تقف قيادة القوى السياسيّة والشعبيّة في حركة المقاومة الفلسطينيّة أمام مسؤوليّةٍ نضالية وتاريخيّةٍ من طرازٍ خاص، وقد طال وقوفها حائرة وقلقة في دوائر الانتظار والعبث على مُفترق طُرق. ويحدُث أن تتحفّز قوى المقاومة، في بعض الأوقات، وتتقدّم نصف خطوةٍ مُرتبكةٍ نحو «صيغة ما» للوحدة الوطنيّة، غير أنّها سُرعان ما تتراجع. تعود وتلوك الشعارات والمواقف المُكرّرة ذاتها عن «المصالحة» و«أزمة المشروع الوطني الفلسطيني». إنها تستأنس في موقع «المعارضة» والحيّز الآمن، فيما يد العدو الصهيوني مطلقة تفرض «الحقائق» على الأرض. وتتفاقم الأزمة الداخليّة الفلسطينيّة، وهي أزمةٌ شاملة وعميقة ذات طبيعة خاصّة ومُركّبة، ودون التصدّي لأسبابها وأمراضها وجذورها، وتقديم الحلول الواقعيّة الثوريّة، فلن يتحقّق التغيير المنشود، ولن يعثر الشعب الفلسطيني على جبهته الوطنيّة الموحّدة التي يريدها ويُدرك بحِسّه التاريخيّ أنّها شرطُ انتصاره وقاطرته نحو العودة والتحرير.
وإذا كانت السلطة الفلسطينية رهينة اتفاقياتها وامتيازاتها وعلاقاتها، فإن قوى المقاومة رهينةُ تفكّكها وأوهامها وارتباكها، غير قادرة على الذهاب نحو النموذج الجزائري الثوري في صيغة «جبهة التحرير» وتختار الذهاب إلى تكرار الفشل في جولة مصالحة جديدة ترعاها الجزائر. الفشل أسهل بكثير من المواجهة والقطع التام مع نهج أوسلو. والذرائع موجودة وجاهزة. في الوقت ذاته، لا تُقدِّم قوى المقاومة الفلسطينية نموذجها الوطني ورؤيتها الخاصة عن ماهية الجبهة الوطنية الموحدة التي تريدها، رغم أن قواعدها المناضلة وحواضنها الشعبيّة يقظة ومتحفزة، تُقاوم وترفض الاستسلام ومشروع الحكم الذاتي الهزيل.

إن الطبقة المُهيمنة على مؤسَّسات «المُنظّمة» و«السلطة» لم تترك حيّزاً للحوار والتوافق، وتعمل في السر والعلن على خدمة المستعمر الصهيوني - الأميركي - الأوروبي. حسمت موقعها وخيارها قبل ثلاثين سنة، فيما لا تزال تيّارات «محسوبة على المعسكر الوطني» مستعدة للتواطؤ مع مشروع الحكم الذاتي، وتغطي عوراتها برداء «الممثل الشرعي الوحيد» المؤسسة التي شيّدها الشعب الفلسطيني بالتضحية والنضال، ثم تآكلت على يد قيادتها في مطحنة التسوية وعجلة التدمير الذاتي، ولم تعُد المنظمة صالحةً، أو حتى قابلة، للإصلاح، أو قادرة على القيام بدور الجبهة الوطنيّة الموحّدة والموثوقة.
نعم، للسلطة الفلسطينيّة وقواها السياسية أزمتها الخاصّة، وللمقاومة الفلسطينية وقواها عثراتها ومعضلاتها، غير أن الأزمة الداخليّة الفلسطينيّة لا تكمُن في تعدديّة القوى والمشارب والمدارس السياسيّة والفكريّة كما يتصوّر البعض، بقدر ما تكمُن في عجز القوى الحزبيّة وقصورها الذاتي وضعف قدرتها على الاستجابة لنداء قواعدها وللتجديد الثوريّ. إنّ تعدُّد التيارات الفكرية طاقة كبرى وهائلة لحركات التحرّر الوطنيّة التي تواجه الاستعمار - والحالة الفلسطينية ليست استثناءً - شرط أنْ تكون هذه المدارس الفكرية موجودةً وفاعلة حقاً، ويجري توظيف التعددية من أجل تحقيق أهداف الأكثريّة الشعبيّة صاحبة المصلحة في التغيير والتحرير، وليس لتأمين مصالح وامتيازات فئوية ضيقة وصغيرة.
