على رغم الوجود الفلسطيني العربي السابق في أوروبا لموجات اللجوء الأخيرة، والذي بدأ بوضوح بالتشكّل مع البعثات العلمية والطلابية (وبخاصة في ظل النظام الاشتراكي للاتحاد السوفياتي حيث سهّل التعاون الذي كان ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين الاتحاد هذه البعثات وكرّس حضور الجالية الفلسطينية في أوروبا، بخاصة في دول شرق أوروبا وألمانيا الشرقية)، ومن بعد ذلك مع موجة اللجوء التي سببتها الحرب الأهلية اللبنانية ومن بعدها غزو العراق... فقد ظلت موجات اللجوء تلك متواضعة العدد والكثافة مقارنة بموجة اللجوء الحالية. فالأخيرة أجبرت أكثر من 80 ألف فلسطيني من مخيمات سوريا على قطع البحر والاستقرار في أوروبا، بالإضافة إلى الآلاف الذين جاؤوا تباعاً من الدول الأخرى، مثل لبنان، نتيجةً لعدم الاستقرار الذي عمّ المنطقة ما بعد ثورات الربيع العربي.

هذا الواقع الذي نشهده الآن في شوارع أوروبا مختلف تماماً عمّا سبقه كمّاً ونوعاً، فما الذي اختلف تحديداً ما بين جيل اللجوء الجديد والقديم؟ ما سيساعدنا على فهم هذه الظاهرة التي نشهدها في الغرب عموماً هو الانطلاق في تحليل الأسباب والمحفزات التي دفعت باللاجئ الجديد إلى ترك المخيم والبلاد ومقارنتها مع دوافع الجيل القديم في اللجوء. فما بين الجيلين فروقاتٌ جذريّةٌ جوهرية منها ما له علاقةٌ بـ«نوع» المهاجرين وإلى أية طبقة هم ينتمون، وأخرى بالكثافة العددية والكتلة البشرية التي استطاعت أن تستقل في دول القارة الأوروبية، ويمكن عرض هذا التحليل باختصار عبر النقاط التالية:
1- الفلسطيني القادم حديثاً من مخيمات دول الطوق (سوريا تحديداً)، لم يترك المُخيم بحثاً عن العمل، أو عن التعليم أو عن أيّ من المغريات التي تقّدمها أوروبا للاجئين، بل ترك المخيم قسراً وهرباً من الحرب، وهو الذي ما كان سيترك المُخيم يوماً إلّا إلى فلسطين، وذلك بعكس أغلبية الآخرين القادمين في منتصف ونهايات القرن العشرين بحثاً عمّا تُقدّمه هذه الدول من امتيازات، وبذلك هناك اختلافٌ جوهري بين هذا الإنسان وذاك، فالأوّل قد عاش حالة تعبئة سياسية شعبية في المخيّم ولم يختر أن يتركها بإرادةٍ منه، وأمّا الثاني فقد يكون قد ترك المخيّم وحدود فلسطين طوعاً وعن وعي تام بحثاً عن حياة وفرص «أفضل». وبذلك يكون الاستعداد النفسي للأوّل للعمل الثوري أعلى بكثير من الآخر.
2- هذا الفلسطيني/العربي الفار من الحرب يتموضع في أدنى السلّم المجتمعي في المجتمعات الأوروبية الحديثة، بعكس الآخرين الذين قَدِموا إلى الغرب على أنهم «نخبة المجتمع»، إمّا على المُستوى الاقتصادي أو العلمي أو كليهما معاً، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى انطواء على الذات عند جيل اللجوء الجديد الذي يتمثّل في تجمعات سكنية وتجارية ذات لغة وطبع وهوية خاصة ومجتمعات موازية داخل أكبر العواصم الأوروبية - كحيّ «النوي كولن» في العاصمة الألمانية برلين الذي يشكل مثالاً حيّاً لهذه الظاهرة الآخذة في الاتساع على امتداد القارة. فهذه المجتمعات الهُويتية الموازية التي تتكون ببطء ستحفظ عنفوان وراديكالية الجماهير العربية والفلسطينية في ما يخص القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. هذا العنفوان الذي تهدّده عملية التدجين التي تسعى إليها الحكومات الأوروبية تحت ما يسمى «الاندماج» الذي يتضمن صهر مجتمعات اللاجئين في المنظومة القيمية والثقافية الغربية عبر مؤسسة السوق والعمل الرأسمالية.
3- الفقر، كما علّمنا التاريخ، عامل التمرّد الأساسي، والفقراء هم السيف الضارب في أي تمرّد أو ثورة، وهذا ما ينطبق على هؤلاء اللاجئين الجدد على الأقل حتى الثلاثين عاماً المقبلة. فقرهم سيُنظّمهم (82% من السوريين في ألمانيا يعيشون على حافة الفقر). وأمّا عن أسباب هذا التمرّد المحتمل فهي كثيرة وعلى رأسها القوانين العنصرية بحق الجاليات المسلمة والعربية في أوروبا، كمحاولة حظر الحجاب في أماكن العمل الحكومية من خلال قانون «الحياد» الذي سُنّ في العام 2021 في ألمانيا أو العنف البوليسي الذي تواجهه هذه الحشود كحظر تظاهرة النكبة العام الجاري في برلين، بالإضافة إلى القمع السياسي الذي تواجهه الحركات المناضلة لأجل فلسطين في أوروبا كمحاولة حظر وحلّ «رابطة فلسطين ستنتصر» في فرنسا من قِبل الرئيس إيمانويل ماكرون.

