من المستحيل الهروب من الانطباع بأن الناس يستخدمون عادة معايير خاطئة للقياس، تقلّل من قيمة الحياة الحقيقية، كما يقول سيغموند فرويد في حديثه عن الحضارة. تلك المعايير التي بات من الضروري أن لا تقاس بالأبيض والأسود، بل بالألوان الرمادية، كما يرى إدوارد سعيد، على الأقل في القضايا الحاسمة، إذ يقول: «إذا أردت إعلاء شأن العدالة الإنسانية الأساسية فلا بد أن تطبّق ذلك على الجميع، لا أن تقتصر على اختيار أولئك الذين يسمح لك بهم الطرف الذي تنتمي إليه، وتسمح بهم لك ثقافتك أو أمّتك». لكن هذه المقاييس تشكّل تحدّياً كبيراً مع فورة قيم الشعبوية، واختلالات الاشتباك القيمي، ومتلازمة الاضطرابات الهوياتية وعصر الخداع المؤكد، وزمن الإحباطات السائلة. أصبح الحديث عن الأخلاق ومنظومة القيم جدلاً قابلاً للتنمّر السياسي مع الدخول إلى عالم متناقض يفتقد لروح النقد. الغرابة أنه حتى في العصور التي عاش فيها العالم غياهب الظلم ومعارك التنوير وسباق الجهل وتعطيل العقول، لم يختف الحد الأدنى من الأخلاق الديبلوماسية التي أقصد بها في هذا السياق إظهار الاحترام أو الحد الأدنى على الأقل من الاحترام للبشر وقيمه الإنسانية أياً كانت مصادر هويته الداخلية والخارجية، لنكون أمام اختلال ميزان التعاطف العالمي والسياسي مع القضايا العالمية والإقليمية، كما يحصل اليوم في مقارنة الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية مقارنة بقضية أوكرانيا على سبيل المثال، أو كما حصل في الأزمة السورية وغيرها من القضايا الأخرى مثل العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا، مع أن الحرب وفلسفتها هما ذاتهما في أي مكان. وكأن هناك معايير فلسفية خاصة قديمة تتجدد في عصر علوية الإنسان الغربي ومجتمعات الشمال على مجتمعات الجنوب، ودول الغرب الأطلسي على غيرها، انعكست عبر ازدواجية المعايير وانتقائية التعاطف والميول السياسية.
المشاعر والعاطفة هما مدفأة أمام ثلج السياسة، هكذا دائماً قيل، ولهذا يجب على كل صانع قرار أن يحذر من تلك البضاعة في أن تسيطر على متجره، لأنها ستؤدي دائماً إلى سوء الفهم في منتجاته وقصر النظر السياسي، لكن بالنتيجة لسنا روبوتات ننتظر غيرنا ليبرمجنا، أو ننتظر مهندساً لكي يقوم بوضع خوارزميات حياتنا.

سلطة الأخلاق الديبلوماسية
يبقى السؤال هل هناك سلطة أخلاقية في عالم السياسة؟ سواء السياسة التي يراها ابن رشد بأنها صناعة الخير العام، أو تلك التي يراها ماكبريد بأنها فن جمع القاذورات، أو كما يقول أنيس منصور بأنها فن السفالة الأنيق. وعبر هذا الجدل التاريخي، ما زالت هناك سياسات تأخذ، أو تدّعي على الأقل، بأنها أقرب إلى الاعتبارات الأخلاقية، وأنها ضمن معاييرها الأساسية لسياستها العامة، تحت عناوين متعددة، منها ما يتعلّق بحقوق الإنسان، أو الأخلاق الكانطية، أو الأخلاق الإسلامية، أو الاعتبارات المسيحية، وغيرها. النقاش مفصّل في الفكر السياسي لبحث موضوع النفعية أو الشرائع الأخلاقية بقيود فرضت قديماً على أصحاب السلطة التي تجبرهم أحياناً على التحلي ببعض صفات هذه الوصفات دون أن تترك مساحة لحرية الاختيار عبر تقاليد وموروثات دأب عليها السلوك السياسي أياً كان مصدره، المعبد أو المؤسسة الدينية أو الصيرورة الاجتماعية. مثلاً اليسار، ومعلّمه ماركس، يريان أن الأخلاق هي صناعة الأقوياء لاستعباد الضعفاء والمعدمين، وأن القيم الأخلاقية من إنتاج الأقوياء اقتصادياً في المجتمع، وكما ذهب نيتشه إلى أن الرحمة والإحسان والصبر هي حيل ابتكرها الضعفاء ليضحكوا بها على الأقوياء. أو في إطار النظرية الليبرالية في العلوم السياسية، والتي طرحها فرانسيس فوكوياما في كتابه الصادر حديثاً «الليبرالية وسخطها» (Liberalism and Its Discontents) الذي عدّ الخلاف عنصراً أساسياً في أي ديموقراطية ليبرالية لكن هناك مجموعة أساسية من القواعد التي لطالما اعتُبرت غير قابلة للتفاوض، مثل حرية التعبير. لكنّ هذا الإجماع لم يعد من الممكن اعتباره أمراً مفروغاً منه كما كان سابقاً، بسبب موجات الشعبوية القائمة على الكراهية وظهور جماعات تضع حقوق مجموعات أقليات معيّنة فوق حقوق الأفراد بدرجة متفاوتة، وأن تلك الليبرالية النقية غير المغشوشة لم تتح لها أبداً فرصة للتألق، كما يقول فوكوياما. ومع كل هذه المساحة النظرية، يبقى العامل الأخلاقي يحارب من أجل إيجاد موطئ في عالم يعيش إطار الشك وانعدام اليقين، حيث تستحيل رؤية اللعبة كاملة، كما يصعب تحقيق رأي عام منظّم قادر على التغيير، مثل الحراك السياسي الاحتجاجي المنظّم، حيث سرعان ما يتفكك كما يذهب عالم الاجتماع الشهير زيغمونت باومان في كتابه «الأخلاق في عصر الحداثة السائلة».

العاطفة والعلاقات الدولية
يقول إيمانويل كانط: «وحدها السياسة التي تعيش في الظلام وتصطنع الدهاء تحاول عبثاً الانفكاك من سلطة الأخلاق، لكن سرعان ما يفتضح أمرها متى ألقت الفلسفة ضوءاً على مبادئها». ولهذا، يعيد هذا الجدل حديث الفلسفة المتكرر عن العاطفة والعلاقات الدولية، وعن مواجهات العقلانية مع سياق السلطة، إذ إن بضاعة العواطف، بما تحمل من تقلبات وجوامح، تعيق التفكير الرشيد في أكثر الأحيان، لكن في النتيجة السياسة والعلاقات الدولية هما نتاج بشري، والبشر لا يمكن فصلهم عن العواطف والمشاعر في الحياة الاجتماعية أو السياسية. ولهذا لا يمكن الفصل بينهم وهم في المحصلة داخل بوتقة واحدة، وحتى إن العاطفة في الأخير لا يمكن فصلها عن قاطرة العقلانية حتى إن هربت قليلاً في بعض المحطات. كما يعود سؤال العاطفة إلى الواجهة مع سؤال الهوية، والسؤال الأخير مع فقدان الثقة المتزايد في عالم اليوم، حتى كادت العاطفة أن ترسم ملامح خاصة لجيوبولوتيك العواطف، بحثاً عن الأمل والخوف وحالة عدم اليقين المتزايدة في خارطة العالم المملوءة بالصراعات والحروب والعنف والدمار.
كما يذكر الأكاديمي البحريني نادر كاظم في كتابه «لماذا نكره؟»، الهوية قائمة على الكراهية، وإن تكنولوجيا التواصل أصبحت أداة تعمل على نقل الكراهيات بشكل سريع وأكثر تأثيراً