إنّ البحث عن ماهية الجبهة الوطنية الفلسطينية الموحدة يشترط تحديد طبيعة التناقض الداخلي الفلسطيني الذي يتجسّد في صراعٍ محمومٍ بين طبقات مُفقرة ومقصية ومخدوعة، خسرت كلّ شيء، وطبقة «السلام الاقتصادي» والمصارف والشرائح الوكيلة للاحتلال. ففي أتون هذا الصراع، تتبدّى وجوه الأزمة عند كلّ الأطراف، تتكشّف مأساة «الكلّ الوطني» وخاصة مشكلات حوامل التغيير المفترضة. وإنّ فاقد الشيء لن يُعطيه، كما يُقال، فمن لا يرى أبعد من قدميه لن يرسم استراتيجيّة للتحرير ولن يستشرف المستقبل. دليلنا على ذلك هو فشل قوى المقاومة الفلسطينية - حتى الآن - في تأسيس جبهة وطنية فلسطينية موحدة، هذا يعني ببساطة: غياب الشرط الأول والأهم لتحقيق النصر.
القصد من وراء الدعوة إلى الشروع الفوري في تأسيس الجبهة الوطنيّة المُوحّدة هو العثور على صيغةٍ واقعيّة وثوريّة جديدة تنطلق من واقعنا الفلسطيني والعربي المشخّص، صيغة تواكب العصر وتُعيد رسم العلاقة بين الفلسطينيين. وجبهة وطنية تتجاوز ما يمكن تسميته بـ«فصائل السلام»، فالمطلوب قاطرة جماعية وثورية عابرة للأديان، والأحزاب، والشرائح الاجتماعية، واللغات، والهويّات المحلية والمناطقية، بوصفها ضرورةً تاريخيّة ونضاليّة لا بدّ منها، وأداةً استراتيجيّة في قبضة شعبٍ مناضل وشجاع يُقاتل منذ 125 سنة كل قوى الاستعمار والصهيونيّة والرجعيّة لتحقيق أهدافه الكبرى؛ التحرير والعودة، واسترداد حقوقه وثرواته. لا يرفع راية بيضاء ولا يستسلم.
في إطار الجبهة الوطنية الموحدة، سيكون في وسع الشعب الفلسطيني صهر كلّ عناصر قوته وتعظيم قدرته، كشعب له وطن واحد وقضية وطنية واحدة وعادلة. لكنّ الجبهة الوطنية العريضة - للأسف الشديد - أصبحت شعاراً يجري علكه على الفضائيّات، يشبه مقولات كثيرة لا تعني أيّ شيء، إذ فقدت مضمونها ومعناها الحقيقي: مثل «الوحدة الوطنية» و«إنهاء الانقسام» و«إصلاح منظمة التحرير» و«تحقيق المصالحة» و«تشكيل حكومة وحدة وطنية» و«الانتخابات» وغيرها وغيرها من أحجيات يفسّرها كلّ فصيلٍ بحسب مصلحته ومزاج قيادته.
