حديثنا هنا عن مذكرات صائب سلام التي صدرت حديثاً في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إنّ الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شاركَ هو في صنعِ بعضها. ويُعلِّق صائب على المفارقة التاريخيّة الهائلة: أنّ حزب الكتائب كان على «استعداد وتسلّح واعتداد بالنفس» (ص. 702، ج2) كبير، لكنه عندما كان على وشك تلقّي هزيمة ساحقة على يد المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة في 1976. استنجدَ ساجداً بالنظام السوري، كما استنجدَ (من قبل ومن بعد) بجيش العدوّ الإسرائيلي. وهو فعل كل ذلك باسم السيادة، طبعاً. ويتساءل صائب عن أسباب دعم الحكومة الأميركيّة للتدخّل العسكري السوري في لبنان، وإذا ما كان ذلك من ضمن خطة مقصودة لـ«إغراق سوريا في رمال لبنان المتحرّكة». وفي هذا، يمكن ربط الموقف الأميركي من إطالة أمد الحرب الإيرانيّة ــ العراقيّة لإنهاك خصمَيْن في آن. لم تمانع أميركا وإسرائيل من إغراق منظّمة التحرير والنظام السوري في أوحال الحرب في لبنان على أن يبقى كيانُها في مأمن.

وفي سعي صائب لدعم ترشيح ريمون إده، يظهر أنه نجح في إقناع النظام السعودي بدعم إده، وهذا ما أكّده له ابنه فيصل (وكان مقيماً في السعوديّة) والديبلوماسي السعودي، علي الشاعر. وكانت العقبة هي إقناع حافظ الأسد بإده، وأعلمَ الأمير فهد السوريّين أنه «على استعداد لدفع كلّ ما يلزم لذلك» (ص. 704، ج2). هذه مفارقة أن دولة أجنبيّة تدفع مالاً لدولة أجنبيّة أخرى من أجل الإتيان برئيس جمهوريّة للبنان. لكن النظام السوري أصرَّ على موقفه في رفض إده زاعماً أنه سيترك حريّة الخيار الديموقراطي للنوّاب (طبعاً، تحوّل إلياس سركيس بسرعة من رجل حافظ الأسد إلى رجل إسرائيل وصحبها في لبنان). ولا ينفي سلام أن شدّة حماسه لترشيح ريمون إده كان من أجل الوقوف «في وجه المدّ اليساري الشيوعي، فينزع بذلك تلك الهالة التي أحاطت بجنبلاط، منهياً أسطورته هو الآخر» (ص. 709، ج2). ومن المعروف أن إده في الستينيّات وأوائل السبعينيّات لخّص الأخطار التي تواجه لبنان بثلاثة: الصهيونيّة والشيوعيّة والشهابيّة.
ويذكر صائب كثيراً ممارسات منظمة «الصاعقة» التابعة للنظام السوري. وهذا جانب هام في الحرب الأهليّة. لقد ارتكبت هذه المنظّمة الكثير من الموبقات والجرائم في الحرب، وكان قائدها زهير محسن (الذي اغتيل في مدينة كان الفرنسيّة، يا للمفارقة) يُكنّى بـ«زهير عجمي» لكثرة ما ارتكبت المنظمة من أعمال سرقة في المنازل الفخمة في محلّة القنطاري في بداية الحرب. أنا مرّة رأيتُ شقيق زهير محسن، ماجد، في سوبر ماركت «غوديز» في فردان وهو يأخذ ما يحلو له من المحلّ من دون دفع نقود. ويروي صائب في هذا الصدد دور «الصاعقة» في الضغط المباشر على النوّاب للاقتراع لسركيس، ومن دون أن يغفل دور المال في شراء النوّاب (ص. 708، ج2). والمؤسف أن أفعال منظمة «الصاعقة» (وحركة «فتح» أيضاً) ساهمت كثيراً في تشويه صورة المقاومة في لبنان، وساعدت البروباغندا الإسرائيليّة، لكن هذا لا يُعفي المنظّمات اللبنانيّة (مثل «المرابطون» وغيرها) من المسؤوليّة عن أفعال شنيعة ارتكبوها في الحرب. ينسى البعض أن هذه المنظمات كانت تضمّ الكثير من اللبنانيّين في صفوفها.
