لعل المشترع الدستوري اللبناني - الفرنسي الذي كتب الدستور اللبناني عام 1926 - لم يضع في الحسبان تحوّل مواد الدستور كرة تتقاذفها الجهات السياسية والطائفية، في ظل انعدام مرجعية قادرة على حسم الإشكاليات الدستورية، كما انعدام القدرة الواقعية على تطوير هذا النصّ وسد الثغرات التي تعتريه.من هذه المسائل العالقة، مسألة مدى جواز انتقال صلاحية رئاسة الجمهورية في حال خلوّ سدّتها إلى حكومة تصريف أعمال. وللإجابة على الإشكاليات التي تطرحها هذه المسألة، يقتضي أولًا الغوص في المادتين 62 و64 (فقرة ثانية) من الدستور.
تنصّ المادة 62 على ما يأتي: «في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأيّ علّة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء». وينص المقطع الثاني من الفقرة الثانية من المادة 64 «(...) ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال».
عليه، سنحاول فهم حيثيات كل مادة على حدةٍ، ثم مناقشة الأسئلة التي تنتج من مقابلة النصّين، لفهمهما بطريقة مكملة بعضهما لبعض، من دون إلغاء أيّ منهما على حساب الأخرى، وفق المبادئ الأساسية للتشريع والتفسير.

أولا: في المادة 62
على قصر المادة 62، فإنّها تطرح عدة مفاهيم دستورية وقانونية يقتضي سبر غورها، أهمها المقصود بمعنى «وكالة»، وثانياً تحديد ماهية المفهوم الدستوري لـ«مجلس الوزراء».
1 - الوكالة: لا يقتضي فهم الوكالة بمعناها ضمن القانون الخاص، لأنّه كثيراً ما تتغاير الحقوق والقواعد القانونية في القانون العام في فلسفتها عن نظيرتها في القانون الخاص، ولا ضير في التذكير، مثلًا، في الفرق بين الوكالة المدنية والوكالة التمثيلية. فالوكالة هنا وكالة من نوع خاص، ذات قيمة دستورية، تنقل صلاحيات دستورية، وبالتالي فإنّ انعقادها لا يكون إلّا لصاحب الصفة كما حدده الدستور من دون أيّ تأويل أو اجتهاد أو تجزئة في النصّ.
2 - مجلس الوزراء: يتم الخلط بين مفهومَي مجلس الوزراء والحكومة بشكل متكرر حتى بين القانونيين، ما يؤدي إلى ضرب قاعدة أساسية من مبادئ الصياغة القانونية والدستورية، بأن لا لفظ واحداً لمعنيين، ولا معنى واحداً بلفظين في النصّ نفسه. فمجلس الوزراء هو سلطة دستورية منفصلة في كينونتها عن الأشخاص الذين يؤلفونها، ولا تتشكل إلّا في حالة الانعقاد القانونية للجلسة، أي بلحاظ وجود النصاب القانوني لعدد الوزراء المطلوب دستورياً، أي الثلثين، بناءً على دعوة وفقاً للأصول. بكلام آخر، لا وجود لمجلس الوزراء إلّا في حالة الاجتماع.
وحيث إنّ المادة 62 أناطت وكالة بمجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة خلو سدّتها، تنعقد الإشكالية الآتية: هل تملك حكومة تصريف الأعمال القدرة على الانعقاد، وفي حال انعقادها هل تُشكل «مجلس وزراء» كامل الصلاحيات ليكون لها أداء الوكالة الدستورية المنبثقة عن المادة 62؟
قبل التعرُّض لهذا السؤال، يقتضي معرفة مدى الصلاحيات المخوّلة لحكومة تصريف الأعمال بحسب الدستور، وتحديداً بحسب المادة 64.