ومن حق الشعب الفلسطيني أن يسأل قوى المقاومة عن الأسباب التي تحول دون قيام الجبهة الوطنية وتحقّقها في الواقع؟ ومن سيصيغ أهدافها، رؤيتها، مُؤسَّساتها، تركيبتها، مُكوّناتها، مجالسها، دستورها، مشروعها السياسي، علاقتها مع النظام العربي الرسمي ومحاور الإقليم والعالم، كيف ستناضل بين تجمّعات الشعب الفلسطيني والمخيّمات المتروكة للريح وقد أصبحت جُزراً معزولة تعيش حالة اغتراب عن قضيتها، ولا تشبه بعضها البعض. لا أحد يدلّنا على أدوات وسُبل التغيير، وكيف سيجري الانتقال من نظام «الكوتا» والمحاصصة إلى فضاء الجبهة الوطنية العريضة الموحّدة؟!
السؤال المُتّصل بآليّات وسبل التغيير السياسي والاجتماعي في الواقع الفلسطيني يفترض البحث في هويّات وحوامل برنامج التغيير والتحرير أولاً، فهل القوى الموجودة قادرة ومؤهلة - وحدها - على تحديد مهمّات التحرر الوطني والاجتماعي، ووضع البرامج والسياسات التي من شأنها أنْ تحقّق التغيير الثوري وتضمن حمايته وتراكمه التدريجي؟ فالتغيير الشكليّ يظلّ مجرد طواف سلبي على سطح الأشياء، له أثرٌ مؤقّت وهشّ ولا يصمد طويلاً، بل يُعيد إنتاجَ الأزمة ويبعث على القنوط والإحباط. أمّا التغيير الجذريّ، وهو المراد، فإنّه لا يقتصر على منطقةٍ واحدةٍ أو مجالٍ واحدٍ أو جيلٍ واحد، لن يأتي بضربة حظٍّ أو بانقلاب، ولا تحقّقه أنصاف المواقف والحلول المجتزأة، وتجريب المُجرَّب.
الانتقال من اللحظة الراهنة إلى الجبهة الوطنيّة الموحّدة يعني الانتقال من حيّز المقاومة إلى فضاء الثورة، ومن دوائر «الفزعة» إلى الاستراتيجية والتنظيم، ومن ردّ الفعل العفوي والفردي إلى روح المبادرة الشعبيّة، ومن الولاء للقبيلة إلى الولاء للشعب، ومن حوار الفصائل إلى الحوار الشعبي المفتوح، ومثل هذه الأهداف لا تتحقّق بالرغبة والتمني والبيانات المكرّرة مع كلّ جولة «مصالحةٍ» برعاية المخابرات العربية في القاهرة والدوحة وغيرها؛ فهناك شروطٌ لا بدّ من توافرها: كالرؤية الاستراتيجية الشاملة، والإرادة السياسيّة، والوحدة النضاليّة في ميادين العمل والنضال المشترك، وكلّها مقدمات للتغيير الثوري الديموقراطي إلى جانب عناصر أُخرى مهمّة وضروريّة نأتي عليها لاحقاً.
أوّل شروط التغيير يتمثّل في معرفة الواقع الفلسطيني. وهذه معرفة لا تُقاس بكثرة الأخبار والبرامج والمقالات والكلام والمعلومات والأرقام، بل بإدراك أحوال الناس وظروف عيشهم، وخلق مناخات جديدة تؤمن المشاركة الشعبية الفاعلة وتحفّز الجماهير على الولوج مرةً أُخرى إلى بحر السياسة. إنها معرفة تصنعها عقول وسواعد كثيرة وليس «ممثّلو الفصائل» ومعرفة تؤسّس لرؤية واضحة تنطلق من واقع الشعب وحاجاته ومصالحه أولاً. والهدف هو أن يستعيد الشعب الفلسطيني مفاتيح قضيته وقراره الجماعي. ويراقب التراكم الكمّي والنوعي الذي يعتمد قانون الصبر التاريخي لتحقيق انتصارات صغيرة تُعزز هيبة الجماهير وقدرتها وتصُبّ في خدمة هدفها الاستراتيجي الكبير: تحرير فلسطين.
