتم سجنهم وتم تحديد معاداة السوفياتية كشكل من أشكال الذُهَان.
يُسيطر الآن وأتباعه الأكثر تطرفاً على مواقع مرموقة في الأوساط الأكاديمية وتُنشر كتبهم من قبل الناشرين الكبار بينما يتم تهميش أي نقد لهم بوصفهم «موضة اجتماعية»


ولم يكن الغرب «الديموقراطي» أيضاً رافضاً لاستخدام الطب النفسي لتشويه سمعة المعارضين، حيث تلقى الشاعر الشهير إيزرا باوند، الذي كان قد اعتنق الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، معاملة مماثلة عند عودته القسرية من إيطاليا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب، واحتجزته القوات الأميركية تعسفياً بتهمة الاضطراب العقلي لتجنّب مُحاكمة بالخيانة لواحد من أبرز الشخصيات الأدبية في العالم.
استمر اللجوء لتفسير الميول السياسية على مسطرة الانحراف العقلي، سواء كانت السياسة المتطرفة مثل النازية أو الفاشية أو الشيوعية، ليتمدد الوصم بالخلل النفسي فيُحاصر قيم المحافظة على الأسرة، أو التعبير عن الاستياء مِن فيلم على «نتفليكس»، أو تدمير لوحات فنية بدعوة الحفاظ على البيئة، أو إهدار الطعام الذي يقوم به النباتيون، وأخيراً يتمظهر الاستبداد في الصوابية السياسية على الكلام نفسه. وتم استبدال الضوابط الاجتماعية بأخرى يبررها التشخيص النفسي للعرق، فإن كُنت أسود لا يمكن أن تكون عنصرياً، وإن كُنت يهودياً فأنت إله، وإن كنتِ امرأة فأنت ضحية بشكل مُسبق، وغيرها من الفروقات التي تأخذ حصانات مُختلفة، وتخّيل لو كُنت تجمع أكثر مِن هوية مما سبق.
نجا اليسار ونسخه الما-بعد حداثية على الرغم من انتهاجه لأشكال العنف الأكثر تطرفاً منذ الثورة الفرنسية (1789) إلى حد كبير من التحليل النفسي النقدي. ويُسيطر الآن، كالمعتاد، وأتباعه الأكثر تطرفاً، على مواقع مرموقة في الأوساط الأكاديمية، وتُنشر كتبهم من قبل الناشرين الكبار، بينما يتم تهميش أي نقد لهم بوصفهم «موضة اجتماعية» الاقتراب منها قد تشطب الفرد مِن السياق العام.
لكن يمكننا الإشارة إلى أن الأفراد الذين يعانون من انحرافات نفسية مختلفة، يبدو لهم الهيكل الاجتماعي الذي يهيمن عليه الناس العاديون وعالمهم المفاهيمي هو «نظام قوة وقمع». ويصل المرضى النفسيون إلى مثل هذا الاستنتاج في مجتمعات ديموقراطية نسبياً. وفي الوقت نفسه، إذا كان هناك قدر كبير من الظلم في الواقع بمجتمع استبدادي، فإن مشاعر الرضى عن الظلم والعبارات الإيحائية المنبثقة من اليسار التقليدي ونسخه الما-بعد حداثية ستكون حاضرة (تحالف التيارات الليبرالية واليسارية في الشرق الأوسط مع الاستبداد العسكري والديني نموذجاً).
تعمل المذاهب السياسية اليسارية كوسيلة لإعادة خلق العالم باسم «العدالة»، حيث تُعتبر القوانين والقواعد والأخلاق الاجتماعية العادية اضطهاداً لا يُطاق. لذا يظهر حلم اليوتوبيا لعالم «سعيد» ونظام اجتماعي لا يرفضهم أو يرغمهم على الخضوع للقوانين والعادات التي لا يمكنهم فهمها. إنهم يحلمون بعالم تسيطر فيه طريقتهم البسيطة والراديكالية، حيث سيضمنون بالطبع السلامة والازدهار. وفي هذا الحلم الخيالي يتصورون أن هؤلاء «الآخرين»، المختلفين أو غير المتفقين معهم، هم أعداء، وأشرار تجب إبادتهم.
