منذ أربعين عاماً ولدت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أنبل الظواهر في تاريخ شعبنا. واليوم نستعيد تاريخها وظروف ولادتها لا للاحتفال الفولكلوري بل لأخذ العبرة والانطلاق نحو التغيير الحقيقي، ولئلا تُسبغ عليها النوستالجيا والعاطفة. نعيش اليوم ظروفاً مشابهة لظروف انطلاقتها، وليوم ولادتها. فالعالم يمر في مرحلة انتقالية أرادتها الولايات المتحدة الأميركية حروباً لا متناهية في كل العالم حفاظاً على سيطرتها على القرار السياسي والمالي في كل أرجاء الأرض، ولتثبيت نفسها قطباً وحيداً فيه. فتنقلت بالحروب من قلب أوروبا، من يوغسلافيا إلى أفغانستان والعراق وأميركا اللاتينية، إلى منطقتنا. واليوم تستكمل حروبها في معركتها بالدم الأوكراني ضد روسيا وتحضير الأجواء للحرب ضد الصين. ولم تكتفِ بالحروب العسكريّة، بل مهّدت لبعضها بالحروب الناعمة في ما سُمّي الثورات الملونة التي أصابت منطقتنا منها بألوان الموت والجوع والحروب الأهلية من سوريا الى ليبيا والعراق (حتى الآن).
وبعدما تركت مقاومة الشعبين اللبنانيّ والفلسطينيّ بصمتها في انهيار سايكس بيكو، وانهيار وظيفة أنظمة ودول، ولا سيّما وظيفة الكيان الصهيوني، يسعى المشروع الامبريالي الجديد إلى إعادة تنظيم المنطقة بما يتّفق مع مشروعه، ليس فقط في الشرق الأوسط بل في العالم أيضاً، رغم التهديدات الحالية لموقعه كقطب وحيد فيه. وللتعويض عن الوظيفته الأمنية لهذا الكيان تسعى الولايات المتحدة بالتآمر مع أنظمتها العربية التابعة لتعويم هذه الوظيفة واعطائها طابعاً سياسياً واقتصادياً عبر موجة التطبيع الخيانية. والأبرز بالنسبة إلينا هو انهيار الدور الوظيفي للبنان المالي والثقافي والصحي والسياسي.

ورغم ترنّح نظام الطائف، فإنّ الصراع اليوم على أبواب الانتخابات الرئاسية يدور في دائرة النظام الطائفي نفسه في غياب التأثير الوطني الديمقراطي. لقد ضيّعت قوى اليسار هويتها قبل الانتخابات النيابية في مراهناتها وسياستها التحالفية، فرجعت منها خالية الوفاض، إلا من مساهمتها في واقع انتخابي لا يتفق مع روحية جمول واستهدافاتها.

ويجري الصراع اليوم مجدداً في نظام مهترئ بين نهجين ضمن النظام الطائفي: النهج المدافع عن استمرار الطائف والآخر الداعي إلى محاصصة جديدة داخل النظام. ولذلك الولايات المتّحدة تركوت خطتها المعلنة على عنوانين:
ــــ الأول: تآمين أكثرية نيابية تحت شعارات السيادة والحياد والاستقلال ومواجهة «منظومة الفساد» لا النظام. بحيث تلعب الأكثرية دورها في ملاقاة المشروع الأميركي ـــ السعودي لنزع سلاح المقاومة.
ــــ الثاني: اذا لم يتحقّق الأول هو تأمين قرار بدأ بتعديل مهام اليونيفل وجوهره حصار جغرافي واقتصادي لمنطقة تواجد المقاومة عبر الترويج للتقسيم المقنع بعنوان المنطقة الحرة الموجود مخططاتها في مكاتب الكونغرس الأميركي.

ومن أجل هذا الاستهداف يأتي الحصار الاقتصادي وتشديده لتحميل مسؤولية الأزمة لجزء من المنظومة وليس للنظام كله بما فيه هذه المنظومة.
ومن جهة أخرى المماطلة في موضوع الترسيم والترويج باسم الوساطة لخارطة العدو الإسرائيلي وسرقة الثروة النفطية عبر تخلٍ واضح من كل قوى النظام عن حق لبنان في الخط 29 وعبر قبول وساطة المبعوث الأميركي المعادية، بل المنحازة كلّياً للعدوّ.

وفي وسط هذه الأجواء تتضخم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والغلاء والفساد ويعلن حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف الحاكمَ الفعلي في البلد والموجِّه والشريك لمعظم القوى السياسية التي تتولى حمايته عبر تعزيز قدرتها على النهب وتهريب الودائع الى الخارج. في هذا الوضع القاتم نحن بأمس الحاجة إلى نهج جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية لا لأن نستبدل بها شعاراً شعبوياً يساويها أو يقدم عليها نهجاً لحراك شعبي مؤقت ومحصور الأهداف.

نهج المقاومة هو استمرار لتاريخ من الحركات الشعبية منذ ما قبل الاستقلال بدا بمقاومة الإنكليز والفرنسين مروراً بالحرس الشعبي حتى اليوم، دفاعاً عن العمال والفلاحين والجامعة الوطنية والتعليم الرسمي وحقوق الشباب والنساء ولتغيير النظام الطائفي وبناء الدولة القوية الوطنية الديمقراطية العربية المقاومة والعادلة. ولا يمكن تجويف تاريخها بفصل التحرير عن التغيير؛ فقد زاوج الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ منذ تأسيسه بين المعركة الوطنيّة ضد سايكس ـ بيكو ومن أجل الاستقلال، وفي التصدي للاعتداءات المتكررة على قرى الجنوب وأهله وصولاً إلى التطور النوعي بإطلاق بدأ بالحرس الشعبي وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وبين المعارك الاجتماعيّة دفاعاً عن العمال والفلاحين والطلاب وسائر أصحاب الدخل المحدود.

إنها تطوير لنهج عساف الصباغ وعلي أيوب ومعروف علاء الدين ومصطفى العريس وفرج الله حنين ولصرخة فرج الله الحلو في إطلاق حركة وطنية على هذا الساحل العربي وفي معارك الاستقلال والدفاع عن لقمة العيش وحقوق الفقراء في الخبز والعلم والحرية. على هذا الطريق وهذه القناعات دفعنا أكثر من 1200 شهيد في معركة جبهة المقاومة، من الداخل ضد الانعزال إلى المعارك الفكرية والسياسية والعسكرية ضد العدو وعملائه.

دعوتنا اليوم لقراءة موضوعية لرسالة جمول ودورها والعمل على منهجها في تحديد الموقف من القضايا المطروحة والخطيرة وليس فقط في تحديد الموقف بل بخيار التعامل الثوري مع هذه الحالة. إن روح جمول لم تتوقف عام 1987 رغم الظروف الداخلية (الأزمة) والخارجية والإقليمية الضاغطة. فقد استمرت بما تعنيه من نهج مقاوم في السياسة من عام 2005 وخيار القرار الوطني المستقل من الموقع الطبقي (وطبعاً غير المحايد). وأيضاً في تصدي أبطالها إلى جانب المقاومين الآخرين رغم الافتقار إلى السلاح، لعدوان 2006 حيث قدمنا ثلّةً من خيرة الشهداء في الجنوب والبقاع.

كيف تمارس جمول امام التحديات الراهن؟
إن نهج جمول شديد الوضوح منذ بيان انطلاقتها ومنذ طلقتها الأولى على يد مازن عبود وجورج قصابلي ومحمد مغنية ورفاقهم وقافلة الشهداء رسمة حدود الوطن، شديد الوضوح في مواقف وتاريخ حزبنا، وفهمه السياسي منذ التأسيس حتى اليوم، هو نهج موحد لثلاثة ابعاد متفاعلة ومتكاملة:

أ ـــ مواجهة المشروع الأميركي ـ الصهيوني في إطار مقاومة عربية شاملة يلعب فيها اليسار دوراً واضحاً ومميزاً ومتكاملاً مع قوى المقاومة الأخرى.
ب ـــ موقف واضح ضد النظام السياسي الطائفي والتمسك بالتغيير الديمقراطي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية المقاومة للنظام المنتج للحروب الأهلية والمسهل للاحتلال.
ج ـــ موقف واضح بأن وجهة هذا التغيير على المستويين العربي واللبناني هو الاشتراكية ومواجهة الاقتصاد الحر منتج الفساد والجوع والنهب.
نهج جمول كان ولا يزال يقتضي عدم اجتزائه ووضعه في سلة حراك شعبي سرعان ما صادرته قوى تشكِّل الوجه الآخر للنظام على المستويين السياسي والاقتصادي، قوى صادرت التحرك وصادرت اسم التغيير ووضعتهم في جانب الداعين باسم السيادة للحياد تجاه معركتنا مع العدو الأساسي، والمؤلم أنها أخذتنا دون مقابل في سلتها الخاصة.

هذا النهج يدعونا إلى:
أ ـــ موقف واضح وصريح إلى جانب الشعوب التي تتعرض للحروب والمذابح الأميركية في كل العالم، إلى جانب من يسعى لضرب سيطرة القطب الواحد، إلى جانب روسيا والشعب الأوكراني اللذين يتعرضان لهجوم وحشي من قبل الناتو. نهجنا يدعونا أن نكون إلى جانب الصين في مواجهتها لمخططات تقسيمها وحصارها.
ب ـــ هذا النهج كان يحتّم علينا عدم التوقف عن جهود توحيد اليسار العربي وتطوير اللقاء اليساري عبر الخطة التي وضعها لقاؤه السابع، لا تجميده وتهميشه والاستعانة الفولكلورية به بعد عدة سنوات. اللقاء اليساري أطلقه الحزب كي يكون مشروعاً فكرياً وسياسياً يستعيد ويفعل دور اليسار العربي في إطار مقاومة عربية للهجمة الأميركية وفي القلب من هذا المشروع قضية فلسطين.
ج ـــ نهج جمول يستدعي موقفاً وطنياً واضحاً من الانقسامات السائدة اليوم في ظل النظام الطائفي. لا لتجديد الطائف ولا لخلق توازن طائفي جديد. نعم لتشكيل إطار وطني ديمقراطي يعمل وبغض النظر عن ميزان القوى، لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، لمنع الانزلاق نحو حرب أهلية يضعنا هذا النظام أمامها كل ست سنوات وأقل.
د ـــ نهج جمول كان يقتضي أن لا تتوقف تحركاتنا الشعبية إلى جانب الناس لمجرد أن توقف الآخرون في القيادة السوداء التي أفسحنا لها المجال عبر التخلي عن صياغة مشروعنا للحراك الشعبي ولقيادة هذا الحراك كاستمرار لتاريخنا في التحركات الشعبية.

يستدعي العودة المستمرة لا الموسمية إلى الشارع إلى جانب العمال والفقراء ممن يصيبهم الجوع وإلى جانب الموظفين والمعلمين في الدفاع عن حقوقهم. تستدعي عودتنا لقيادة الدفاع عن التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية. يستدعي العودة إلى معركتنا الأيديولوجية لا إقفال مجلّة الطريق المنصة الوحيدة التي لعبت دوراً تاريخياً في المقاومة الثقافية والفكرية منصة مهدي عامل وحسين مروة ومحمد دكروب.

هكذا نحتفل بذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الأربعين.
هكذا نكون أمناء لذكرى من أعلن بيانها من الحزب والحلفاء، ولكل القوى التي شاركت فيها وبالعمل المقاوم.
هكذا نكون أمناء لشهدائنا وأسرانا.
نكون أمناء لعمل المناضلين الذين مروا بالآلاف، ودون ادعاء، على عملياتها.
أمناء لجثامين الشهداء الذين ما زالوا محتجزين عند العدو.
هكذا نستعيد نهجها ويستعيد الحزب موقعه السياسي الطبقي المستقل كحامل لهذا النهج.

* بيروت في 16 أيلول 2022
شيوعيّون في القاعدة الحزبيّة