قد لا تجد مثالاً على مشكلة السعادة أفضل من تجربة الولايات المتحدة الأميركية. منذ بداية العقدين الأخيرين على الأقل، ازداد بشكل مستمر كلٌّ من متوسط دخل الأسرة، ومساحة العيش المخصّصة لكل فرد، ومتوسط العمر المتوقّع، وازداد الإنفاق الفيدرالي على التعليم والتدريب والتوظيف والخِدمات الاجتماعية، مع تضخم هائل وغير مسبوق في صناعات الترفيه والإعلام والألعاب الإلكترونية. إلا أنه في مقابل هذا التحسن في نوعية الحياة، يستمرّ مؤشر السعادة الخاص بالولايات المتحدة بالانخفاض التدريجي منذ عام 1988 حتى اليوم.قد تجد العديد من التفسيرات لهذه المفارقة المحبطة، لكن حين يتعلق الأمر بالجانب البيولوجي تحديداً، فإنّ توقعاتنا حول السعادة أعلى بكثير مما يمكن أن تمنحنا إياه طبيعتنا البيولوجية.

«طاحون» اللذة
هل سيجعلك مليون دولار أكثر سعادةً؟ عام 1978، أجريت دراسة للإجابة عن هذا السؤال بالتحديد، وأظهرت أنّه بعد أشهر قليلة، لم يكن الأشخاص الذين ربحوا جائزة اليانصيب أكثر سعادة من غيرهم، بل أصبحوا يشعرون بمتعة أقل في ممارسة النشاطات الاعتيادية. تقول نظرية «مستوى التكيّف» إنّ مستوى سعادة الفرد، مهما تأثّر بارتفاعات وانخفاضات مرحلية جرّاء التجارب الحياتية المختلفة، يعود إلى المستوى الأساسي الذي كان عليه. لكن لماذا؟
كمحرّك للسلوك «الجيّد»، دماغنا معدٌّ ليكافئنا على بعض السلوكيات، من خلال نظام مؤلّف من مناطق دماغية تتواصل في ما بينها عبر إفراز ناقلات عصبية أبرزها «الدوبامين». لكن كيف يتمكّن الدماغ من استخدام موارده المحدودة في تمثيل قيمة المكافآت اللامحدودة التي قد تمنحنا إياها الحياة؟ الجواب هو التكيّف.
أولاً، حين تستمر بالحصول على المكافأة نفسها بشكل متكرر، تنخفض كمية الدوبامين في دماغك، وينخفض معها شعورك بالمكافأة، إفساحاً في المجال لمكافآت جديدة. ثانياً، كمية الدوبامين المُفرزة لا تعتمد على القيمة المطلقة للمكافأة بحد ذاتها، بل على قيمتها نسبةً إلى الخيارات الأخرى المحتملة. هذه العوامل تؤدي إلى عودة كل منا إلى مستوى سعادته الأصلي بعد فترة من الزمن.
ومع مصادر المتعة غير الطبيعية، تأتي مستويات غير طبيعية من التكيّف. هذا يعني أنه، على عكس ما تَعِدنا به ثقافة الاستهلاك، فإن الحصول على أشياء جديدة لن يشعرنا بالسعادة، بل بالرغبة في الحصول على المزيد منها. يلخّص الكاتب الأميركي روبرت سابولسكي ذلك بقوله إن «مأساتنا الإنسانية المتكررة هي أنه كلما زاد استهلاكُنا، أصبحنا أكثر جوعاً... ما كان بهجةً غير متوقّعة بالأمس، هو ما نشعر أننا نستحقه اليوم، وهو ما لن يكون كافياً في الغد».

