المثير، بل لعلّه الأكثر إمتاعاً، في ردود الفعل على وفاة الملكة البريطانية ليس حجم الشتيمة والسخرية التي تعرّضت لها (أو كما عبّر صديق، أنه لا توجد شخصية شُتمت بهذا العدد من اللغات كإليزابيث)، بل كان مراقبة صمت كثير من الناشطين العرب ذوي الهوى الغربيّ. وجدوا أنفسهم في معضلة، من جهة هم يريدون الترحّم والتعبير عن الارتباط الوجداني بها، أي بما تمثّل، ومن جهة أخرى هم يعلمون أن الهيمنة الإعلامية الغربية واحتكارها لعملية تشكيل تصورات المجتمع الإنساني ترهلّت بشكل لا يمكنهم بعد اليوم الاحتماء خلفه.هذا الترهّل في الصورة المعنوية للغرب هو أبرز ما يمكن استخلاصه من موت إليزابيث. بمعنى أنها لو فارقت الحياة قبل، ولنقل قبل عقد من اليوم، لكانت ردود الفعل مختلفة، حيث حصلت زحزحة واضحة لمصلحة صوت الناس أمام مليارات الدولارات المصروفة حول صورة التاج البريطاني وشكله. وبعيداً عن محاولات الهروب الليبرالية نحو نزع الصفة والدور السياسي لملكة بريطانيا، فالدور السياسي لهذا المنصب يتخطّى ويتميّز عن دور أيّ حكم ملكي آخر في أوروبا وخارجها.
يكفي، مثلاً، أن تقول «الملكة» في أي بقعة في العالم، والكل سيفهم أن الإشارة هي للملكة البريطانية، فبشكل ما جميعنا خاضعون لحكم جلالتها. وليس القصد هنا السيطرة السياسية المباشرة التاريخية والمعاصرة للاستعمار البريطاني، بل من الناحية المعنوية. الدور السياسي للملكة الإنكليزية لدى القوى الغربيّة هو في أنها شخص يجسّد ويرمز معنوياً لنموذج هذه القوى وقوتها وتمايزها عن باقي الشعوب. كيان العدو، مثلاً، يعي هذا البعد، ولذلك يأسف على عدم زيارتها له، الأمر ذاته مع المستعمرات البريطانية، فزيارة الملكة واستقبالها لإحدى الشخصيات السياسية أو الملوك من عالم الجنوب، أشبه ما تكون بطقوس التماس الشرعية الدولية وحجز مكانة في العالم المحكوم غربياً. هي هنا «ملكة الملوك». الأمر ذاته، تاريخياً، حينما كانت تزور مستعمراتها كعمليّة ضخ أهمية معنوية للطبقة العميلة والمتعاونة مع المستعمر الإنكليزي. بل إن أهم الدلائل على هذا الدور أن الأميركيين، الذين شكّلوا السردية التاريخية لهويتهم كاستقلال عن الحكم الملكي البريطاني، دأبوا على الحرص على الحفاظ على المكانة الملكية البريطانية، والمسألة هنا أبعد من اختزالها ببروتوكولات العلاقات الدولية الثنائية بين لندن وواشنطن.
يمتد الأمر أكثر من ذلك، للخطاب الشعبي؛ نلاحظ فقط الجموع العربية المردّدة لخطاب الأسى على الملكة، الأعم الأغلب من هؤلاء الشباب والشابات، ردودهم عفوية، وقائمة على الولع بالمثاليات من السرديات، فهم مجرد مستهلكين ومستلبين للدعاية السياسية عبر رمسنة المُلك والملكة والأمير والأميرة كفكرة في الأدب الأوروبي، بل والعالمي، وصولاً إلى أفلام ومسلسلات اليوم. سواء أن تقول مونيكا في مسلسل «Friends» إنها لن تستخدم الصحون المميزة إلا حين تزورهم «الملكة»، وبشكل مباشر عبر مسلسل «The Crown»، أو الفيلم المستفز والمهين لكرامة أي إنسان «Victoria and Abdul». بالإمكان الجزم أنه لم يوفّر لحكم ملكي في تاريخ البشرية هذا الحجم من البروباغندا السياسية، والمسألة ليس فقط أنّ هذا الحكم شكّل أكبر إمبراطورية ملكية من ناحية الجغرافيا تاريخياً، بل للتقاطع المعاصر بين مصلحة الرأسمالية مع هذا الحكم الملكي واستغلال الأولى له.
تجسّد الملكة البريطانية تكثيفاً لتاريخ الهيمنة الغربية ونموذجها وشكلها، ولذلك فإنّ العلاقة بها وبموتها ليست مسألة أذواق


المسألة، من ناحية تاريخية، هي أن الممالك الأوروبية لم تسلّم سلطتها للبورجوازية الأوروبية الصاعدة، لتكتفي ببقاء الحالة الرمزية فقط، وتكبيلها بالدساتير، كما تريد الأدبيات السياسية السائدة تصويره. بل إن مناورة العوائل المالكة على التنبؤ الماركسي بزوالها، هو عبر ترويجها لذاتها كإحدى المنافع والأدوات للبورجوازية لكي تحكم استغلالها. كربط الملكية بالهوية القومية للأمم الأوروبية لتكون إحدى أدواتها للتعبير عن ذاتها. وهذا ما حصل، لذلك نجد الحصرية العرقية للارتباط العاطفي بالملوك الغربيين بالبيض (الأمر ذاته في معظم الملكيات كاليابان أيضاً). فحين يقال إنّ الإنكليز يحبّون ملكتهم، يقصد به المجتمع الأبيض، وحفنة من عبيد المنزل. ولذلك، فإنّ قلق العائلة المالكة من لون ابن ميغان، هو ليس فقط لأنهم عنصريون، بل لسبب برغماتي هو أن جزءاً من ديمومة ملكهم أنهم ممثّلون لهذا المجتمع.
في حالة الملكيّة البريطانية على وجه التحديد، هم ليسوا ممثّلين للبيض الأنكلو-ساكسون، بل تحدث هنا حالة من عولمة الملكية؛ هم ممثّلون للامتياز الأبيض والغربي على طول الكوكب. «الـ» ملكة، بيضاء أو أبيض، ذات تاج في مخيال سكان الأرض، والأميرة شقراء بعيون زرقاء، وهو ما يحاولون اليوم تغيير فجاجته عبر هندسة الصوابية السياسية.
باختصار، تجسّد الملكة البريطانية تكثيفاً لتاريخ الهيمنة الغربية ونموذجها وشكلها، ولذلك فإن العلاقة بها وبموتها ليست مسألة أذواق، بل هي إفصاح مادي لعلاقة طبقية. علاقتك، وردّة فعلك على موت الملكة، هي شكل علاقتك مع الاستعمار، من حجم ارتباط مصالحك الشخصية معه إلى حكم تغلغل الفكر الاستعماري في لاوعيك. وكذلك شتمك لها، هو عمل سياسي وتعبير عن كيف ترى الاستعمار الغربي. إليزابيث، كالديموقرطية الليبرالية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، أدوات سياسية للتعمية على السياسات الغربية، بل إنه يراد لشخص الملكة أن يمثّل كل ذلك في آن واحد. حتى الزهد، فأغنى أغنياء البشرية يريدون سرقة حتى مسألة تمثيل الزهد، كمشهد أن الملكة تقود سيارتها بنفسها، وتارة أخرى تأتي مشاهد البذخ بالتيجان والصولجان كنوع من التعبير عن المهابة والقوة.
في حديثه عن شتيمة الإنكليز يعبّر كنفاني: «إذ من منا لم يستخدم مقلاع لسانه ذات يوم لرجم الإمبراطورية بحجر؟». نعم، مثّلت ردة الفعل واختلافها الجغرافي وشكل تعبيرها الثقافي أحجاراً رمزية من أحفاد المستعمَرين على الإمبراطورية البريطانية، وامتدادها الأميركي اليوم. وبطبيعة الحال، كانت المشاهد مدعاة للسعادة لوهلة، ولكن، من الصعب تجاوز غصة مفردة وردت في خطاب إعلان قصر باكنغهام لموت إليزابيث، بأنها ماتت «بسلام». فمن مظاهر الظلم والامتياز الأبيض في الكوكب موت هؤلاء في أفخم المشافي، عار موت شارون على السرير سيظل على جبين العرب لقرون، وبوش الأب، وجون ماكين... واليوم ملكتهم إليزابيث. هؤلاء كائنات تعيش فوق العدالة البشرية في جنة الديموقراطيات الاستعمارية ما لم نقتصّ ونطبّق العدالة بأنفسنا.
بين أعوام 1867 و1901، شغل كرزون ويلي منصب قائد الجيش البريطاني في الهند، وعرف بإجرامه في الشعب الهندي. عاد ويلي إلى لندن بعد كل ما اقترفه ليتنعّم بالتقاعد والموت «بسلام» على السرير الأبيض. هذا تحديداً ما رفضه المناضل الهندي دهینغرا؛ لحق ويلي إلى لندن ليقتص لشعبه فاغتال ويلي عام 1909 واعتقل على إثر ذلك. وأثناء محاكمته، وقف دهینغرا قائلاً: «لا أريد أن أقول شيئاً دفاعاً عن نفسي، لكنني فقط أريد إثبات عدالة فعلي، فبالنسبة إليّ، ليس لدى أيّ محكمة إنكليزية الحق في توقيفي وسجني، والحكم بالإعدام عليّ». تاريخنا العربي أيضاً يزخر بالنماذج التي بإمكاننا الانطلاق والبناء عليها، لتشكيل أدواتنا «لرجم الإمبراطورية»، من سكين سليمان الحلبي عام 1800، حتى عام 1956 حيث شكّل أهالي بور سعيد أجمل النماذج حينما تناوبوا بين من واجه المظليين الإنكليز ببنادقهم، وبين من خطّوا على جدران مدينتهم بأن ملك الإنكليز «Whore».

* كاتب عربي