نُخطئ حين نتعامل مع «المجتمع الفلسطيني» بوصفه مجتمعاً واحداً مُتجانساً ومُتشابهاً. إنّنا شعبٌ يعيش في مجتمعات متعددة، وهذا يتطلّب إدراكاً للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لكلّ تجمّع فلسطيني في الوطن والشتات. فلا تستطيع تحديد موقفٍ من مسألة لا تعرفها، فكيف تريد تغيير مُجتمعٍ تجهله؟ كيف تقاتل عدواً لا تعرف عنه أي شيء؟ وفي زمن مضى كتب الراحل الكبير د. أنيس صايغ عن «الجهل بالقضية الفلسطينية» وهو يشرع في تطوير مركز التخطيط والأبحاث في بيروت، فلن تنتصر الثورة إذ تجهل أحوال شعبها ولن تنتصر أمّة تجهل ألف باء القضية المركزية.
وما يَصحّ من حلولٍ وممارسة لأشكال النضال وسُبل التغيير وطرائقه المتعددة في بلدٍ ما، قد لا يَصحّ في منطقةٍ أُخرى، هذا سببه اختلاف الواقع المادي المَعِيش لشعبٍ مُشرّد في أصقاع الكون بعد اقتلاعه من وطنه عام 1948 وبعد عدوان حزيران 1967، وبعد سلسلة طويلة من المجازر وحروب الإبادة والطرد والتهجير، فما أحدثه الاستعمار الصهيوني وحلفاؤه من آثار وتشوّهات على الوجود الفلسطيني يدفعنا إلى البحث في سؤال: ماذا حدث للفلسطينيين؟ وماذا حلّ بهم داخل وطنهم (الجزء المحتلّ عام 48، القدس، غزة، الضفة) وفي المنافي والمهاجر؟
الواقع الذي يتشكّل منذ عقود خَلق بُعداً إضافيّاً للهويّة الوطنية الفلسطينية حتى تغيّرت العلاقة بين الفلسطينيين أنفسهم. صار من الصعب أنْ تكون «فلسطيني فقط» أنت «فلسطيني + شيء آخر» وهذا «الشيء الآخر» تُحدّده اللغة والثقافة والجغرافيا وغيرها من عناصر، ولا عيب في ذلك على أيّ حال، بل هذا يمكن تحويله إلى قوة إضافية، المهم أنْ تعكس جبهتنا الوطنيّة المُفترضة وميثاقها الوطني هويّة وتعدديّة الشعب الفلسطيني كما هو، وليس كما نتخيّله ونتصوّره ونريده.
لذلك تفشل الوصفات والحلول الجاهزة التي يجترّها البعض ويحاول تقديمها كعلاجٍ سحريٍّ لـ«الأزمة الفلسطينية»، والاكتفاء ببيانٍ من صفحةٍ واحدةٍ يكتبه جمعٌ من «رجال الفصائل» على عجل، ويُقدّم لنا كـ«روشتة» علاجٍ جاهزة. هذه شعوذةٌ وخزعبلات، هرطقة تشبه حديث العرّافين والعرّافات ومَن يستحضرون الأشباح والأرواح؛ فلا يمكن تقديم علاجٍ صحيح دون تشخيصٍ علمي صحيح ومعرفة أين يكمُن الخلل أولاً!
لهذا بالضبط تشعر جماعات وكتل شعبيّة فلسطينيّة كبيرة بالاغتراب عن قضيتها، وخاصّةً حين يدور الحديث عن «الشعب» فلا ترى نفسها جُزءاً من هذا «الشعب» أو «المجتمع» أو «الدولة» أو «الانتخابات» أو «الحكومة» أو «المقاومة»، وهذا ما وصفه الأديب الشهيد غسّان كنفاني بجريمة سلخ الفلسطيني واستلابه. إنّ اقتلاع الإنسان من أرضه وماضيه وحاضره، بالنسبة إلى كنفاني، جريمةٌ كُبرى تُساوي جريمة سَلخه عن قضيته وسَلبه حقّه في المشاركة واختيار مصيره وخلاصه الجماعي.