النصف الفارغ من الكوب
أدمغتنا ليست معدّة للتكيّف مع المكافآت فحسب، بل أيضاً لتضخيم المخاطر في مقابلها. تحتلّ المعطيات السلبية مساحة كبرى في أدمغتنا مقارنة بتلك الإيجابية، إذ إننا نميل إلى توجيه انتباهنا إلى المعلومات السلبية وإلى التفاعل معها وتخزينها واسترجاعها أكثر مقارنة بتلك الإيجابية، وهذا ما نسمّيه بـ«الانحياز السلبي».
يَظهر هذا الانحياز منذ الأشهر الأولى من الحياة. الأطفال بعمر سبعة أشهر يوجهون انتباههم إلى الوجوه الغاضبة أكثر من تلك السعيدة. مع عمر السنتين، يبدأ الأطفال باستخدام الكلمات التي تعبّر عن مشاعرهم (مثل «سعيد»، «حزين» و«خائف»)، لكن بعد السنة الثالثة، فيما يبقى عدد التعابير الإيجابية ثابتاً لديهم، يتضاعف عدد التعابير السلبية. يميل الأطفال أيضاً في حديثهم عن الذكريات البعيدة إلى استرجاع الذكريات السلبية أكثر من تلك الإيجابية، مع احتفاظ أدقّ بالتفاصيل.
من منظور تطوّريّ، خدم هذا الانحياز أسلافنا في البقاء على قيد الحياة في بيئة مليئة بالمخاطر. بذلُ الجهد الإدراكي تجاه ما تخبّئه الطبيعة من مصادر الخطر أولى منه تجاه مصادر المكافأة، لأن كلفة تجاهل الأولى أعلى بكثير من كلفة تجاهل الأخيرة. لهذا السبب، «فضّلت» الطبيعة أن نكون كائناتٍ خائفة وقلقة على أن نعيش حالة استقرار واطمئنان، ولهذا السبب أيضاً، طوّرت أدمغتنا منطقة مميزة وخاصة بمعالجة «الخوف»، هي اللوزة الدماغية (amygdala)، من دون وجود منطقة موازية لمعالجة «السعادة» مثلاً!

ما البديل؟
بالنظر إلى المفارقة الأميركية، يبدو أن الانحدار في مستوى سعادة الأميركيين يحصل ليس بالرغم من إعطائها قيمة كبيرة في السياسات العامة وفي الثقافة الشعبية (إعلان الاستقلال الأميركي تضمّن السعي نحو السعادة كـ«حقٍّ غير قابل للانتزاع»)، بل، إلى حد بعيد، بسبب ذلك. تتأكّد هذه الفرضية من خلال دراسات وثّقت كون الأشخاص الذين ينظرون إلى السعادة كهدف لهم يشعرون أنهم لا يمتلكون وقتاً كافياً في يومهم ويكونون أقل سعادة من غيرهم!
وهنا تكمن المشكلة: ما بين تصميمنا الطبيعي من جهة، وتوقعاتنا الوردية اللاواقعية – التي عزّزتها ثقافة الاستهلاك، والطفرة في نصائح المساعدة الذاتية، ومثاليات وسائل التواصل الاجتماعي – من جهة أخرى، فجوة مليئة بالإحباط وملاحقة السراب. إذاً، هل أخطأنا في اعتبار السعادة هدفاً لنا؟
سَلْ فلاسفة مذهب «اللذة الأخلاقي» (ethical hedonism)، فسيقولون لك إنّ السعادة المتأتية من السعي نحو اللذة وتجنّب الألم هي الخير الوحيد الذي يجب السعي إليه. سَلْ عالم أحياء تطوري فسيقول لك إننا لسنا مصمّمين لأن نكون سعداء في الأصل، بل للبقاء على قيد الحياة والتكاثر. سَلْ أرسطو قبل مئات السنين فسيقول لك ليست السعادة غاية الإنسان، بل «اليودايمونيا»، أو الازدهار الإنساني، الذي يتحقق بممارسة الفضيلة بصرف النظر عن الحالة العاطفية.
السعادة في نهاية المطاف مُنشأ نفسي (psychological construct)، اكتسب معانيَ مختلفة مع اختلاف العصور والثقافات، لكن يبدو أنّ النسخة الأميركية منه، المبنية على الهوس بالسعي نحو حياة متخيّلة من الإيجابية المطلقة، بدأت آثارها الجانبية بالظهور.

مراجع

- https://www.theatlantic.com/family/archive/2020/10/why-life-has-gotten-more-comfortable-less-happy/616807/
- https://doi.org/10.1037/0022-3514.36.8.917
- https://doi.org/10.1126/science.1105370
- Sapolsky, R. M. (2017). Behave: the biology of humans at our best and worst. New York, New York: Penguin Press.
- https://doi.org/10.1037/0033-2909.134.3.383
- https://doi.org/10.3758/s13423-018-1436-7
- https://doi.org/10.1037/a0022010
- https://www.vox.com/first-person/2016/10/4/13093380/happiness-america-ruth-whippman
* صحافي، باحث في علم الأعصاب