أما وقد بلغ الانهيار الشامل نهايته، انهيار الدولة ومؤسساتها كافة وانهيار المجتمع، فقد بات الوطن، الوطن ذاته على شفير الانهيار الشامل. إن ما وصلنا إليه لم تعد تنفع معه سياسة التمويه والتزييف والتأجيل والخداع، ولا سياسة التعامي ودفن الرؤوس في الرمال. ثمة حقائق عدة لا بد من الإقرار بها وإعلانها مهما كانت مؤلمة. ولا بد بعد ذلك من وضع خريطة طريق لإنقاذ الوطن تحشد من أجل تنفيذها كل الطاقات، وتتكاتف من أجلها جهود الوطنيين المخلصين بوعي وعزيمة وبروح مسؤولية عالية. أمّا الحقائق فأبرزها الآتي:1- لقد أكدت الانتخابات النيابية الأخيرة، بنتائجها الحقيقية وليس الظاهرة، أن التغيير من أجل إنقاذ الدولة والوطن لا يمكن أن يتحقق من داخل النظام السياسي القائم، ما يؤكد صحة ما تدعو إليه «الجبهة الوطنية» لجهة إقامة سلطة انتقالية تتولى جميع مهمات المؤسسات الدستورية، وتتولى وضع دستور جديد وطني لا طائفي يجري إقراره بالاستفتاء الشعبي يشكل الأساس لإعادة بناء الدولة والمجتمع وإنقاذ الوطن.
2- إذا كان تشكيل السلطة في لبنان، على مدى تاريخه الحديث، وبالتحديد منذ العام 1860، يتم وفق معادلات خارجية، إقليمية ودولية، فإن قراءة موضوعية للصراعات الدولية والإقليمية القائمة اليوم لا تنبئ بإمكانية توافر مثل هذه المعادلة في مدى منظور. وعليه، فإن الإنقاذ وإعادة البناء يجب أن يبدآ هذه المرة من الداخل، ومن خلال حركة شعبية وطنية تأخذ بيدها هذه المهمة التاريخية.
3- لقد أطلقت خلال السنوات الثلاث الماضية، وبالتحديد بعد حراك 17 تشرين، شعارات عدة كان أبرزها مطلب «الدولة المدنية». ما هي هذه الدولة المدنية، وماذا تعني؟ لا شيء. إن ما نحن بحاجة إليه هو إقامة الدولة الوطنية. هذا ما يجب أن نسعى إليه ونكافح من أجل تحقيقه.
4- خلال السنوات الثلاث الماضية، ومع تسارع وتيرة الانهيارات في جميع المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وتفشي الفساد وتحلل الإدارة وشلل القضاء، تكاثرت المطالب التي كانت ترفعها الحركة الشعبية في المجالات هذه كلها. غير أن الشعارات المطلبية هذه، رغم أهميتها، ولكن من دون رؤية سياسية إلى عملية التغيير وإعادة بناء الدولة ظلت شعارات تتبدد في فوضى التحركات الارتجالية الغاضبة.
5- إن الأزمات المشار إليها كافة، وغيرها الكثير، لم تكن خيارات خاطئة للسلطة، ولكنها كانت بالأساس وليدة عجز السلطة عن اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات. ذلك بسبب المصادرة الخارجية للدولة، وارتهانها بجميع قراراتها للقوى الخارجية المتنفذة، وكذلك المصادرة الداخلية من قبل أمراء الطوائف. وعليه فإن نقطة البداية في معالجة هذه الأزمات هي إقامة الدولة الوطنية، المتحررة بقراراتها وخياراتها من أي ارتهان خارجي، ومن سلطة الطوائف بقادتها «الروحيين» والسياسيين.
6- نحن اليوم في «دولة فاشلة»، بكل ما تعنيه هذه الكلمة. وأول ما تعنيه هو سقوط الشرعية عن الدولة ومؤسساتها الدستورية كافة، رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب.
إن الشرعية عندما تسقط عن الدولة ومؤسساتها الدستورية فإنها لا تتبدد في الفراغ، ويجب أن لا تضيع في الفوضى، ولكنها تعود إلى مصدرها الأساسي أي الشعب.
في ضوء ما تقدم، وبالاستناد إلى وثيقة «الجبهة الوطنية» بتاريخ 20/9/2019، لا بد من قيام السلطة الانتقالية بالخطوات الآتية:
أ-وضع «إعلان دستوري» يحكم عملها خلال المرحلة الانتقالية.
ب- وضع صيغة دستور وطني لا طائفي، يجري إقراره بالاستفتاء الشعبي العام.
ج- بالاستناد إلى أحكام الدستور الجديد يعاد بناء الدولة بمؤسساتها الدستورية الثلاث: مجلس النواب فرئاسة الجمهورية فالحكومة.
ثمة قضايا ملحة لا تقبل الانتظار يتوجب على السلطة الانتقالية أن تعالجها، وهي:
أ- بسبب التشوه الفظيع في الوعي لدى الغالبية الساحقة من اللبنانيين، خصوصاً لجهة وضوح الهوية والانتماء، يجب على السلطة الانتقالية أن تعالج هذه المسألة الخطيرة من خلال مؤسسات التعليم، المدارس والجامعات، وكذلك من خلال وسائل الإعلام بحيث تمنع وبحزم كل إثارة للغرائز والعصبيات، وتدفع باتجاه تعميق الثقافة الوطنية ونشر الوعي.
ب- مكافحة الفساد والمحاسبة عليه واسترداد الأموال المنهوبة للدولة والمودعين. ذلك من أجل استعادة ثقة المواطنين بالدولة، وهو الشرط الأساس لشرعية الدولة. كما ولمعالجة حال الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي بتوظيف عائدات هذه العملية في خدمة مشروع وطني واضح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ج- إنجاز ترسيم الحدود البحرية بما يحفظ حق لبنان في ثرواته النفطية. وتحرير عملية استخراج النفط والغاز من أية مصادرة خارجية، وإجراء عملية استدراج عروض عالمية لاستخراج هذه الثروة.
وبعد... كيف نسقط سلطة الأمر الواقع التي أوصلت لبنان واللبنانيين إلى هذا الجحيم، وكيف نقيم السلطة الانتقالية التي تنفذ برنامج إقامة الدولة الوطنية؟
إن اللبنانيين، بكافة شرائحهم الاجتماعية، ومن خلال المؤسسات الحزبية والنقابية والفاعليات الشعبية، مدعوون للشروع بتنظيم تحركات شعبية، سلمية ورصينة وواعية، تسقط سلطة الأمر الواقع، وتنتج من خلال هذه التحركات السلطة الانتقالية القادرة على إقامة الدولة الوطنية الشرعية وفق البرنامج الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة.
إن «الجبهة الوطنية»، إذ تعلن وثيقتها هذه، تتوجه إلى اللبنانيين كافة للعمل معاً من أجل تحقيق برنامجها الهادف إلى إعادة بناء الدولة وإنقاذ لبنان.
وليكن شعارنا في هذه المرحلة:
إسقاط سلطة الأمر الواقع غير الشرعية.
إقامة الدولة الوطنية الشرعية.