وباختلاف أحوال تجمّعات الشعب الفلسطيني بين منطقةٍ وأُخرى، تختلف سُبل وآليّات التغيير وطرق العمل الجماهيري والنقابي وأشكال النضال الشعبي والمسلح، وتختلف الأولويّات المباشرة للجبهة الوطنيّة الموحّدة التي نريدها. وعليه، لا بدَّ من صيغةٍ وطنيّة ثوريّة تجمع شظايا وشتات الشعب في تعدّده وصوره وألوانه الكثيرة، هذا الهدف لا يحققه «اجتماع للفصائل»، بل يحقّقه مشروع سياسي - اجتماعي - ثقافي - تحرّري تاريخي، يلحظ خُصوصيّات ومُتطلّبات وحاجات كلّ تجمّع ومنطقة. هذه مهامٌ صعبة وثقيلة، لن تتصدّى لها إلّا قوى ثوريّة تبحث عن النصر لا عن الحل، وتيّارات فلسطينيّة تحسم خيارها وموقعها وفي أيّ معسكرٍ تُقاتل، فلا تظلّ مجاميع مُبعثرةً ومُرتبكةً، ولا تبقى تابعةً وعاجزة.

الجبهة الوطنية: في مواجهة الكيان الصهيوني والسُلطة العميلة
لا شيء يكشف حقيقة التناقضِ الفلسطينيّ - بل العربيّ - الداخليّ، ويحدِّد أطرافَه بدقّة، أكثرَ من الموقف من وجود الكيان الصهيوني، والموقف من مشروع الحكم الذاتي وما يسمّى «عمليّة السلام» و«حلّ الدولتين»، لأنّ الصراع بين طبقة أوسلو والطبقاتِ الشعبيّة يظهر جليّاً في فصول هذه المسرحيّة، فـ«عمليّة السلام» تعني، بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ، تصفيةً شاملةً لقضيّته وحقوقه، أمّا بالنسبة إلى طبقة المال، فإنّها عمليّةٌ مُربحة وطريقةُ عيشٍ وحياة. فكيف تلتقي قوى المقاومة، الساعية إلى التحرير والعودة، مع قوى السلطة وداخل جبهة وطنية واحدة؟ هذا عبث وجنون.
لنعُد خطوة إلى الوراء علّنا نعرف كيف وصلنا إلى هُنا:
مُنذ عام 1968، حاول العدوُّ الصهيونيّ خلقَ ما سمّاه «الكيانَ الفلسطينيّ» بالتعاون مع «كبار شخصيّات» الضفّة وغزّة والقدس الشرقيّة، من ممثّلي الرأسماليّة الفلسطينيّة الكبيرة والزعاماتِ العشائريّة والقياداتِ التقليديّة (على ضفّتي النهر). هذه الشخصيّات كانت تراهن، ولا تزال، على علاقتها الوثيقة بالنظام الأردنيّ على نحو خاصّ. مُبادراتٌ ومشاريعُ تصفويّةٌ كثيرة ظلّت تتوالد، ويُعاد إنتاجُها، تحت أسماء لا حصرَ لها، وكان «مشروعُ الحكم الإداريّ الذاتيّ» في مقدّمِها، بل كان جوهرَها ومضمونَها الوحيد. فالمُستعمِر يبحث دائماً عن كيانٍ محليٍّ يخدمه ويقوم بدور الوسيط ويسهر على أمنه ويكون حزاماً فاصلاً بينه وبين الجمهور.
يمكن القول: إنّ هذه المشاريع التصفويّة هي بمثابة «الحلّ» الاستعماريّ الصهيونيّ الرجعيّ، بديلاً من الحلّ التاريخيّ الثوريّ الذي قدّمته الثورةُ الفلسطينيّةُ مع تصاعد العمل الفدائيّ في سنواته الأولى، نقصد مشروعَ التحرير وإقامة المجتمع الديموقراطيّ في كلّ فلسطين. وقد ظلّ الاسمُ المقترح لـ«الحكم الإداريّ الذاتيّ المحدود» يتبدّل في إطار مبادراتٍ سياسيّةٍ متُعدّدة، تَرسم طبيعةَ العلاقة بين كيان الاحتلال والفلسطينيين في الضفّة والقطاع، وفق قاعدة الأسياد والعبيد. أمّا الهدف الصهيوني فكان تشريعَ كيان الاحتلال الاستعماريّ الاستيطانيّ في كلّ فلسطين من النهر إلى البحر.
إن الطبقة المُهيمنة على مؤسَّسات «المُنظّمة» و«السلطة» لم تترك حيّزاً للحوار والتوافق، وتعمل في السر والعلن على خدمة المستعمر الصهيوني - الأميركي - الأوروبي


ولنتذكر فقط كيف أقدمت بعض الشخصيّات على هذه المُقامرة، ونتذكر أيضاً كيف تصرفت قوى الثورة في حينه وعملت على تصفية بعضهم وردعهم بالقوة المسلحة. فكيف نُصدّق اليوم أن مشروع الحكم الذاتي العميل صار مشروعاً وطنيّاً؟ هل نقبله مثلاً لأن منظمة التحرير هي الجهة التي وقّعت على صك الاستسلام؟ سيقول لك الشعب الفلسطيني: تراجع عن موقفك، أو لتذهب أنت ومنظمتك ومحمود عباس إلى جهنم.
وظلّ مشروع التصفية ذاته لا يتغيّر، إلى أن جرت ترجمتُه على الأرض عبر توقيع اتفاق أوسلو الخياني (1993)، وتأسيس السلطة الفلسطينيّة (1994). وقد ترافقتْ ولادةُ هذه السلطة مع انقلابٍ كاملٍ في المنظومة الدوليّة والعربيّة، ومع انهيارٍ (بل تهديمٍ متعمَّدٍ)، شبهِ شاملٍ أيضاً، لمنظّمة التحرير ومؤسّساتِها. وهكذا وجدت الرأسماليّةُ الفلسطينيّةُ فرصةً سانحةً لتأسيس كيانها المسخ تحت اسم «السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة» مُتّكئةً على «حزبها الوطني» القاطرة التي ستركبها نحو الحكم الذاتي، نقصد حركة فتح ومُلحقاتها!
إذا كانت «منظّمة التحرير» قد شَكّلت في زمنٍ مضى «الإطار الجبهوي» و«الكيان المعنوي» للشعب الفلسطيني وحقّقت شرعيّتها الشعبيّة بتضحيات الشعب وسلاح الفدائيين، فإنّها فقدت شرعيّتها بعد التّخلي عن الكفاح المُسلّح ثم تجريمه، وبعد اغتيال الانتفاضة الشعبية الكبرى وشطب الميثاق الوطني الفلسطيني، وبعد الاعتراف بالكيان الصهيوني والدخول في صفقة «أوسلو» التي تنازلت بموجبها عن كلّ الأرض والحقوق تقريباً، وقد فعلت ذلك من أجل تأمين امتيازاتها الطبقية وتكريس هيمنتها عبر تأسيس «الكيان الفلسطيني في يهودا والسامرة»، هكذا تحوّل «الممثّل الشرعي الوحيد» إلى أخطر أداة لتصفية القضية منذ وعد بلفور.
فالحال أنّ «القيادة الفلسطينيّة» تتبنّى المواقفَ السعوديّة بالكامل تقريباً في الجامعة العربيّة، بما في ذلك: تأييدُ الحرب الوحشيّة على شعب اليمن، واستعداءُ معسكر المقاومة، والمشاركةُ في حصار غزّة. كما أنّ هناك قياداتٍ في اللجنة المركزيّة لحركة فتح وبعض الفصائل التابعة تقوم بدور الوكيل للاحتلال، وتشكّل جسرَ التطبيع ورأسَه مع الكيان الصهيونيّ، ويستعد بعض هؤلاء لوراثة محمود عباس والذهاب إلى ما بعد بعد أوسلو!
