يوم 17 تشرين، لم يسقط من السماء. النظام اللبناني، بطبيعته، مولّد للأزمات. ومن أبرز الأزمات، الأزمات الاقتصادية الدورية. ازدادت بفعل عدة عوامل، أبرزها إعطاء النظام تشكيلته الطائفية المرافقة مع المحاصصة والزبائنية، حيث يأخذ أمراء الطوائف حصص طوائفهم. مهما كان اسم «الأمير». العامل الثاني، هو سيطرة رأس المال المالي، والقطاع المصرفي بخاصة، على الاقتصاد والسياسة المالية، وبذلك أخذ، ومنذ عقود، موقع ما يسمى السلطة العميقة. وأول موجبات سيطرته، هو التبعية الكاملة لرأس المال العالمي، وإلحاق السياسة والقضاء والأمن بهذه التبعية. وانتقلت حماية النظام الطائفي ومحاصصته إلى هذا القطاع، ليستمر التزاوج والتبعية.
في تاريخ «الجمهورية»، كانت عشرات التحركات الشعبية، عمالية أساساً، تربوية، طالبية، نسائية ومهناً حرة. راكمت وأنتجت في كل القطاعات. لنتذكر كل المكاسب التي لم تُمنح، بل انتزعها أصحاب المصلحة فيها من الفقراء تحديداً. قانون العمل، التعليم الرسمي، الذي لم يعد لـ«كامل» فقط، الجامعة اللبنانية والضمانات الصحية والاجتماعية. وليست المكتسبات الاجتماعية فقط، اكتملت بالمقاومة والتحرير، من بيروت إلى كل الوطن.
مع الوقت وتحولات النظام ونسب الكعكة الاقتصادية، ضمرت هذه المكتسبات وبلغت حد التلاشي، مع ازدياد سيطرة السلطة المالية وتحالفها مع المكوّنات السياسية الطائفية ورجال الدين والتبعية السياسية والمالية للخارج.
وبتنا اليوم أمام خطر موت كل هذه المكتسبات، التآمر على القطاع العام والخضوع لاشتراطات صندوق النقد والقوى «الصديقة»، كلها وصلت بشعبنا إلى ما هو عليه اليوم، عبر مسار بدأ بالاتفاق «المقدّس»، اتفاق الطائف، بوجهيه السياسي والاقتصادي. هذا الاتفاق الذي جاء على حساب المشروع الديموقراطي، مشروع الحركة الوطنية، وكرّس هزيمة هذا المشروع وكرّس معه الزواج بين سلطة رأس المال المالي وزعامات الطوائف.
التحركات الشعبية التي ذكرناها، لم تكن يتيمة، بل كانت لها رعاية واضحة، نقابية وسياسية، شكّلت القوى اليسارية والديموقراطية عصبها، وكان للحزب الشيوعي موقع القلب والريادة فيها. ومن المفيد هنا أن نذكر، أن من قاد هذه التحركات، لم يأخذ ثمنها بالمفرق، ولم يستجد حصة من قالب السلطة، بل كان يراكم سعياً وراء أمل التغيير والمستقبل السعيد.
■ ■ ■

ولنقفز سريعاً، حتى عام 2018، وبعد الانتخابات النيابية، وفي ضوء تقييم النتائج، وضغط الاتجاه القاعدي في نقدها، أقرت اللجنة المركزية خطة للحركات الشعبية، تشمل الجانب الاقتصادي والسياسي (قانون الانتخاب)، على أن تكون التحركات متابعة ومتكاملة، على أمل تجميع قوى نقابية وسياسية ديموقراطية حولها تلبية لوجهة المؤتمرات الحزبية وتحديداً العاشر والحادي عشر، «بناء الحركة الشعبية الديموقراطية»، التي نخوض معها النضالات الاجتماعية، السياسية والوطنية.
كانت تظاهرة 18 كانون الأول، الباكورة، وكانت تجمّعاً شعبياً بالآلاف، تمّت تغطيته في كل وسائل الإعلام (التغطية تفرض، ولا تُستجدى)، وشاركت الحزبَ قوى شعبية ونقابية متعددة، والأبرز، وحدة الحزب واليسار، التي تجلّت رمزياً في الصف الأول، الذي ضمّ أمناء عامين للحزب، ورموزاً يسارية ونقابية، وأيضاً ثقافية وفنية، عبّر عنها وجود زياد الرحباني.