ثانياً: الفقرة الثانية من المادة 64
تؤكد الفقرة الثانية من هذه المادة أنّ «الحكومة لا تمارس صلاحياتها قبل نيلها الثقة أو بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال». وغالباً ما تنحصر المناقشات حول هذه المادة بمفهوم تصريف الأعمال وحجمه، وهو ما يستحق الدراسة، لكن قبل بحث ماهيته بلحاظ إشكالية العلاقة مع المادة 62، يستحسن الإضاءة على استعمال المشرع الدستوري مصطلحاً آخر هو «الحكومة»:
1- الحكومة: يعدّ استعمال مصطلح الحكومة وليس مجلس الوزراء عند ذكر مبدأ تصريف الأعمال تأكيداً على التفريق بين المؤسسة الدستورية لمجلس الوزراء، وخصوصاً تلك المقصودة بمتن المادة 62، ومؤسسة حكومة تصريف الأعمال الواردة في المادة 64، إذ لا وجود في العرف الدستوري أو حتى السياسي اللبناني لما يسمّى «مجلس وزراء تصريف الأعمال». (على أنّ انعقاد حكومة تصريف الأعمال لم يحصل إلّا في حالات الضرورة القصوى وفي نطاق ضيق من جدول الأعمال، بحيث إنّه، بحسب العلم والاجتهاد الدستوري، يمكن أن تتوسع الأعمال الممكن تأديتها من الحكومة في حالة تصريف الأعمال كلما استمرت مدة أطول، من دون أن تُرفع أو تلغى هذه الحالة، أي من دون أن تعود إلى صلاحية كاملة).
2- تصريف الأعمال: يقصد به أنّ وجود الحكومة قبل نيلها الثقة أو بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة لا يكون منعدماً مطلقاً، بل ينعقد لها وجود ذو طبيعة خاصة، عبر ممارسة جزء من صلاحيتها بالحد الأدنى الضروري لاستمرارية المصالح العامّة.
وبحسب الاجتهاد الدستوري والإداري، فإنّ ما يمكن لحكومة في هذه الحالة القيام به يقع تحت عنوانين أساسيين: 1) الأعمال اليومية العادية، أيّ تلك التي يعود للهيئات الإدارية إتمامها من دون أن يؤدي ذلك إلى تحميل الحكومة اللاحقة تبِعات مالية أو سياسية. 2) الأعمال التصرُفيّة الاستثنائية، إذ تكون هذه الأعمال مشروعة كاستثناء على قاعدة عدم جواز قيام حكومة تصريف الأعمال بأفعال تصرُفيّة، في ظل وجود ضرورة قصوى متعلقة بالمصالح العليا للدولة والمجتمع، على أن تكون هذه الأعمال تحت الرقابة القصوى للقضاء الإداري. (يراجع في مدى هذه الصلاحيات قرار مجلس شورى الدولة، راشد/ الدولة 1969). ما خلا ذلك، لا يمكن أن تتمتع الحكومة بأيّ صلاحيات أخرى، وفق الفقرة الثانية من المادة 64، وخصوصاً أنّ النصّ الدستوري اللبناني لم يقف عند اصطلاح تصريف الأعمال الذي هو في نفسه إطار تقيّدي لصلاحيات الحكومة، بل وضع قيداً إضافياً وهو «المعنى الضيق»، فكيف يمكن أن يقبل الدستور لها أن تتحمل صلاحيات سلطة أخرى وكالة، وهو قد سحب منها الجزء الأهم من صلاحياتها الأصيلة؟
بالإضافة إلى ما سبق، فإنّ مقابلة مضمون المادتين تطرح بعض الإشكاليات الدستورية التي تلخّص في ما يأتي:

ثالثاً: في مدى صحة اجتماع حكومة تصريف الأعمال وحدود صلاحيتها
إذا كانت السوابق القديمة والحديثة (حكومة رشيد كرامي 1969، حكومة سليم الحص 1979، حكومة نجيب ميقاتي 2013)، تُظهر ميلاً لرجحان رأي دستوري يقبل باجتماع حكومة تصريف الأعمال، فإنّ رئيس الحكومة السابق حسان دياب، أكّد طوال ما يزيد على سنة من تصريفه للأعمال على تبنّيه رأياً دستورياً يرفض القبول باجتماعها. على أيّ حال، ومن دون مناقشة الرأيين تفصيلاً، فإنّه ولو تم القبول بالرأي الأول في حالات الضرورة، فإنّ الصلاحيات التي يملكها هذا الاجتماع تبقى منقوصة وضيّقة في حدود الضرورة وتصريف الأعمال.