وخلافاً لما قيلَ بعد اغتيال رفيق الحريري، يظهر في اليوميّات كم كان موسى الصدر والمفتي خالد قريبَيْن من النظام السوري. ففي قمّة من قمم عرمون في منزل المفتي خالد، تقرّر إرسال موسى الصدر إلى دمشق لتبليغهم رسالة تعبّر عن قلق المجتمعين من جراء التدخل العسكري السوري (كانت حركة «أمل» وبعض الأحزاب اللبنانيّة، مثل «اتحاد قوى الشعب العامل» و«منظمة حزب البعث» التابع لسوريا وجناح في الحزب السوري القومي الاجتماعي من مؤيّدي التدخّل العسكري السوري في لبنان، إلى جانب «الكتائب» و«الأحرار» و«المردة»). وفي حزيران 1976، أدّى التدخّل العسكري السوري إلى نشوب اشتباكات دامية دامت يومين بين قوات منظمة التحرير وبين القوات الموالية لسوريا، وأدّى ذلك إلى خروجها كليّاً من بيروت الغربيّة وإنشاء «الجبهة القوميّة» برئاسة كمال شاتيلا، كبديل سوري عن الحركة الوطنيّة. ويذكر صائب مشادّة بينه وبين المفتي خالد لأن صائب تألّم «من موقفه (وموقف كرامي) المتملّق لسوريا» (ص. 712، ج2)—سرديّة 14 آذار باتت تحمّل النظام السوري المسؤولية عن اغتيال أقرب حلفائه، هذا من دون التقليل من مسؤوليّة النظام السوري عن اغتيال كثيرين في لبنان في سنوات الحرب الأهليّة. لقد حوّلت سرديّة 14 آذار، الصدر وخالد ورينيه معوّض إلى مقاومين ضد النظام السوري في لبنان. ويعترف صائب فجأة (بعد أن اعترف من قبل فجأة بتسليح ميليشيا «روّاد الإصلاح» من النظام العراقي)، أنّ النظام السوري نفسه ساهم في تسليح الـ«روّاد» إذ يقول: «أسرعَ شبابُنا في «المقاومة الشعبيّة ــ روّاد الإصلاح» إلى إعادة قطع السلاح التي كان الرئيس حافظ الأسد قد أهداها إلينا، وذلك بعد أن طالبتنا منظمة «الصاعقة» بإعادتها» (ص. 712، ج2). لكن صائب كان قد قال من قبل إن كل تمويل الحركة وتجهيزها كان ذاتياً. ويذكر صائب محاولة اغتيال ريمون إده في جبيل على يد حزب الكتائب: هذه الجوانب من جرائم الكتائب في الحرب لم تعد معروفة عند جيل من اللبنانيّين لأن الحزب نجح في إيهام الرأي العام أن كل مجازره وجرائمه في الحرب كانت من أجل... صدّ التوطين.
خلافاً لما قيلَ بعد اغتيال رفيق الحريري، يظهر في اليوميّات كم كان موسى الصدر والمفتي خالد قريبَيْن من النظام السوري


ويشرح صائب موقف الرأي العام الإسلامي في تلك الفترة، وأن معارضته للتدخّل العسكري السوري كان يمكن أن تكون أقوى لو أنه لم ينفر بعد بدء الحرب من منظمة التحرير والحركة الوطنيّة، تماماً كما أن النفور الشعبي المتعاظم بلغ أوجه ضد المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة عام 1982، وخلق أرضاً خصبة سمحت لإسرائيل باستغلالها في الاجتياح في ذلك العام (طبعاً، تغلغلت المخابرات الإسرائيليّة واللبنانيّة في صفوف المنظمات والعصابات المنتشرة في بيروت الغربيّة والجنوب من أجل أن تؤلّب الرأي العام ضدّ منظمة التحرير. وارتكب جهاز مخابرات الجيش -برئاسة جول بستاني وبعد ذلك جوني عبده- الكثير من عمليّات الإجرام في بيروت الغربيّة من أجل نسبها إلى منظمة التحرير الفلسطينيّة).
وهذه اليوميّات التي تتضمّن لقاءات كثيرة بين صائب وبين قادة المقاومة تعزِّز اليقين بأن منظمة التحرير، وياسر عرفات شخصيّاً، أساءَا إلى القضيّة الفلسطينيّة في تعاملهما مع الوضع اللبناني. وكان أقرب حلفائهما، مثل صائب سلام وكمال جنبلاط وموسى الصدر وسليم الحصّ، يشكون من أكاذيب عرفات والتناقض بين أقواله وأفعاله. وكان كلوفيس مقصود يقصّ علينا في واشنطن، وبتفصيل شديد، انطباعه ودهشته عندما دعاه كمال جنبلاط لحضور اجتماع بين قادة المقاومة برئاسة عرفات وبين قادة الحركة الوطنيّة. وفي اللقاء يعتب جنبلاط على عرفات لأنه أخلّ بوعوده في تسليح حزبه ولأنه صادر سفينة أسلحة كانت في طريقها إلى الحركة الوطنيّة.