هذه التظاهرة برهنت عن ما هو كامن عند شعبنا من إمكانات نضالية، وعند حزبنا من تاريخ يبرر ويفرض دوره الريادي في هذا المجال. وكان من المفترض تكثيف هذه التحركات والبناء على نجاح «الصورة» الأولى وبشكل خاص الاستعداد الجماهيري للتلبية. لكن للأسف (عن قصد أو تقصير)، لم تلتقط قيادة الحزب هذه الفرصة، وتباعدت التحركات، إلى بعد شهر ومن ثم شهرين وأكثر، وهذا قبل انفجار الأزمة المالية وقبل «كورونا»، ومع هذا التباعد، انخفض عدد المشاركين من الآلاف إلى المئات، في التحرك الأخير، في شارع بشارة الخوري.
هنا كان الخطأ التكتيكي الأول، تمويت الزخم الشعبي والحزبي، وبداية التخلي عن الدور الريادي للحزب.
لننتقل إلى الخطأ التكتيكي الثاني والأخطر في دلالاته.
التحرّك كان بدعوة من الحزب الشيوعي اللبناني، فجأة تصرخ بولا يعقوبيان، وعبر مكبّر الصوت: «لم نتفق على ذلك، اتفقنا بدون أعلام حزبية»، من «نا» الجمع، والدعوة من الحزب الشيوعي، ومع من الاتفاق؟ الأسوأ أن قيادة الحزب استنفرت لنزع الأعلام من الشيوعيين، تلبية لطلب «القائدة». الموضوع هنا ليس الصراخ ولا العلم فقط، الأخطر، وهو ما دفعنا ثمنه لاحقاً في 17 تشرين، أن الحزب، قيادة الحزب، تخلّت عن تميّزنا ضمن الشراكة، ووضعت الحزب في «سلة المجتمع المدني»، وتحوّلنا إلى «غرض» في سلته، وطبيعي أن يحدد المسار، حامل السلة وليس موجوداتها.
كان يمكن التدارك مع بداية تحركات تشرين، ولكن يبدو أن من بيده القرار، استساغ أن يكون محمولاً، وحوّل الحزب إلى كمّ يساعد في نجاحات الآخر.
■ ■ ■

وكان يوم 17 تشرين فرصة جديدة، لتصعيد العمل الشعبي وتحويله إلى تطور نوعي يراكم على التحركات السابقة، الشعبية والقطاعية، من تحرك إسقاط النظام، إلى التحرك في موضوع النفايات، إلى تحرك هيئة التنسيق والحركات العمالية.
كان يمكن لهذا الحراك أن يشكل، بالحشد الذي شارك فيه وفي ظل تفاقم أزمة النظام السياسي، وتفاقم أزمة النظام على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وبشكل أساسي أزمة نظام الطائف وترنّحه، وبالتالي خضوع البلد كما المنطقة، لمرحلة انتقالية خطيرة، ليس أقلها انهيار سايكس-بيكو، وأيضاً بداية ترنح النظام العالمي الذي ساد لعدة عقود.
نعم كان يمكن لحراك 17 تشرين أن يكون تراكماً مهماً ورافعة لحركة شعبية. لماذا لم يصبح كذلك؟
السبب الأوّل هو التركيبة الطبقية لهذا الحراك، أي أن المشاركين فيه كما الدافع الأول، لم يتمثل بشارات العمال، فهو انطلق من سعر «الواتساب»، وليس من شعار السلّم المتحرك للأجور مثلاً.
السبب الثاني، أن التوقيت الذي كان ظاهره زيادة السنتات على «الواتساب»، أمّا باطنه أو جوهره، فهو الظروف الإقليمية والتغيرات السياسية واستهداف جعل لبنان جزءاً من خطة الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى بعد سنوات خمس، يمكن أو ضروريّ أن نتساءل، هل فعلاً هذه السنتات هي التي حرّكت فضلو خوري وحلفاءه؟ وهو وإدارته خنقوا طلاب الجامعة بمضاعفة الأقساط ودولرتها بعد أيام من التحرك، وكرّت بعدها سبحة الأمر على طلاب الجامعات الخاصة ومعظمهم من أبناء الطبقة الوسطى، بالترافق مع تجويف الجامعة الوطنية وتدميرها؟
سؤال آخر، من هي «العصفورة» التي أوحت للسياسيين وللمصارف بتهريب الأموال إلى الخارج، قبيل ومع حركة 17 تشرين.
كان الرهان على الحزب الشيوعي ليراكم في 17 تشرين على التاريخ الطويل من الحراك الاجتماعي والشعبي والسياسي، ولكن للأسف ذهب إلى الصيد بدون سلاح


السبب الثالث، هو انتقال الشعارات من مستوى إسقاط النظام والعلمانية، إلى إسقاط المنظومة الحاكمة ومباشرة إلى حزب السلاح، وشتم والدة جبران باسيل. وأصبح كلهم يعني نصفهم، ونصفهم يعني السلاح وعون.
السبب الرابع، هو الخطة العملية للحراك. مباشرة برزت الغرف السوداء من الظل إلى العلن. وسارعت بعض قوى الطوائف إلى تبنّي الحراك، بالتوازي مع الشعارات، قطع الطرقات وبناء المتاريس الفاصلة بين المناطق، وإطلاق العنان للشعارات الطائفية. وساهم في ذلك دفاع قوى النظام جميعها عنه، بعضها عبر المصادرة وبعضها الآخر بالقمع الذي طاول، بشكل رئيسي، تجمعات لها صبغة القوى اليسارية والديموقراطية من رياض الصلح إلى النبطية وعاليه وبعقلين.
وكشفت القيادة الخفية للتحرك عن نفسها في المعركة الانتخابية، تمويلاً وشعارات ومرشحين.
نعم يمكن أن نفهم، وكان ضرورياً، خوض المعركة في مواجهة قوى النظام في كل الدوائر، ولكن بداية لو كانت هذه القوى تستهدف التغيير، لبدأت بمعركة قانون الانتخاب وطائفيته، ولكن معركتها كان لها بعد آخر، بل أكثر من ذلك معظم مرشحيها أكدوا الانحياز للقانون الحالي الطائفي.
غيّب هؤلاء المرشحون الشعارات الاقتصادية، وأكد أبرزهم على حماية الاقتصاد الحر وتلبية شروط صندوق النقد. وبسرعة انتقلت موجة شعاراتهم لتنحصر تحت شعار السيادة وسلطة الدولة وحياد لبنان.
كان يمكن فهم «استقلالية»، هذه القوى لو أن معاركها كانت في وجه كل قوى النظام.
نعم المعركة الانتخابية في وجه الثنائي الشيعي، كانت مطلوبة، لطبيعة هذه اللوائح ولكم الفاسدين في عدادها. ونحن خضنا في وجهها كل المعارك البلدية والبرلمانية مننذ التسعينيات. ولكن إذا كان ذلك مفهوماً، فغير المفهوم، بل المشبوه، أن تصبح معركة كل اللوائح من الشمال إلى البقاع وبيروت والجبل، في مواجهة حزب الله والسلاح، وكأن زعماء الطوائف وقوى النظام في هذه المناطق، ملائكة وقدّيسون.
ولن ندخل في الأسماء، والتمويل، كلها باتت مكشوفة، بما فيها الارتباط بالخارج، واسألوا ملحم خلف عن زيارته لباريس، والارتباط بقوى الأمر الواقع، واسألوا مارك ضو عن ذلك، حتى لا أتورط أكثر في الأسماء.

■ ■ ■

كان الرهان على الحزب الشيوعي ليراكم في 17 تشرين على التاريخ الطويل من الحراك الاجتماعي والشعبي والسياسي. ولكن للأسف، ذهب إلى الصيد بدون سلاح، ووضع سلاحه وقوته الشعبية في سلة قوى أخرى بعضها مشبوه ومموّل من الخارج، وأخذه حامل السلة حيث يريد هو وليس حيث أراد الشيوعيون من هذا الحراك.
كانوا حاضرين في كل الساحات، وحيدين في عدد منها. من بيروت إلى عاليه والشوف والإقليم، إلى ساحات صور ومرجعيون والنبطية وكفررمان وصولاً إلى بعلبك والهرمل.
ناموا في الساحات، قاوموا قمع أحزاب السلطة وكانوا على عادتهم، مستعدين لكل أشكال التضحية. التضحية باتجاه الحركة الشعبية الديموقراطية التي أقرّتها مؤتمراتهم ومشروعهم.
يستحقون كل تحية، ولكن للأسف جُيّر هذا الاستعداد لمكان آخر.
نعم منذ البداية بدأ التخلي عن مشروعنا لصالح آخر. سلّمنا، تحت حجة الجماهير تقود نفسها (وهذا منطق ساوروس وليس لينين وغرامشي طبعاً). وبتسليم منا، ابتلع شعار استبدال المنظومة، شعار تغيير النظام. وتغييب المشروع والقيادة، سُلم الزمام للغرف السوداء، التي سرعان ما أفرغت الحراك من مضمونه السياسي والاجتماعي، واستبدلته بشعارات ضمن ما يمكن تسميته بالاستبدال الطبقي، والخلاص من أكثرية لصالح أكثرية أخرى من ضمن النظام الطائفي نفسه، ومن ضمن النظام الاقتصادي (الحر)، ذاته.
استمر الانحراف مع الانتخابات النيابية. ورغم أن مؤتمر الحزب الأخير، أكد معايير مترابطة، تحدد من نتحالف معه، معيار الموقع الوطني ومواجهة المشروع الأميركي-الصهيوني، معيار تغيير النظام الطائفي ومفتاح قانون الانتخاب، ومعيار التحركات الاجتماعية من أجل سياسة اقتصادية جديدة. رغم هذه المعايير، ذهبنا في اتجاه مختلف، وإلى تحالفات بعيدة ومتناقضة مع مشروعنا التاريخي.
لم تلتزم قيادة الحزب بمعايير المؤتمرات التي انتخبتها. لم يتم التحضير قبل الانتخابات بحركات شعبية، في الوقت الذي كان الجوع يبلغ معظم بيوت اللبنانيين، وطوابير الخبز والوقود هي الظاهرة العامة. لم يقم الحزب، بأي تحرك رافض لقانون الانتخاب. وبالأخير جاءت تحالفاتنا متناقضة للمعايير المذكورة. تحالفنا مع من يتبنى شعار الحياد، ويدين المقاومة لأنها مقاومة، وأكثر من ذلك تحالفنا مع من يطالب بوضع نصب تكريمي لسعد حداد.
خضنا المعارك ضمن لوائح، ترفع من الشمال إلى الجنوب شعار نزع السلاح، كهدف رئيسي، معركتنا الأساسية ضد النظام قفزت فوق المختارة وقصر الميقاتي ومعراب و... وكأنهم رموز العفة، ولم يبق من الفاسدين إلا حديدان الجنوب، ليس بسبب الفساد طبعاً، وهو بدون شك يطبع عدداً وازناً من مرشحي الثنائي، ولكن في وجه السلاح.
وللفساد نعود، اللوائح التي كنا ضمنها، كانت تحتوي على فاسدين، ليس بمعنى التمويل الخارجي فقط، بل فاسدين بالمعنى المباشر.
وانتهت الانتخابات، وعوضاً عن إجراء مراجعة نقدية، وتحمّل المسؤولية، طالعتنا القيادة بشعبوية مفرطة، وبانتصارية بعيدة عن الموضوعية وعن قيم النقد الذاتي وتحمّل المسؤولية. بين ليلة وضحاها، أعلن الأمين العام أنه أصبح لنا أوّل نائب تحت سقف البرلمان، وأصبحنا قادرين على تكتيل كتلة وازنة، تتكامل مع حركة شعبية في خارج البرلمان، لتحقيق النصر المبين. لم يتأخر الرد من قبل «الشيوعي المفترض»، وأعلن أنه «ليس شيوعياً، ولم يكن ولن يكون». المشكلة ليست بإلياس جرادي، فهو لم يدّع يوماً أنه شيوعي، بل قال إنه ينتمي إلى عائلة كانت تتجه يساراً. المسؤولية على من يحاول الالتفاف على الهزيمة السياسية، ليس الانتخابية فقط، ويذر الرماد في أعين الشيوعيين، محاولاً خداعهم للتهرب من المسؤولية. و«الكتلة النيابية العتيدة» لم تتأخر في إبداء انتمائها إلى مشروع آخر عندما اجتمعت بنواب هذا المشروع، تحت لافتة المعارضة. وعوض أن يشكل ذلك حافزاً للمراجعة، اكتفت القيادة ببيان عتب «الزوج المخدوع».
■ ■ ■

أخيراً، استطاعت قيادة الغرفة السوداء وأد الاستعداد الشعبي الذي برز يوم 17 تشرين، وعوض الدفاع عن هذه التجربة، والبناء على «انتفاضتنا»، ساهم الحزب في وأد هذه التجربة، وأكثر من ذلك حاول البعض المساواة بين هذه التجربة وجبهة المقاومة الوطنية، وفي ذلك إساءة إلى هذا الإنجاز التاريخي لحزبنا وللحلفاء وشعبنا. نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى مشروع «جمول»، بما شكّله من أداة لتحرير وبما هو مفترض منه كرافعة للتغيير.
لفترة طويلة ساد حزبنا وجمهورنا الإحباط والتشرذم، إلى أن طاولهم جميعاً رذاذ الأمل من كفررمان. جميعنا مدعوّون اليوم لتطوير الأمل الذي شكّله مهرجان «جمول» في كفررمان، وبشكل خاص التجاوب مع نداء منظمة الحزب فيها والتوجه إلى كل الشيوعيين، من أجل صيغة سياسية وتنظيمية، تنهي التشرذم وتعيد للشيوعيين موقعهم الوطني والسياسي والشعبي.
* الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني