مَن يقرأ بطريرك روسيا كيريل يعلنُ أنّ مَن يدافع عن بلاده ويموت في الحرب «تُمحى خطاياه»، بعدما أعلن منذ سنوات الناطق الرسميّ باسم الكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة أنّ حرب روسيا في سوريا هي «حرب مقدّسة»؛ يتساءل عمّا سيؤول إليه الخطاب من تردٍّ إن نشبت حرب عالميّة ثالثة.تاريخيّاً، منذ دخول الإمبراطور قسطنطين المسيحيّة، لم تدعُ الكنيسة المسيحيّين إلى ترك الجنديّة أو الحياة العامّة. بقي الأساس العام أنّ «الخلق كلّهم عيال الله» بسبب من أبوّة الله الخالق، وكلّ قتل هو شرّ وهو أيضاً قتل يحدث بين إخوة. الموقف هو أنّه بالرغم من أنّ استفحال الشرّ قد يتطلّب الحرب، وبالتالي القتل، فإنّ القتل بحدّ ذاته يبقى شرّاً ولا يغدو خيراً بمجرّد الاضطرار إليه؛ أي أنّه شرٌّ لا بدّ منه. ولهذا كانت الكنيسة الأرثوذكسيّة البيزنطيّة تُخضع العائدين من الحرب إلى مسار من التوبة بسبب اضطرارهم إلى القتل في الحرب.
من أجل ذلك لم تعرف الأرثوذكسيّة في لاهوتها عبارات مثل «الحرب المقدّسة». لا يوجد في الإنجيل، ولا في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة، ما يمكن الاستناد إليه للقول بحرب مقدّسة، مهما كانت تلك الحرب ضروريّة ودفاعيّة، فكيف إن لم تكن؟ فالقدّوس الوحيد هو الله الذي تراه المسيحيّة محبّة، وبالتالي لا قداسة خارج المحبّة المتمثّلة بيسوع المسيح الذي مات حرّاً مدافعاً عن مبادئه وشاهداً للحقّ، ومن أجل ذلك قُتِلَ ولم يَقْتُلْ في موقفٍ يشبه ما ورد في القرآن «لئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك» (المائدة). لذلك، فالموقف الرسميّ للكنيسة الأرثوذكسيّة بقي أنّ المقتولين من أجل الإيمان وحدهم يُدعون شهداء. أمّا الغفران فهو عمليّة تتمّ بناءً على مسار رجوع عن «خطيئة» (والكلمة تعني حرفيّاً: إخطاء الهدف)، رجوع إلى خطّ المحبّة وهدفها.
لكنّ البطريرك كيريل، في محاولته دعمَ قومه وموقف بلاده السياسيّ والعسكريّ، وصل إلى حدّ توزيع نوع من صكوك غفران. في ماضٍ سيّئ الذكر، كان الباباوات يعطون صكّاً لغفران الخطايا مقابل التبرّع بمبلغ من المال، واليوم البطريرك كيريل يطلب أكثر، يطلب الحياة البشريّة أضحيةً على مذبح السلطة المدنيّة مقابل صكّ غفران وهميّ. هو يذهب أبعد من بعض باباوات الماضي، باستخدام حياة الإنسان ثمناً لمفتاح للجنّة ابتكره هو خدمةً للسلطة المدنيّة، وبهذا هو ينقلب على دوره كبطريرك، فدوره أن يشهد لكلام الإنجيل، ولو كان على تعارض مع السلطة المدنيّة ليُبقي على استقلال المجال الإيمانيّ عن المجال السياسيّ ولا يصبح خادماً في بلاط الدولة ولمصالحها.
الكنيستان تتصارعان على ترؤّس العالم الأرثوذكسيّ والبطريركان ضالعان في توظيف الكنيسة لخدمة بلاط السلطة


لدينا من الجانب الآخر البطريرك الأرثوذكسيّ المسكونيّ برثلماوس في إسطنبول، يخدم ما يوافق بلاط الولايات المتّحدة الأميركيّة، فسرعان ما وافق عام 2019 منفرداً، وبطريقة مخالفة للقوانين الكنسيّة، على خلق كيان كنسيّ في أوكرانيا ينفصل عن كنيسة موسكو، أي على شقّ الكنيسة الروسيّة لتصبح كنيستين، كلّ في بلد. وكانت الولايات المتّحدة تدفع للانفصال وتدعمه بشكل علنيّ بشخص وزير الخارجيّة الأميركيّ حينها بومبيو الذي كان أوّل وزير خارجيّة أميركيّ يزور خلال ولايته البطريركيّة المسكونيّة. إنّ البطريرك المسكونيّ نصّب نفسه في مخالفة فاضحة للّاهوت الأرثوذكسيّ رئيساً للعالم الأرثوذكسيّ كلّه، خارقاً بذلك القوانين الكنسيّة التي لا تقبل إعلان استقلال كنيسة جديدة إلّا بموافقة جميع الكنائس. فيما البطريرك الأوكرانيّ المنصّب حديثاً على كنيسة أوكرانيا المنشقّة غارق حتّى أذنيه في لعبة القوميّة الأوكرانيّة والكراهية.
الكنيستان المسكونيّة والروسيّة تتصارعان على ترؤّس العالم الأرثوذكسيّ، والكنيستان غارقتان في عبادة قوميّتيهما اليونانيّة والروسيّة، وتعلنان أنّ لغتيهما الصلاتيّتين «مقدّستان». البطريركان يعملان على توظيف الإله في خدمة الموت والحرب، فالبطريركان ضالعان في توظيف الكنيسة لخدمة بلاط السلطة السياسيّة والعسكريّة. الإمبراطوريّة الأميركيّة من جهة، والقوميّة الروسيّة من جهة أخرى. كلتاهما تستعملان بلادنا بيادق لمصالحهما، وهما متصالحتان مع الكيان الصهيونيّ، وتدعمانه وترتاحان إليه. فيما بلادنا تضمحلّ، ويستمرّ بطاركة الشرق في ترداد كئيب لخطابات رتيبة باهتة فارغة من الحياة، ويتابعون صمتاً معيباً عن قمع السلطات السياسيّة واستغلالها، مطبّعين مع الظلم ومتطبّعين به، مقابل التمتّع بالسلطة الكنسيّة والانشغال بمهمّات «كبرى» مثل وضع الأسقف المطيع في المكان المناسب للسلطة الدينيّة، وحماية السياسيّين والمرتكبين من مطارنة وكهنة ورهبان، في رقصة دينيّة - سياسيّة همجيّة فوق أشلاء الأوطان والناس. كلّ هذا يتمّ في كنيسة مات سيّدها الوحيد، في عري الفقراء والمهمّشين، خارج أسوار السلطة، وعاش في خدمة الفقراء، وعلّم أنّ السيادة بالخدمة لا بالتسلّط، وأنّ الذين يدعون أبناء الله هم صانعو السلام.
* كاتب، وأستاذ جامعي