وبينما يمدح اليسار الجديد «الإنسانية» فإن البشر في أدبياتهم مفاهيم مُجردة، مثل البنى الأيديولوجية المحصورة في بيانات الاقتصاد، لذا تجد الشباب اليساري الجديد يُعبّر عن العواطف من خلال الشعارات والتظاهرات وأحياناً: التخريب وأعمال الشغب والعنف. ويتم التبرير عن حبهم وغضبهم عقلياً على أنهما «حُب زائد للإنسانية» وضد ظلم النظام وممثليه ومؤسساته، لكن هذا التبرير قادر على إبراز الكراهية على المختلفين بشكل عقائدي، لأنه من الناحية النظرية، سيمثل اليسار الجديد هُنا «الحرية والمساواة والأخوة»، والتي قد تتطلب الكثير من إراقة الدماء.
ومع الأخذ في الاعتبار أن نسخة اليسار الجديد المُسيطرة الآن على المشهد هي نوبة غضب جماعية (أعتبرها مُبررة) ضد القيم المعيارية المرتبطة بالجيل الأقدم، حتى مِن الشيوعيين، لكن أدى هذا للتشابه بين اليساري الجديد والطفل الصغير الذي يضرب الأرض بقدمه غضباً عندما لا يتم إشباع الأنا الخاصة به على الفور. وحيث تحدّد درجات العاطفية أهمية الفرد في الحركة الثورية الاحتفالية والقائمة على اللقطة، وكلما زادت حدة المشاعر زاد احتمال أن يكون الفرد في موقع قيادي بسبب الحماسة المفرطة. بالتالي، من المرجح أن يكون الكادر القيادي للحركة اليسارية نرجسياً مُتطرفاً، وهو ما يفسر سبب انقسام الجماعات اليسارية بسهولة حول القضايا الصغيرة.
اليسار الجديد الآن، بشكل عام، سواء كان يُسمى الاشتراكيين الديموقراطيين أو الشيوعيين أو الليبراليين، يقدّمون أنفسهم كتيار المستقبل. حتى إن كلمة «يسار» نفسها أصبحت تُرادف كلمة «تقدّم»، في حين أن أي فرد أو عقيدة أو مؤسسة تعارض اليسار يتم الاستخفاف بها بوصفها بالرجعية. ومع ذلك، إن هؤلاء «التقدّميين» الذين يريدون تدمير التقاليد وإعادة تكوين العالم هم حقاً يبشّرون بالعودة إلى البدائية سواء في الفنون أو الأخلاق أو السياسة.
التراجع، أو الانتكاس هذا، بشكل عام، هو المثال لهذه الفئة التي تتجرأ على التحدث عن الحرية والتقدم، ويتمنون أن يشكلوا المستقبل عبر السيطرة على أكبر عدد مِن الجماهير. ومع ذلك، بدلاً من التحدث مع هذه الجماهير، فإنهم يصرخون بشكل مُستمر، عوضاً عن صياغة خطاب مُتماسك يُعبر عن مشروعهم السياسي.
إن «الحرية» و«الحداثة» و«التقدم» و«الحقيقة» لهؤلاء الزملاء في ما يسمى باليسار الجديد ما هي إلا مدلولات فارغة. ليس لدى كُل مَن يحلم بتغيير حقيقي شيء مشترك معهم. تلك الفئة ترغب في الانغماس بالذات، وفي إغراق الوعي في اللاوعي. والتفكير في التلاعب اللفظي والثرثرة، وتقدّميتهم المزعومة التي تُبشر بالفوضى. فالمقاومة الحقيقية لهذا التيار اليساري الجديد تبدأ بالاهتمام والملاحظة والمعرفة، الاهتمام بالطبقات المسحوقة فعلاً، وملاحظة المتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية للطبقات المختلفة، وأخيراً تكوين المعرفة اللازمة لتعامل وفقاً للواقع. وقد تكون هذه المعايير التي يمكن من خلالها التعرف إلى الثوري الحقيقي، وتمييزه عن المحتالين، حيث كل مَن يبشر بغياب الانضباط هو ضد التقدم؛ وكل من يعبد «الأنا» هو غير مُفيد حتى لنفسه.
إن المسألة الأساسية لأي تيار سياسي (يساري أو يميني) يجب أن تعتمد على التعايش والقدرة على التضحية بالنفس؛ والتقدم الذي ينتج مِن إخضاع الوحش الأناني داخلنا بشكل أكثر صرامة من أي وقت مضى، وضبط النفس الأكثر توتراً، الإحساس العميق بالواجب والمسؤولية. فالتحرر الحقيقي هو حرية الاختيار لمصائرنا ولأجسادنا ولقرارنا وليس الأجندات الاجتماعية ذات الأوامر الإرشادية.

* كاتب مصري