ويتذمّر سلام من الموقف العربي الرسمي المنقسم بين موقف «بارد الاهتمام» وفريق «مؤيّد ــكثيراً أو قليلاًــ للسوريّين» (ص. 721، ج2). لكن صائب يعتب على الموقف السعودي ويقول بصراحة: «أما الموقف الأغرب في ذلك كلّه فكان موقف السعوديّة، والظاهر أنهم، مع غيرهم من الأطراف المحافظة، ينظرون إلى الصراع وكأنه صراع بين اليمين—الممثّل بـ"جبهة الكفور"—واليسار المتحالف مع المقاومة، والممثّل بكمال جنبلاط والشيوعيّين وحلفائهم». أهميّة اعتراف صائب أنه لم يعبّر يوماً علناً في حياته عن موقف معارِض أو معاتِب للنظام السعودي. والدعم السعودي للميليشيات الانعزاليّة لا يزال حقيقة غير معروفة عند الكثيرين في لبنان، مع أن جريدة «المحرّر» سارعت مبكراً في الحرب إلى كشف الدور السعودي في دعم حزب الكتائب.
ويتضح كم أن الزعامات الإسلاميّة التقليديّة كانت تجهد كي تحافظ على دور ما في ظلّ صعود أحزاب ومنظمات الحركة الوطنيّة قبل الحرب وفي السنة الأولى بعد اندلاعها. لكن فساد وسوء أداء قادة الحركة وعناصرها فتحوا ثغرة أتاحت للزعامات الإسلامية تجديد دورها من خلال ما سُمِّي في حينه «التجمّع الإسلامي» أو «جبهة المحافظة على الجنوب» عند الشيعة. وكان عرفات، على عادته، يناور ويلعب على أكثر من حبل، داعماً الحركة الوطنيّة يوماً والتجمّع الإسلامي يوماً آخر مستغلاً أي خلاف بينهما لبسط نفوذه. ويتهم صائب سلام رشيد كرامي بالتنصّل من المسؤوليّة ويقول عنه: «بتنا نعتقد أن مسؤوليّة كرامي عمّا حدث لا تقلّ عن مسؤوليّة سليمان فرنجيّة» (ص. 724، ج2). وهذا ظلم فظيع لأن سلطة رئيس الحكومة كانت جدّ محدودة بالرغم من برودة وتلكؤ سلوك كرامي في العمل السياسي.
وفي تلك الفترة عام 1976، طلعت الحركة الوطنيّة بفكرة «الإدارة المدنيّة» (نوع من الحكم الذاتي) لكن الزعامات الإسلاميّة وبعض الأحزاب، خصوصاً «اتحاد قوى الشعب العامل»، قادوا حركة منظّمة وفاعلة ضد مشروع الحركة، وأجهضوها مستفيدين من تنامي النقمة الشعبيّة ضد الأداء العسكري والسياسي لقادة وأحزاب الحركة الوطنيّة. وتعرّض مركز «روّاد الإصلاح» إلى هجوم من قبل تنظيم «الأمن الشعبي» (بقيادة فؤاد شبقلو، الذي انحاز إلى 14 آذار بعد اغتيال الحريري - كم جذبَ الأخير، بالإقناع لا بالمال، طبعاً، من قادة الحركة الوطنيّة) ودارت معركة «استمرّت زهاء ساعتيْن» وسقط فيها قتيلان للـ«روّاد». واعتذر عرفات لصائب عن سلوك التنظيم الموالي له، وتذمَّر لصائب من كمال جنبلاط واشتكى من الشيوعيّين (يبدو أن لا جنبلاط ولا عرفات كانا يحبان الشيوعيّين مع أن الرجليْن أعطيا حظوة كبيرة لجورج حاوي ومحسن إبراهيم). ولا يخفي صائب شعوره نحو محسن إبراهيم ويقول إن جنبلاط كان يستشيره في أموره. ويقول عن إبراهيم: «فأنا صرتُ مقتنعاً بأن هذا الأخير يقف وراء كلّ عمل تخريبي وراء جنبلاط وأبو عمار. ولقد زادت فعاليّته اليوم حين نصّبوه أميناً عاماً لتنظيم الأحزاب والقوى الوطنيّة ولقد أطلقتُ عليه لقب "ميني بريجنيف" لما يسمَّى الحركة الوطنية، إذ استمرّ نفوذ هذا المُخرِّب الشيوعي» (ص. 738، ج2). لكن صائب اختلف مع الموقف السعودي في طريقة مواجهة اليسار إذ يقول: «بينما اعتقد اليمين العربي، وهو السعوديّة خاصّة، أن مساعدة الجبهة المسيحيّة هي أفضل سبيل للوقوف ضد» التيار اليساري (ص. 742، ج2). مواجهة اليسار، برأي صائب، يستقيم عبر «مساندة القوى الإسلاميّة غير اليساريّة».

صائب على حق بأنّ أميركا فشلت في السيطرة على مقدّرات الحرب لأنه تداخل فيها عوامل كثيرة ومتشعّبة


ويعترف صائب بحفاظه على علاقة ودّ مع بيار الجميّل لأنه رآه غير ما رأى شمعون الذي يقول عنه أنه «ثعلب يسير وراء مصلحته الخاصّة ورغباته الماليّة. أما سليمان فرنجيّة فمتعصّب واقعٌ تحت تأثير شمعون. بينما أرى أن الكتائب، رغم ما صدر وما يصدر عنهم من تعصّب ووحشيّة وإساءات لا حدَّ لها، لديهم قضيّة يجب أن نعترف بتشبّثهم بها، ولو أنهم يبالغون في التشبّث وفي ألعابهم السياسيّة» (ص. 726، ج2). لكن صائب يكتشف خطأ تقييمه في دور بيار الجميّل و«الكتائب» في سنوات تقاعده (في الجزء الثالث من اليوميّات). وعرفات وجنبلاط لم يقطعا يوماً علاقاتهم واتصالاتهم بقادة الفريق الانعزالي، وكان سمير فرنجيّة صلة وصل بين وليد جنبلاط وبشير الجميّل. وصائب ليس على حقّ في زعمه أنه كان لاجتماعه مع بيار الجميل في عام 1976 في مطرانية الروم في الأشرفيّة «ردُّ فعل طيّب في الشارع الإسلامي» (ص. 735، ج2). أنا أذكر أجواء تلك المرحلة وأذكر أن الغضب عمَّ في بيروت الغربيّة من جراء ذلك اللقاء وقد زاد ذلك من عزلة سلام السياسيّة في المدينة.
ويشكو صائب من ميلشيا «المرابطون»، وهي بالفعل كانت ميليشيا استعراضيّة غير منضبطة، وكل زعيم حيّ فيها يتصرّف على هواه. بعض القادة المحليّين للحركة كانوا مجرمين، وانضباط الحركة تدهور بعد حرب السنتين التي أحسن إبراهيم قليلات الاستعراض فيها بهدف جذب أعضاء جدد. ويتحدّث صائب عن خطف عدد من المسيحيّين السريان في المصيطبة. لم يعثر صائب على قليلات فالتقى بسمير صبّاغ (وهو كان مثل عدد من قادة «المرابطون» على عكس شخصيّة قليلات: كان الصباغ وزياد الحافظ وسمير صبح وسنان براج خلوقين ومناضلين جديّين انخرطوا في «المرابطون» بهدف التغيير. وكانوا يخافون من قليلات لعلمهم ببعض ممارساته داخل التنظيم). وأخبر صبّاغ سلام أن أبو عمّار هو الذي أوعز لـ«المرابطون» بخطف الرهائن للضغط على المنطقة الشرقيّة بعد تل الزعتر (ص. 739، ج2). ويروي سلام أن سليمان فرنجيّة التقط في خلال التنصّت الدوري على الهاتف مكالمة بين سلام وعرفات وفيها يتوعّد الأخير: «ليس أفضل لي من القتال في بيروت فهي باتت غابة للقتال بين بنايات الإسمنت المسلّح» (ص. 740، ج2). والتهديد والوعيد (الفارغيْن) كانا من سمات ياسر عرفات، ما قلّص من مصداقيّته عند الصديق والعدوّ على حدّ سواء (تقارن نظرة العدوّ إلى نصرالله مقارنةً بنظرته إلى عرفات).
ونقل فيصل سلام، ابنه، له عن الأمير فهد «شيئيْن مهمّيْن». الأوّل أنه قال: «إنه علينا أن نساعد والدك مالياً لتعزيز الواقع الإسلامي»، والثاني أن عبد الحليم خدّام «ردّدَ لهم مراراً أن السوريّين اكتشفوا أن الرجل الوحيد الذي أثبت وجوده في لبنان هو صائب سلام» (ص. 740، ج2). لكن شهادة عبد الحليم خدّام ــ بسبب فساده وسوء خلقه وانصياعه لحافظ الأسد ــ لا يُعتدّ بها. أما أحمد بن سودة فنقل رغبة الملك الحسن الثاني في المغرب في تلبية المطالب المالية لصائب لـ«تعزيز وضعنا الإسلامي» (ص. 741، ج2). ما هو هذا الوضع الإسلامي الذي لا يتعزّز إلا بالمال؟
ويختلف صائب سلام مع ريمون إده في نظرته المؤامراتيّة عن دور أميركا في لبنان. كان فهم ريمون إده للعلاقات الدوليّة بسيطاً ومبسّطاً، وكان يربط الحوادث والمواضيع على طريقة فارس سعيد في ربطه انقطاع المياه في حيّ في جبيل بمفاوضات الملف النووي في فيينا. إده كان على قناعة أن كسينجر واظب على إدارة الحرب الأهليّة في لبنان حتى خواتيمها (كسينجر خرج من الحكم عام 1977). لكن سلام يقلّل من، أو ينفي حتى، وجود مؤامرة أميركيّة في الحرب الأهليّة. إن الذي نُشِر (وسيُنشر قريباً في كتاب لنيت جورج المتخرّج حديثاً من جامعة رايس) يؤكد أن الدور الأميركي في الحرب الأهليّة كان أكبر بكثير ممّا وردَ في أدبيّات الحركة الوطنيّة وفي اتهامات اليسار اللبناني. ما معنى أن نكتشف أنه كان هناك جنرال أميركي متواجداً على كوع الكحّالة في أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات مع مقاتلي «الكتائب»، عندما كانت «الكتائب» تستفزّ قوافل المقاومة المارّة (أو حتى شاحنات تنقل القرآن). صحيح أن أميركا، كما يقول صائب، كانت ضد التقسيم لأنها وجدت في المشروع تدميراً لليمين اللبناني. كانت تنصح بشير الجميّل بفكرة لبنان الواحد، وهو اقتنع بذلك عندما وعده أرييل شارون بالسيطرة على كلّ لبنان. وصائب على حق أن أميركا فشلت في السيطرة على مقدّرات الحرب لأنه تداخل فيها عوامل كثيرة ومتشعّبة (ص. 742، ج2).
وأقام أبو حسن سلامة علاقة حسنة مع كميل شمعون والانعزاليّين وكان يتردّد أحياناً على صائب (يقول المناضل الفلسطيني أبو داوود أن سمعة أبو حسن القتاليّة شابها الكثير من المبالغة ربما لنجاح أبو حسن في الاستعراض وفي نسب نجاحات غيره لنفسه). كان أبو حسن من أنصار وقف القتال والتمنّع عن مشاركة المقاومة الفلسطينيّة في الحرب. يقول عنه صائب: «بدأتُ أرى فيه شاباً عاقلاً ومسؤولاً بعدما كنت أظنّه مجرّد "بلاي بوي"، وكان أبو حسن يرى أن جنبلاط والشيوعيّين يجرّون الفلسطينيّين إلى المهاوي» (ص. 746، ج2). وكان سلام يرفض مساعي من لبنانيّين وفلسطينيّين لإنشاء جبهة عريضة تضم قوى الإسلام التقليدي مع الحركة الوطنيّة (يذكر في هذا الصدد مبادرة من قبل أبو عمّار وهاني الحسن، ثم من قبل كلوفيس مقصود - ص. 749، ج2. كما يذكر دوراً لباسل عقل وهاني سلام - ص. 797، ج2. لكن هذه غير معقولة لأنه لم يكن يرى هاني في كل هذا السنوات بعد أن كان قد قطع العلاقة معه في أوائل الستينيّات—ويذكر سلام مستهجناً أن هاني سلام حضر اجتماعاً بين كرامي وإلياس سركيس -وكان سلام قريباً من الاثنيْن، خصوصاً كرامي). لكن صائب اتفق في رفض تشكيل الجبهة العريضة مع النظام السعودي الذي هاله أن يتفق مسلمون مع... شيوعيّين. يا للهول.

(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@