كلُّ ما قدّمه تيّارُ التسوية (التصفية) من تنازلاتٍ للمشاركة في «مؤتمر مدريد للسلام» 1991 واتفاق أوسلو 1993، وكلُّ ما قدّمه منظّرو «التسوية» وقتها - وإلى اليوم - من مواقفَ واستنتاجات، كانت ولا تزال فاشلةً وعقيمةً، بل كارثيّةً أيضاً، ويجب أنْ يُحاسَبوا عليها، باعتبارها جرائم سياسيّة جرى ارتكابها بحقِّ الشعب الفلسطيني في السر والعلن.
ومع كلِّ كارثةٍ جديدةٍ تُقْدِم عليها قيادةُ منظّمة التحرير، نجدُ ما يشبه «فزعةَ الفصائل» التي تتحرّك قياداتُها بين مكاتب «الجزيرة» و«الميادين» و«العربيّة» تصرخ على الهواء. غير أنّ العدوّ الصهيونيّ لا يكترث بما يقوله هذا «المسؤولُ» الفلسطينيُّ أو ذاك، ولكنّه يكترث كثيراً إذا تحرّكت مجموعةٌ من الكوادرِ والقواعدِ المقاتلة من أجل إنجاز مهامّ سياسيّةٍ وكفاحيّةٍ محدّدة، وكبحِ تيّار الاستسلام والتطبيع في الساحتيْن الفلسطينيّة والعربيّة، ويخاف أكثر حين تشرع طلائع الشعب في تأسيس جبهة وطنيّة موحّدة للتحرير والعودة.
وفي الوقت الذي يقوم فيه العدو بارتكاب المجازر ويواصل سرقة الأرض ونهب الثروة وبناء المستعمرات وفرض الحصار وسياسة الاغتيالات وهدم البيوت وتدنيس المقدسات وما يسمّيه «فرض الحقائق على الأرض»، تتحرّك السلطة الفلسطينيّة في دور تكاملي معه لاحتجاز أيّ تطوّر نضالي وكبح تصاعده حتّى لا يصل إلى مستويات أعلى من الاشتباك والمواجهة. تخاف «إسرائيل»، ومعها السلطة الوكيلة، من الدور المتنامي للمقاومة المُسلّحة في الضفة المحتلة ومراكمة القوة العسكريّة في قطاع غزّة، كما تخشى تصاعد دور الفلسطينيين في الشتات لأنه يتحرّك خارج نطاق هيمنتها وسيطرتها المباشرة، لذلك تشيطن أجهزة السلطة وسفاراتها وعملاؤها كلّ مبادرة شعبيّة تهدف إلى الإصلاح والتغيير ومُحاربة الفساد.
يسعى العدو وحلفاؤه إلى تكريس نظام الاستعمار والعنصريّة والاستيطان في كلّ فلسطين، فيما تعمل السلطة الفلسطينيّة على إجهاض أيّ مبادرة شعبيّة لمقاومة الاستعمار الصهيوني في كل فلسطين أيضاً، ولا تريد أن ترى دوراً نضاليّاً للحركة الطلابيّة والنسويّة والنقابيّة أو قوى وطنيّة شابّة جديدة تنشأ في الأرض المحتلّة والشتات، وتُعطّل قوى السلطة المطلب الشعبي في إجراء مراجعة سياسيّة جادة للمرحلة السابقة، وتحرم الشعب من استعادة مؤسَّساته الوطنيّة المختطفة، وتمارس سياسة القمع وتفرض العقوبات ضدّ قطاع غزة المحاصَر، وتستهدف كوادر المقاومة وتتغوّل على حقوق العمّال الفقراء، وتصادر دور القوى الشعبيّة الجذريّة وتفرمل الدور الذي يمكن أنْ تقوم به في مواجهة كيان العدوّ.