ما علاقة هذا كلّه بفلسطين؟
هذه الجموع المُفقرة القادمة من المخيمات إلى أوروبا، هي ثروة بشرية من الواجب أن تُنظّم نفسها وأن ترصّ صفوفها في إطار «الثورة الفلسطينية»، تماماً كما كانت الحال في الستينيات والسبعينيات في مخيمات سوريا ولبنان والأردن. وهذا التنظيم لا شك في أنّ عليه أن يتخذ أشكالاً مختلفة تبعاً لظروف المكان والزمان، ولكن من المؤكد أيضاً بأن على هذا الشكل النضالي في الشتات، وبخاصة في «العالم الأوّل»، أن يتجاوز مرحلة شكل النضال المُتمثّل في التضامن الذي يهدف إلى «تغيير الرأي العام» من خلال الحديث مع الآخر الأوروبي/ الأميركي والنواح على عتبات مؤسساتهم وجمعيّاتهم كما عوّدتنا سفارات وقنصليات السلطة الفلسطينية في الشتات. فقد علّمتنا المقاومة بأن لا محرّك للرأي العام والمجتمع الدولي إلا الفعل، والفعل المباشر أعني.
وهذا الصعود المُرتجى في حالة النضال والتغيّر الجذري المأمول في شكل وأسلوب الحركات الشعبية الفلسطينية في أوروبا قد تهيّأت له كل الظروف المناسبة خلال السنوات العشر السابقة. فمن خلال هذا التشكيل الديموغرافي والاجتماعي الجديد للشتات تحقق التواصل بين أعضاء الجسد الواحد الذي مزقته الاتفاقيات الدولية والتنازلات السياسية، أعني ما بين فلسطينيي الضفة وغزة وبين فلسطينيي مخيمات سوريا ولبنان والأردن وغيرها، وصار بالإمكان تشكل حركات شعبية في الشتات تضم كل عناصر وأطياف الشعب الفلسطيني، في هزيمة واضحة للجغرافيا التي حاول المُستعمر أن يفرضها على الفلسطينيين في المنطقة العربية ككُل. وذلك بالإضافة إلى الفرصة السانحة لهذه الحركات الشعبية الوليدة للانفتاح على عمقها العربي والأممي على المستويين الشعبي والسياسي في الغرب عامة وأوروبا تحديداً، وهذا ما يقدّم فرصة استراتيجية لإعادة «تأميم» المقاومة والقضية الفلسطينية كما كانت ما قبل أوسلو. وهذه الظروف لم تكن سانحة قبل ذلك للشتات الموجود في أوروبا ما قبل موجات اللجوء الأخيرة، فحتى ولو كان هناك أي شكل من أشكال التنظيم الشعبي فقد كان ضئيلاً ضعيفاً -نظراً للكتلة البشرية الصغيرة- ومرتبطاً بلا شك بمنظمة التحرير وخطابها السياسي. وذلك بعكس الواقع الجديد -المتأثر بلا شك أيضاً بالحالة الشعبية في فلسطين المحتلة- الذي يطرح إمكانية تنظيم شعبي واسع وصلب ومحرر من وهم أوسلو الذي سيطر على الساحة السياسية خلال العقدين الأخيرين. ومن هذه الحركات الشعبية الوليدة نذكر منها «المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج» الذي عقد مؤتمره الثاني في إسطنبول في شباط الماضي والذي دعا فيه إلى جبهة وطنية موحدة لتفعيل دور الشتات ولمناهضة الاحتلال وسلطة أوسلو، وأيضاً حركة «المسار الثوري الفلسطيني البديل» التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في تشرين الثاني عام 2021 وأعلنت فيه عن برنامج نضالي فلسطيني أممي في الشتات يرتكز على مبادئ الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1968 الذي يعتبر فلسطين وحدة جغرافية سياسية واحدة والمقاومة المسلحة حق مشروع في مجابهة الاستعمار.
هذه الحالة الثورية الشعبية الموجودة في أوروبا خاصة وبقية أنحاء العالم بشكل عام، هي حال مؤقتة حتى الجيل الثالث من أبناء اللاجئين القادمين حديثاً، وذلك بسبب الاندماج المستمر للأجيال القادمة في المنظومة المجتمعية والقيمية الأوروبية، أي تجريد الفلسطيني في الغرب ببطء من هويته الوطنية السياسية وحصره في إطار الخطاب الحقوقي. ما يعني أن قوى المقاومة في سباق مع الزمن؛ فإما أن يستغلّوا هذه الفرصة التاريخية أو أن يضيعوها بتلكؤهم وتململهم.

ما المطلوب؟
المطلوب هو تنظيم سياسي شعبي مستقل يُنتِجه الشتات بنفسه ويطرح من خلاله مشروعاً سياسياً ثورياً حقيقياً، قادراً على أن يحلّل هذه الحال الشديدة الجِدّة على القضية الفلسطينية -أي انتقال المخيمات من لبنان وسوريا إلى أوروبا وأميركا- وأن يكتشف الكنوز الكامنة في هذا الوضع الجديد للاجئ الفلسطيني، وبناءً على ذلك، على هذا المشروع السياسي أن يتيح للشتات الفلسطيني بأن يصبح جزءاً عضوياً من الحركة الشعبية الموجودة في الأراضي المحتلة ومن انتفاضاته الشعبية المناهضة لسلطة أوسلو والاحتلال الصهيوني والأذرع الاستعمارية الغربية. وبذلك يعود هذا الشتات، الذي يمثّل غالبية الشعب الفلسطيني، ليكون صاحب بندقية وقرار سياسي، وبذلك ستشقّ هذه الحشود لنفسها آجلاً غير عاجل طريقاً ثورياً يمر عبر باريس ولندن وبرلين حتى القدس.

* طالب فلسطيني