رابعاً: تصريف الأعمال في صلاحيات رئاسة الجمهورية
انطلاقاً من وضوح نصّ الفقرة الثانية من المادة 64 وتضييقه غير القابل للاجتهاد لصلاحيات حكومة تصريف الأعمال، يؤدي القول بأنّ لهذه الحكومة وراثة صلاحية رئيس الجمهورية وكالة، بالقول تبعياً بأنّها تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية ضمن نطاق وحدود تصريف الأعمال الضيقة نفسها. هذا طبعاً مع التسليم للرأي الذي يذهب لإمكانية اجتماعها.
وفي هذا المذهب ابتداع لمفهوم ومؤسسة لم يوجدها الدستور، بحيث يتم اجتزاء صلاحيات رئيس الجمهورية بحدود تصريف الأعمال، على الرغم من أنّ السلطات والصلاحيات الدستورية لا يمكن استنتاجها ولا ابتداعها. ولو أراد المشترع الدستوري أن تُجتزأ وتُصرّف أعمال رئاسة الجمهورية إلى حين انتخاب رئيس، كما لَحظ ذلك للحكومة ولهيئة مكتب مجلس النواب في حال حلّ البرلمان (بحسب المادة 55 من الدستور)، لذكر أو سمح بذلك صراحة. إذ كان يمكن للمشرع الدستوري مثلاً أن يوكل إلى مجلس الوزراء أو لرئيسه أو لرئيس مجلس النواب أو للمجلس الدستوري أو لرئيسه أو أيٍّ غيرهم، تصريف الأعمال مقام الرئاسة الأولى في حال خلو سدتها، لا أن ينقلها وكالة، كاملة ومن غير تجزئة إلى مجلس الوزراء.
ولعل مثل هذا الفرق نابع من أنَّ رئاسة الجمهورية في دستور الطائف وروحه غدت المرجعية الحَكَمَة بين اللاعبين السياسيين، وفي هذا السياق يجب فهم وتكريس صلاحياتها، لا في إطار الأعمال اليومية التنفيذية «الروتينية» التي تغلب على طابع حالة تصريف الأعمال.

خامسا: استنتاجات
بناءً على كل ما سبق، بات واضحاً أنّه:
1- يقتضي التفريق بين مفهومين مغايرين يحكم الدستور قواعدهما، أي الحكومة كإطار عام لبنيان السلطة الإجرائية، ومجلس الوزراء، الوعاء الذي لا يقوم إلّا حال الانعقاد، فيجلس على رأس السلطة الإجرائية.
2- انطلاقاً من هذا التفريق، لا يستقيم وفقاً للمبادئ الدستورية العامّة ولقواعد تفسير الدستور القول إنّ الدستور اللبناني الذي يسلب من حكومة بسبب عدم نيلها الثقة أو استقالتها أو اعتبارها مستقيلة صلاحياتها الأصيلة، فيضعها في حالة من تصريف الأعمال (حتى لو كان لها حق الاجتماع في حالات الضرورة القصوى ضمن هذا النطاق الضيق)، يقوم نفسه بإمساكها زمام صلاحيات دستورية أخرى وكالة، ألا وهي صلاحيات رئيس الجمهورية.
3- لا تستقيم تجزئة الصلاحيات الدستورية من دون مرجع - أيّ تجزئة صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا يجوز ابتداع مفاهيم لم يأتِ الدستور على ذكرها، كممارسة صلاحية رئيس الجمهورية في إطار تصريف الحكومة للأعمال.
4- إذا كان من الواجب استعمال مبدأ استمرارية عمل السلطة الدستورية والمرافق العامّة كمبدأ عام ذي قيمة دستورية من أجل منع شغور موقع رئاسة الجمهورية، فالأبدى استعمال هذا المبدأ - ولو في سياق الضغط الرمزي أو المعنوي - من أجل حثّ مجلس النواب، والأحزاب السياسية المتمثلة فيه، على تطبيق المواد الواضحة والتفصيلية الراعية لحالة انتخاب رئيس الجمهورية ومهلها الدستورية، لا استعمال هذا المبدأ لتحميل النصّ الدستوري ما لا يحمل، ومن ثم توظيف ذلك سياسياً.

* باحث في القانون الدستوري