هذا هو الدور المنوط بها، كسلطة أجيرة مرجعيّتها محور أميركي صهيوني رجعي، وهذا شرط وجودها وسلوكها الطبيعي الذي يعبّر عن وظيفتها ويكشف جوهر علاقتها مع المستعمر. إنّها سلطةٌ فاسدةٌ غيرُ شرعيّة، ومقابل هذا الدور التخريبي، تحافظ على امتيازاتها وسطوتها الكاذبة. إنّها مستعدّة للتنازل عن كلّ فلسطين. تبني السجون والمعتقلات وتغتال المناضلين في وضح النهار، وتحوّل سجن أريحا إلى مسلخ يومي لتعذيب الفدائيين والمناضلين.
أجهزة السلطة تُقدّم تقاريرها الشهريّة إلى وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة (سي آي إيه) والدول الأوروبية وليس إلى الشعب الفلسطيني، ذلك لأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من المنظومة الأمنيّة الإسرائيليّة الأميركيّة وما يُسمّى بـ«الحرب على الإرهاب» وهي أجهزة مُلحقة بالنظام العربي الرسمي. وستظلّ طبقة أوسلو وسلطتها تدور في الفلك الأميركي - الصهيوني - الأوروبي - النفطي، تأخذ مصروفها من أولياء نعمتها في واشنطن وبروكسل والرياض والدوحة وتل أبيب، ومشاريع التعاقد والسمسرة من الباطن.
إسقاط نهج أوسلو وكيانه التابع العميل مهمة نضاليّة فلسطينيّة عربيّة لا تحتمل التأجيل؛ فلا تغيير جذري إلّا بهزيمة مشروع أوسلو وإسقاطه، ومن الصعب تحقيق هذا الهدف عبر انتخابات هزليّة تحت نعال الاحتلال. لا خيار أمام قوى المقاومة الفلسطينيّة إلّا بتوجيه نداء إلى الشعب ليؤسس جبهة وطنيّة فلسطينيّة موحّدة تقود المواجهة الشاملة ضد الكيان الصهيوني وتعمل على استنزافه، وتقدّم برنامجاً بديلاً يعزل سلطة الحكم الذاتي ويؤسس لشرعية ثورية جديدة. لم يعُد يحتمل هذا الشعب المزيد من التسويف والتزييف والانتظار.
إنّ البديلَ الحقيقيَّ الممكن هو تبنّي سياساتٍ ثوريّةٍ واقعيّة يكون أساسُها الاعتمادَ على الذّات، على البُعد الشعبيّ الفلسطينيّ، والبعد الشعبيّ العربيّ والأمميّ، لا الاعتمادَ على النظام العربيّ الرسميّ أو على ما يسمّى «المجتمع الدوليّ»، وهذا يعني الشروع الفوري في العمل والحوار من أجل تأسيس الجبهة الوطنيّة الموحّدة وانتزاع الشرعيّة الثوريّة بقوة الجماهير وليس باستخدامها في «لعبة الانتخابات» أو بالاستقواء عليها.
والحال أنّه من دون الدعوة إلى المشاركة الشعبيّة في حركة التغيير الثوري، ومن دون فتحِ الباب واسعاً أمام كتلٍ وتيّاراتٍ شعبيّة وثقافيّة وجموع العلماء والفنانين والمثقفين الثوريين للمشاركة في تطوير حركة المقاومة الفلسطينيّة وتجديدها، بحيث يكون للمقاومة المسلحة والجيل الشابّ والمرأةِ الفلسطينيّة والحركة الأسيرة دورُ القائد والعمود الفقريّ فيها، من دون ذلك كلّه سيتعذّر على شعبنا اكتشافُ قدرته وطاقته الكامنة، والإقلاعُ نحو جبهةٍ وطنيّةٍ موحّدةٍ وفجرٍ جديد.

* كاتب فلسطيني