أمام صراع الجبابرة في العلاقات الدولية لن تبقى مساحة للمشاعر أو الاعتقادات العاطفية، حتى في لغة الاستعارات ما بين توصيف «رقعة الشطرنج» و«ألعاب الملاكمة» وبقية الرياضات، لا يمكن وصف هذا العالم بعلاقة الحب أو مشاعر رجل مع خليلته. وبالتالي فإن السياسة الواقعية هي دراسة للتعقيدات والتداخلات وليست بالأماني والأحلام والرومانسية والغضب. لكن الذي يحفّز هوية العاطفة للتضامن، أو الجفاء، أو الشعور المتراكم بالخيبات، أو الغضب الذي قد يؤدي إلى تزايد الكراهيات بين الدول والجماعات والأمم، ويصبح أشبه بالتدفق الحر للعواطف مثل سمفونية العولمة التي تعزف في كل مكان وحيثما تشاء، هو حرب الهوية، والتحولات الموازية لها. وكما سمّيتها في كتابي «الجيل الثاني للديبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية»، بأن الحرب القادمة هي حرب الهوية وستكون قبلها براكين العاطفة السياسية التي تسبق التحضير لتلك الحروب. أقول هذا بالرغم ربما من عدم صمود العاطفة أمام نظريات الواقعية العقلانية أو البنيوية.
تفاقم الأزمات والصراعات الجيوسياسية، أمام تيارات الكراهية الكوكبية والاعتداءات النيوليبرالية على الجوانب الأساسية للديموقراطية، ولا سيما أن رجال السياسة الجدد الذين يعتلون منابر أعوادها قائمة على العاطفة واستمالة الجمهور الغاضب أصلاً على كل ما هو موجود ليولد تيارات التعاطف، وبناء علاقات عاطفية وسياسية معادية ضد «هم»، وتهدّم أي جسر تواصلي بين «نحن» و«هم»، يسهم في صناعة بيئة راديكالية في نطاق الحكم والسلطة. ويضيف إليها رجالُ السلطة تضخيم قوى التعاطف العدائي من خلال رسائل متباينة، حيث إن بريق الكلمات البسيطة الشعبوية الملامسة لحاجات وأحلام الجماهير، غير العقلانية أحياناً، وضجة التصفيق المتلاحق في المسرح السياسي، كلّ ذلك يجعل الآذان صماء وفاقدة لذائقة سماع أي فكرة عقلانية. هذه الموجات تتلقاها البذرة الأولى للكراهية، المخبوءة في كوامن البشر. باتت العنصرية تختفي من سجل الجرائم المجتمعية. وكما يقول الشاعر المكسيكي ماريو بوخوركيس تكريماً للشاعر الإسباني لوركا:
«كلنا نملك ذرة من كراهية
وقلوبنا التي خُلقت لتُؤوي الحب
تقتل اليوم عضلاتها وتضخّ عصاراتِ الغضب اليائسة»
نعم أتفق مع ما يقوله مكيافيلي بأن أخلاق الفرد غير أخلاق الدولة، وسلوك الدولة يختلف عن سلوك الأفراد، ونسبية المفهوم الأخلاقي في الموسوعة الفلسفية وفي إطار الفكر السياسي، لكن ثمّة مساحات حمراء لم يسبق للعالم تخطيها احتراماً لمساحة الأخلاق الديبلوماسية التي تقتضي الحفاظ على مساحة احترام إنساني، ولو من باب إسقاط الفرض. وكما يذكر الأكاديمي البحريني نادر كاظم في كتابه «لماذا نكره؟»، الهوية قائمة على الكراهية، وإن تكنولوجيا التواصل أصبحت أداة تعمل على نقل الكراهيات بشكل سريع وأكثر تأثيراً. قد ينظر إلى العواطف في العلاقات الدولية على أنها مساحة لمحاولة فهم وتشكيل لوحة نوايا وتصورات ودوافع الفاعلين في الساحة الدولية، تعزز عملية صنع القرار في عالم السياسة الخارجية.

«الرأي العام العالمي»
إن البحث الإيكولوجي الأوسع للتعاطف أو عدمه يجعلنا نؤمن بأن مصطلح الرأي العام العالمي لا وجود له ومجرد مشاعر تتحكم فيها شركات العولمة الكبرى التي تسجل فيها ما يحلو وتغضّ النظر عن ما تريد، وسط صراعات شديدة، لتساهم في بناء تيارات التعاطف.
في علم النفس السياسي، تحتوي الصراعات السياسية على التعاطف والكراهية والغضب والسعادة والإذلال، وهي ممتلكات بشرية تتصدّر ساحات العلاقات الدولية، في حين أن المبادئ الأخلاقية، المعلنة على الأقل، تستدعي ردة فعل بشرية أو عالمية تجاه انتهاك ما يمسّ الكرامة الإنسانية، وهو ما يُعرف لاحقاً بالرأي العام العالمي، الذي بات مصطلحاً يحتاج إلى مراجعة بل إلى نفي لا يقل عن تهم انعدام ما يُعرف بالقانون الدولي.
لكن، في النهاية، سلطة الأخلاق ستفرض نفسها، وإن كانت المعركة مع التعاطف الانتقائي حرباً ليست هينة، في زمن البرمجة الإنسانية، ولكن كما تقول الروائية الراحلة رضوى عاشور: «طوبى لمن يبقى على سلامة عقله وروحه في زمن الريح الصفراء وانتشار الطاعون».

* ديبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي