هل يمكن لحزب الله احتواء كارثة هادي مطر ومنْعها من التكرّر (وبشكل سيزداد عشوائية مع مرور الوقت)؟ أو، هل يُدرك حزب الله حجم الأثمان التي سيَدفعها لاحقاً نتيجةً لارتباكه في التعاطي مع عملية مطر؟ إذا لم يَبدأ حزب الله بمراجعة منهجية لرؤيته للعالم، فإن نهاية هذا المسار (وكُثُر هم مَنْ سيتشجّعون لممارسته والأمر لن يتوقّف عند مطر كفاعل أو سلمان رشدي كهدف) يَصعب التنبؤ بها. جاءت عملية هادي مطر في وقت حرج: تشوّش رؤية حزب الله السياسية للعالم، كما لمحيطه ومجتمعه الداخلي، وصدور نصوص ركيكة إلى حدّ يُثير الغرابة عن مثقفيه على اختلاف طبقاتهم وألوانهم (وبعضهم على صفحات هذه الجريدة)، أكان حول الاقتصاد (اجترار أفكار متعلقة بالتعاون والتعاضد والتشارك، حتى أن الكثير من التجارب في الولايات المتحدة الأميركية أكثر نضجاً مما يُقترَح في هذه النصوص)، أو حول تحليلهم لتاريخ الحزب بمناسبة العام الأربعين لتأسيسه (بالأحرى انعدام التحليل، السرد بديلاً عن التحليل، وتكرار السرد بديلاً عن الفعالية النصية)؛ باحثٌ كعلي القادري مثلاً، رغم اعتراضي على الكثير من أدواته المنهجية، إلا أنه مجدِّد يؤنسك الاستماع له ومن ثم الردّ عليه، أما مثقفو الحزب؟ بعد سنوات من التطويع المؤسساتي تحوّلوا إلى نسخ خاملة لرواية القيادة بعد أن كانوا قبلاً يتّقدون ملاحظات نافذة حول الظواهر المحيطة بهم.
(أ ف ب)

اعتُبرت عملية مطر بمثابة الفكر البديل الذي نَبحث عنه، الفكر الأصيل بما أن مثقفينا المؤسساتيين فَشلوا في تقديم مادة جدية؛ الفكر الذي يذكّرنا بالبدايات حيث الوضوح بعد تعثُّرنا في معالجة الملفات المتراكمة، لا يَأبه بالنظريات الاقتصادية والاجتماعية بل يَهزأ منها، صفاء البدايات. من هنا فصاعداً لن يكون بمقدور أحدٍ أن يطالب الحزب بمشروع اقتصادي أو فكري سياسي، هادي مطر أضاء لنا الطريق بشجاعته وأصالته الراديكالية. واضحٌ من خطابِ المدافعين عن مطر أنها ردّ فعلٍ على فشل مثقف حزب الله في تقديم نصّ فيه الحدّ الأدنى من المادة المنهجية، وستتكرّر ظاهرة مطر مع تكشّف المزيد من الفشل الفكري؛ إذا كنتم عاجزين، فها هو هادي مطر قد أوضح لنا الطريق. رأينا كيف صمت مثقفو الحزب بعد مبادرة هادي، وكيف خرج الحوزويون عن صمتهم من بعدها واستلموا زمام المبادرة إعلامياً؛ هنا لا أدافع عن الحوزة لانتمائي العائلي إليها، لكني أعرف منطق الحوزة الداخلي المختلف، طبعاً هو منطقٌ لا يَعرف عنه هادي مطر شيئاً. هادي مطر هو تراكم فشل الوعد الثقافي الذي قامت عليه الثورة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي (سأوضح لاحقاً تفسيري الأقسامي departmentalist لظاهرة هادي مطر، ومثال الصينيين الأميركيين والروس الأميركيين وعلائقهم داخل الإطار الأكاديمي الأميركي، والعلاقة بين تطوير إيران وتركيا اللافت للطائرات من دون طيار وقسم علوم الكومبيوتر الذي وَجَد طريقه إلى التسييس في العالم الثالث بشكل مختلف عن موقع القسم الأكاديمي في الولايات المتحدة؛ فالذوات تُبنى في التوتر السياسي بين الأقسام المؤسساتية المنتِجة للمعرفة، ومقاومتنا للقِسم المنتِج لذاتنا هي جزء رئيسي من إنتاج القيمة - العمل باعتباره أداءً performance للاعقلانية مرتبطة بكينونة محددة). لكن في الوقت نفسه، هادي مطر هو تحدٍّ لبنية القيادة في حزب الله. أهم ما في هادي مطر هو مبادرته، إقدامه من دون أمرٍ من القيادة، بعد سنوات من تحجّر شباب الحزب، انعدام المبادرة، لا بل تمجيد انعدام المبادرة تحت عناوين كثيرة. لم يَدرس هادي مطر في الحوزة ليَعرف الفرق بين الحكم والفتوى، أو ليَعرف ما إذا كانت فتوى السيد الخميني لا تزال قائمة أو طرأت عليها بعض التعديلات، فهو ليس مقلداً له بطبيعة الحال والسيد الخامنئي غيّر العديد من فتاويه، وحزب الله كَتَب ميثاقاً جديداً، وكان قبلاً عَدّل في شعاره من الثورة الإسلامية في لبنان إلى المقاومة الإسلامية في لبنان، وراجع عدداً من شعارات الثمانينيات من الدولة الإسلامية في لبنان إلى «حزب الله حركة جهادية تتعاطى الشأن السياسي». لم يَسأل أحداً من الحزبيين أو الحوزويين حول هذه التحولات: فكّر منفرداً وبادر. طبعاً، هادي مطر نموذج سيئ من المبادرة، ولكن في ظل انعدامها في مؤسسات حزب الله المتحجرة، هادي إنجاز. أتت المبادرة الفردية لتُربِك الحزب وقيادته، وهو الذي عَوّد شبابه على عدم المبادرة حتى تأتي الأوامر عبر الهرمية المؤسساتية.
هادي مطر هو عدوي ومثيلي في الوقت عينه: المبادرة الفردية المتفلتة من تحجّر مؤسسات حزب الله، ولكن النقيض من حيث فهم العالم ومعنى المبادرة؛ وسأحارب أمثاله أينما كانوا خصوصاً بين المغتربين اللبنانيين الشيعة.
لو طلبتُ من هادي مطر أن يعدّ لي دراسةً تكون نتيجتُها أشكلةً سياسية لهوية الاسكوتلانديين الإيرلنديين في آبالاشيا في شرق الولايات المتحدة، أو أشكلةً لهوية الاسكندنافيين في الغرب الأوسط، أو الإنكليز والألمان في كاسكاديا غرب البلاد، أو المورمون في يوتاه، لما حرّك ساكناً. هناك ما هو أبسط وأسهل: احمل سكينك واهجم. طبعاً، هو نفسه سيُعيد مشاركة منشورات حول الحرب الناعمة على شعوب الشرق الأوسط.
أجمل ما في هادي مطر أنه تشرّب روح بيئتنا من دون توجيهٍ من أحد، فلم يَطلب منه أحدٌ أن يَهجم حاملاً سكيناً. وهذا يجب أن يكون مثار خشية لدى حزب الله؛ إذا أردتَ أن تَعرف جوهر ما يَكتسبه الفرد في هذه البيئة، فهادي مطر هو الإجابة. إحدى أهم النقاط التي يجب التركيز عليها هي مسألة التنوّع في بيئة حزب الله؛ لا يهمّ ماذا فعل هادي مطر، المهم كم يمثّل هادي مطر ضمن حزب الله؟ هل هناك أنماط أخرى من المبادرة، أم هذا هو شكل المبادرة الوحيد الذي يمكن توقّعه؟ على حزب الله أن يسعى ليس فقط إلى المحافظة على التنوّع في بيئته بل خلقها حتى. بالتالي، المشكلة في هادي ليست العمل بذاته بل في أنه يمثّل الكثير مع غياب المبادرة عند بقية الشباب.
حين أتى هادي مطر إلى لبنان، لم يجد بيئة تناقِش ما يَجري في الولايات المتحدة، وتناقش الأدوات المنهجية لتفكيك الولايات المتحدة (فيتمّ استيعابه في دراسات «استغرابية» على نمط تلك الاستشراقية)، أو لديها الحدّ الأدنى من فهْم تشكُّل المجتمعات الأخرى، أو حتى القدرة على فهم المجتمعات الأخرى داخل لبنان. يهاجِر الشيعي اللبناني إلى الخارج، يُترَك لمصيره، نعم يُرسَل إليهم شيخٌ يؤمّ فيهم الصلاة، أمّا حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفكرية فهي خارج دائرة الاهتمام كلياً. في فنزويلا مثلاً، كان اللبنانيون بحاجة خلال أوجّ الأزمة المالية هناك إلى شخص مقتدر تقنياً في الاقتصاد والعلوم البنكية يُرشدهم، فهم في الأغلب هاجروا في سنّ مبكرة لم يكملوا سنيهم المدرسية حتى، وفي عملهم التجاري تعوّدوا على طريقة معينة في جني المال، وحين حلّت الأزمة المالية، تبدّدت الطرق التي اعتادوها وكانوا بحاجة إلى مشورة تقنية. طبعاً، لم يكن هناك أحدٌ يُجري دراسات على وضْع الجالية اللبنانية في الخارج، والتي هي مصدر الدعم المالي الرئيسي للبنان، ودراسات اقتصادية للمجتمعات التي هم فيها، وكانت النتيجة خسارة اللبنانيين هناك الكثير من المال. ثقافياً كذلك الأمر، ليس هناك استفادة من المغتربين اللبنانيين في فهْم المجتمعات التي هم فيها وتحويلها.
ما يَجعل الأمور أقل وطأة على النفس وأكثر تخفيفاً للأسى، أن الوضْع في روسيا والصين ليس أفضل حالاً؛ ألكساندر دوغين مثلاً في روسيا، أو أن أفضل الدراسات الماركسية تُجرى في الجامعات الأميركية وليس الصينية، الأمر نفسه مع سياسات السكان الأصليين هنا في أميركا اللاتينية، الذين يُعيدون نفس إشكالات التجربة الفكرية في إيران، إيجاد كوزمولوجيا أصلانية، وتكون النتيجة دائماً نصوصاً ركيكة حول إبستيمولوجيا موازية لما يُسمى الغرب.

* باحث لبناني